خاص في الفن - رسالة كان (9): "إنها فقط نهاية العالم".. التجلي الجديد لمخرج القرن الحادي والعشرين

تاريخ النشر: الجمعة، 20 مايو، 2016 | آخر تحديث:
فيلم نهاية العالم

كل من شاهد الفيلم السابق للمخرج الكندي زافيه دولان "مامي Mommy"، الذي منحه جائزة لجنة التحكيم الكبرى في كان قبل عامين مناصفة مع أسطورة السينما جان لوك جودار، سيذكر جيداً عنصرين إخراجيين استخدمهما المخرج الشاب بصورة فريدة في السينما الحديثة. العنصر الأول هو حجم الكادر الذي ظل قرابة نصف زمن الفيلم مربعاً (بتساوي طول الصورة مع عرضها)، حتى حدثت انفراجة نفسية للبطل الشاب، فمد يديه حرفياً ليقوم بدفع جانبي الصورة حتى يتسع الكادر لنسبته الطبيعية، في خيار بصري يكاد يحدث للمرة الأولى في تاريخ السينما.

العنصر الثاني هو مشاهد الفوتومونتاج على خلفية موسيقية أو غنائية، وهو شكل ليس نادر الوجود بالتأكيد بحكم كونه الوحدة البنائية الرئيسية لمعظم أغنيات الفيديو كليب، وبحكم استخدامه أيضاً في الكثير من الأفلام التجارية، لكن وجوده يكاد ينعدم في الأفلام الفنية وعوالم المهرجانات، باعتباره حيلة إخراجية بدائية ورخيصة يقلل وجودها تلقائياً من قيمة الفيلم الذي يستخدمها.

دولان يقوم بتوظيف نفس الحيلة في فيلمه ليس مرة واحدة وإنما مرات عديدة، فتعلي قيمة الفيلم أكثر في كل مرة، وتصعد المشاعر عبر الفوتومونتاج الذي لا يكاد أحد يعرف له استخداماً سوى التعبير عن مرور الزمن.


فيما سبق تكمن قيمة دولان التي منحته قيمته السينمائية ووضعته ضمن مصاف أهم صناع السينما المعاصرين وهو لم يتجاوز السابعة والعشرين من العمر. في تخلص منه تراث قرن كامل من إساءة استخدام تفضي إلى تنازل: إساءة استخدام لأساليب سردية وابتذالها في أفلام ساذجة وفيديوهات رخيصة أفضت إلى تجنب هذه الأدوات تماماً من كل صناع السينما خوفاً من أن الوصم بالابتذال أو التفلزة.

دولان المولود عام 1989 يقف وحده متخلصاً من هذا التراث، رافضاً البقاء داخل أسره، متعمداً في كل مرة توظيف هذه الأدوات الشعبية في صناعة فن رفيع، وهو تحدٍ لا يقدم عليه إلا فنان ثقته في نفسه لا تقل عن موهبته.

تحد جديد وصعوبة مضاعفة

في فيلمه الجديد "إنها فقط نهاية العالم It's Only the End of the World" الذي يتنافس حالياً في المسابقة الرسمية لمهرجان كان يواصل دولان نفس التحدي، مع صعوبة أكبر هذه المرة تتمثل في تقديم فيلم مأخوذ عن مسرحية بنفس الاسم لجان لوك لاجريس.

إذا طلبت من مخرج تقديم نسخة سينمائية من مسرحية، سيحاول بديهياً تحويلها لسيناريو يستبدل فيه الأحداث بالحوار، وكثرة المشاهد بقلتها، وتحويل كل ما هو مسرحي أو تلفزيوني بحكم التواتر إلى ما نصفه بالسينمائي. هذا ينطبق على الغالبية العظمى، لكن مع زافيه دولان عليك توقع العكس تماماً: فيلم روائي طويل مكوّن من أثني عشر مشهداً رئيسياً فقط، كلها مشاهد ذات حوار مسرحي متصاعد، تتقاطع مع جسور من فلاش باك على الطريقة العتيقة (الصورة تعرض ما تقوله الكلمات حرفياً)، وبعض الحيل القديمة الأخرى من نوعية اللقطة القريبة مع خفوت صوت المتحدثين حول الشخصية للتعبير عن التفكير العميق وعدم الانتباه عما يدور حولها!


هذه تفاصيل نجزم أن 99 بالمائة من مخرجي العالم ـ الجيد منهم قبل السيء ـ لو نفذها ستكون النتيجة متواضعة بل ومضحكة، بينما لسبب ما يمتلك هذا الشاب الكندي القدرة على بعث الحيّل وكأنه يعيد اكتشاف السينما بعين القرن الجديد. هذا هو مخرج القرن الحادي والعشرين ليس لأنه أفضل من صنع أفلام فيه، وإنما لأنه أول صوت في القرن يقدم سينما غير مكبلة بقيود السابقين.

بناء مسرحي بحت

"إنها فقط نهاية العالم" يبدأ كأي مسرحية تحترم نفسها ببرولوج تقديمي prologue، بصوت البطل لوي (جاسبار أولييه) حول عودته إلى منزل عائلته بعد أثنتي عشرة سنة من الغياب، بينما نراه في الطائرة عائداَ، قبل أن يبدأ اللقاء مباشرة في المشهد الثاني الذي يمتد أكثر من عشر دقائق، وفيه تقديم حواري لشخصيات الأم والأخت والأخ وزوجته، يكشف عن تكوين كل منهم وطبيعة علاقته بالبطل العائد (يلعب الأدوار بإجادة ملفتة النجوم ناتالي باي وليا سايدو وفنسنت كاسل وماريون كوتيار).

مشاهد مواجهة ثنائية وثلاثية وجماعية، دراما تقوم على الحوار وحده، وحتى عندما تستخدم أسلوباً مما وصفناه (الفلاش باك أو خفوت الصوت المحيط)، تفعل ذلك لإثراء المشهد القائم لا للإحالة إلى شيء خارجه، وتوظيف لمكالمة تليفون يتلقاها البطل ليتحدث عن تخوفه من كشف حقيقة مرضه، وكأنها ممثل يقف على الخشبة ليلقي مونولوجاً عن مشاعره في تلك اللحظة.

باختصار هو نموذج لوحدة المكان والزمان يليق بنص مسرحي، لا تخرج فيه الشخصيات والكاميرا خارج منزل العائلة إلا في مشهدين الأول في زيارة البطل لبيته القديم كي يلمس المقتنيات التي شهدت أول علاقة مثلية له (الهاجس الدائم في سينما دولان)، والثاني في مواجهة مع الشقيق تدور خلال مشوار بالسيارة.

هذا مخرج يعلم جيداً أنه يقدم مسرحية سينمائية، لا يخجل من تلك الحقيقة ولا يحاول التظاهر كي ينفيها، بل يقوم بالتفتيش في أدواته عما يجعل سينمائيتها ليست مجرد وصفاً لوسيط العرض، وإنما خياراً حاضراً في كل لقطة وقطع، حضوراً يفوق أحياناً في هذا الفيلم قيمة النص نفسه.

فصحيح أنه سيناريو جيد يمسك بأشكال عديدة للشروخ التي قد تقوّض أي علاقة أسرية، لكن تظل محصلته الدرامية أقل مما يمكن لمخرج بهذا التوقد أن يعبره عنه، ربما لهذا لا يبدو "إنها فقط نهاية العالم" في مجمله بنفس ثقل "مامي" أو "لورنس أياً كان Laurence Anyways" النابعان من دولان شكلاً ومضموناً، لكنه يظل على مستوى الحرفة الإخراجية أحد أهم الأفلام التي عرضها مهرجان كان، من مخرج لا نبالغ إن قلنا أن سينما جديدة تولد على يديه.

اقرأ أيضا

خاص في الفن - رسالة كان (2) : "اشتباك".. الانحياز للحيرة في افتتاح نظرة ما

خاص في الفن - رسالة كان (1): "كافيه سوسايتي".. وودي آلان يفتتح المهرجان بفيلم اعتيادي ومتقن

بالصور- جورج كلوني ينقذ أمل علم الدين في مهرجان "كان"

إشادة نقدية عالمية بفيلم"اشتباك" ورصده لما بعد ثورة 25 يناير
صورة- ابن نيللي كريم وشقيقها يساندوها في مهرجان كان

خاص في الفن - رسالة كان (4): روائع المهرجان تبدأ في الظهور

رسالة كان (6): رسالة صادمة وفيلم رعب في يوم كان السادس

خاص في الفن - رسالة كان (7): "خوليتا".. بيدرو ألمودوفار يعود بفيلم ممتع في كان

خاص في الفن - رسالة كان (8): فيلم مهتز للأخوين دردان.. وزافيه دولان يواصل تجريبه