"122".. هل هي فعلًا خطوة للأمام؟

تاريخ النشر: الأحد، 6 يناير، 2019 | آخر تحديث: الأحد، 6 يناير، 2019
فيلم "122"

تُشكل العلاقة بين الفيلم وسياقه هاجسًا لا بد وأن يشغل حيزًا من تفكير أي ناقد يتعامل بجدية مع مهنته، فمن المفهوم والمسلم به أن الفروق التقنية والاقتصادية، بل والفنية، بين صناعتنا المحلية السائدة ومثيلتها في الغرب، شاسعة يصعب في أغلب الحالات ملؤها بالإسهامات الفنية لصناع الفيلم مهما بلغت مهارتهم. فروق تتعلق بتراث من تراكم الممارسات الخاطئة، وبحجم سوق محدود يحدد تلقائيًا سقف الإنفاق على الأفلام بناء على الحد الأقصى لما يمكن أن تحققه من مردود مادي.

الأزمة تظهر بجلاء في مواسم سنوية، كأن نعود من مهرجان كان بعد مشاهدة أفضل أفلام العام فنيًا لنتابع أفلام عيد الفطر، أو أن يتزامن مشاهدة الأفلام المرشحة للأوسكار مع موسم إجازة نصف العام. ليبقى السؤال: هل من المنطق ـ ولا أقول العدل ـ توحيد المقام والتقييم فقط بناء على البسط؟ وهل المعايير التي تنظر بها إلى فيلم نوري بيلج جيلان المنافس على السعفة الذهبية هي ذاتها التي تستخدمها عن التعرض لفيلم أحمد السقا الجديد؟ أم أن سياق الفيلم وأهدافه أمور يجب أن توضع في الاعتبار؟

بعض النقاد ـ لا سيما الشباب ـ حسموا الأمر بعدم متابعة السينما المحلية بالأساس، والاكتفاء بالتركيز على السينما العالمية المفضلة لهم، وهو حق أصيل لكل إنسان أن يختار ما يهتم به ويتابعه، غير أن عمل الناقد لا يكتمل دون أن يشتبك مع صناعته المحلية ويكون له أثر إيجابي قدر الإمكان على وعي محترفيها وجمهورها. وهذا بالمناسبة ليس رأيًا شخصيًا، فعند تأسيس جمعية نقاد السينما المصريين عام 1972 وضع مؤسسوها هذا الشرط لكل من يريد أن ينضم للجمعية ويصير "ناقدًا مصريًا": أن يكتب عن الأفلام المصرية.

المقدمة السابقة لا بد منها، بل يمكن اعتبارها الركيزة الأساسية لكل التساؤلات والأفكار التي يمكن طرحها بخصوص فيلم "122" للمخرج ياسر الياسري والمؤلف صلاح الجهيني والمنتج سيف عريبي، والذي افتتح عروض السينما المصرية لعام 2019.

عن الأبعاد الرباعية وأهداف جمهور السينما

الشق الأكبر من المواد الدعائية المصاحبة لطرح "122" في الصالات تشير لتفاصيل تقنية وإنتاجية تخص الفيلم، على رأسها كونه أول فيلم مصري يتم تصويره بتقنية الأبعاد الرباعية، وكون المعارك التي يتضمنها من تصميم خبراء شاركوا في صنع أفلام عالمية، وغيرها من الرسائل التي تقول للمشاهد بوضوح: فيلمنا هذا مختلف عن الصناعة المحلية، فيلمنا هذا تجربة لم ترها من قبل في السينما المصرية.

على هذا المستوى لا يمكن أن نُكذّب ما يقوله صناع الفيلم فيما يخص تقنية العرض؛ فهو بالفعل أول فيلم مصري يمكن مشاهدته بنسخة يتحرك فيها المقعد وتشم فيها روائح ويتلقى وجهك بعض قطرات من المياة. صحيح أن عدد الصالات المصرية المجهزة لعرض الفيلم بهذه الصورة لا يتجاوز الصالتين من بين حوالي 54 قاعة تعرض الفيلم، لكن تظل إمكانية التعرض لخبرة سينمائية محلية جديدة متاحة لمن يريد خوضها. ورغم أن قيمة الخبرة مرتفعة بشكل مفزع (سعر تذكرة ال4D في إحدى القاعتين تبلغ 235 جنيه للشخص الواحد!)، لكن كما يقول المثل الشعبي "الغاوي ينقّط بطاقيته".

أما بالنسبة لباقي القاعات التي تعرض الفيلم ستبقى الأبعاد الرباعية معلومة هامشية، ويظل تقييم الفيلم والتعامل معه مرتبطًا بالأساس الذي لا يتغير بتقدم التكنولوجيا: بالدراما والحكاية المشوقة والشخصيات الجذابة وقدر التفاعل بينهم، وهي أيضًا بالمناسبة وحسب المنطق الإنساني نفس العناصر التي سيبحث عنها مشاهد الـ4D، ففي النهاية هذا ما نتابعه في الأفلام حتى لو عُرضت بتقنية تشبه ألعاب الفيديو.

يوصلنا هذا للاقتناع بأن التقنية الجديدة إضافة جيدة بلا شك، فمن الإيجابي وجود منتج راغب في إدخال شكل سينمائي حديث للسوق المحلي. لكنها تبقى إضافة هامشية، لا علاقة لها بصلب ما يفتش عنه الجميع في الأفلام، ناهيك عن كون جمهورها لا يشكل سوى نسبة ضئيلة من جمهور الفيلم نفسه، لنعود مرة أخرى للدراما والتنفيذ، المضمون والشكل، وجهي العملة لأي عمل فني في العالم.

بين ماذا يصنع المصريون وماذا يشاهدون؟
"122"
إذن خطوة تقنية صغيرة للأمام بالنسبة للصناعة المحلية، لكنها خطوة تفرض على صناعها بشكل تلقائي الدخول في مقارنات عسيرة على المستويين الشكلي والموضوعي؛ فتفهم الناقد لفروق السياق التي تحدثنا عنها شيء، وما يشاهده الجمهور ومعايير حكمه على الأفلام شيء آخر، لا سيما في فيلم اختار طواعية أن يتجرد من سياقه المحلي.

بكلمات أكثر وضوحًا: الكوميديا المصرية لا تنافس إلا نفسها، لأسباب تتعلق بثقافة الجمهور ومرجعية الإضحاك، الجمهور لا يقارن بين الفيلم الكوميدي المصري ومثيله الأجنبي، بل يُفضل الأول في أغلب الأحوال حسبما تقول إيرادات شباك التذاكر منذ عقود. الأمر نفسه يتعلق بالأفلام الفنية / المستقلة / المهرجانات أو أي مصطلح آخر يُفضل البعض استخدامه، والتي يعد الاختلاف فيها عن السينما الأمريكية غالبًا عنصر جذب وعامل قوة يمنح الفيلم أصالته وقدرته على التعبير عن عالمه المحلي.

أما عندما يتعلق الأمر بفيلم إثارة / غموض / رعب فالأمر مختلف، لأن جمهور هذه الفئة تحديدًا مُطّلع يتابع جديد نوعه المفضل في السينما والمسلسلات العالمية التي صارت هي الأخرى منافسًا مذهلًا. هذا يخلق المأزق الرئيسي في "122"، وهو إنه حتى لو كان العمل متفوقًا على أقرانه في الصناعة المحلية، فإن منافسته ليست مع ما يُنتجه المصريون – والعرب بطبيعة الحال – بل مع ما يشاهدونه من أعمال تنتمي للنوع نفسه.

الحل في هذه الورطة يكمن دائمًا في وضع القالب العالمي في إطار محلي، فكلما كان العالم الفيلمي أكثر محلية كلما زادت فرص الفيلم أكثر في أن يعثر على مكان يميزه لدى الجمهور. يمكن الرجوع في هذا لفيلم سابق لمؤلف "122" صلاح الجهيني هو "ولاد رزق" الذي كان نموذجًا لصناعة فيلم ذو قالب أمريكي داخل عالم فيلمي شديد المصرية، مزجًا منح العمل فرادته ونجاحه، وقبل ذلك أعطاه مذاقًا خاصًا يصعُب ألا تعترف به حتى وإن لم يعجبك.

مُعلق في الفضاء.. أو أين تدور الأحداث؟
(تحذير: يمكن للفقرات التالية أن تكشف بعض التفاصيل عن حبكة الفيلم)

يقع صناع "122" في فخ قرار تأسيسي خاطئ هو تجريد عالم الحكاية الرئيسية للفيلم من كل ما يربطه بالبلد الذي تدور الأحداث فيه. ينطلق الفيلم ببداية تشويقية بمشهد فلاش فوروارد نرى فيه البطل نصر (أحمد داود) في مأزق مخيف، يليه تقديم بالغ العذوبة لعلاقة حب تجمع نصر بخطيبته الصماء (أمينة خليل)، وبشكل عام كل ما يخص داود وأمينة هو أفضل ما في الفيلم، سواء كدراما أو أداء تمثيلي. تقديم يرفع سقف التوقعات كثيرًا بما يحمله من تقديم لشخصيات من لحم ودم، يمكن أن تتخيل سيرها جوارك في الشارع. شخصيات تحبها وتتفهم دوافعها وعندما تتذكر مشهد البداية تفكر تلقائيًا في الطريقة التي وصل بها هذا الشاب المصري جدًا إلى هذا المأزق الأمريكي جدًا.

بمجرد وقوع الحدث الذي يجعل الأبطال يدخلون مغامرة الفيلم يتنازل الفيلم طواعية، وبصورة صادمة في تطرفها، عن كل ما كسبه في دقائقه الأولى. نجد أنفسنا فجأة داخل مستشفى غامض، مبنى ضخم في مكان غير مأهول بالسكان، خال تمامًا من المرضى، بل ومن الأطباء والممرضين بخلاف الخمسة شخصيات التي تخوض المغامرة مع البطلين أو ضدهما. المؤلف يحاول تبرير خواء المبنى بجملة حوارية تقول أن المستشفى تحت التأسيس، بينما لا يكترث المخرج كثيرًا وهو يختار مبنى ملائم للجو العام الذي يريده، فيختار مبنى قديم موحش من الخارج والداخل!
يتجاهل صناع الفيلم هنا قائمة من الأسئلة المنطقية التي لابد وأن ترد على ذهن كل من يشاهد الفيلم: أين يقع هذا المستشفى؟ من يملكه ومن يديره؟ لماذا يخلو من المرضى والأطباء بهذه الصورة؟ فإن كان واجهة لعمل غير شرعي فلابد لهذه الواجهة أن تعمل حتى تخفي ورائها ما يريد المجرمون إخفائه.

كيف يتعامل سارقو الأعضاء قانونًا مع ما يفعلونه؟ ما نفهمه هو أنهم يسرقون بعض الأعضاء من جثث موتى الحوادث، إذن لماذا لم يثبتوا ورود جثمان البطل الذي ظنوه ميتًا وتجاهلوا أسئلة حبيبته عنه بل وأنكروا وجوده في موقع الحادث؟ ألا تقوم الشرطة بمعاينة هذه الحوادث وإثبات ضحاياها؟ شاهدنهم يفعلون ذلك بالفعل، وحتى إن لم يفعلوا، أليس من المنطقي ألا يتم إخفاء الجثث وإنكار وجودها لأن هذا سيجعل من كل زوج أو أخ أو صديق تعرض لحادث ونجا منه فاكتشف أن من كان يركب جواره في السيارة اختفى تمامًا، حيًا أو ميتًا، سيجعله محققًا إضافيًا يثير الشبهات حول المستشفى / الوكر الإجرامي؟

هذه الأسئلة لا تتعلق بحكاية الفيلم نفسها، حكاية نصر وخطيبته الصماء، ولكن بما قبلها، بالنسق الطبيعي للجرائم التي تسبب الاعتقاد الخاطئ بوفاة نصر في الكشف عنها، بالطريقة التي كان الطبيب الشرير وتابعوه يعملون بها في حياتهم الطبيعية التي جعلت الرجل يمتلك حقيبة ممتلئة بمئات الآلاف من الدولارات، أي إنهم يعملون منذ فترة طويلة في سرية ونجاح لم يجعل حتى ضابط الشرطة المسؤول عن المنطقة والذي يعرف الطبيب بشكل شخصي، بل والطبيب الشاب الذي يزامله بشكل يومي، يشك في وجود شيء خاطيء في مستشفى بلا مرضى ولا أطباء!

التعثر الواضح في إيجاد سياق منطقي لطبيعة المكان الذي يدور فيه الجانب الأكبر من الأحداث يُشعرنا بأن هذا العالم معلقٌ في الفضاء، شخصياته ولدت للتو وتم تلفيق ماضيها الإجرامي فقط بما يسمح لأحداث الفيلم بالوقوع. هذا ليس فقط خطئًا دراميًا يُفقد الفيلم حميمية وصدق بدايته، ولكنها فجوات تُخلق ـ شئنا أم أبينا ـ في عقل المشاهدين، الذين كما قلنا سيقارنون تلقائيًا بين ما يرونه على الشاشة من أحداث ملفقة ـ وإن كانت جيدة التنفيذ ـ وبين عشرات الأفلام المنتمية لنفس النوع التي شاهدوها دون أن يلحظوا ثغرات كهذه، إما لإنها غير موجودة (في حالة الأفلام الجيدة) أو لأن العالم الفيلمي غريب لا يعرف المشاهد تفاصيله بما يكفل الإمساك بالعناصر غير المنطقية كما يفعل في عمل تدور أحداثه في مصر (في حالة الأفلام الأقل جودة).

تنفيذ جيد.. ولكن

ما يعوّض تلفيق التأسيس ويسمح حتى لمن رصده بتجاوزه قليلًا هو التنفيذ الجيد والإيقاع المتماسك للفيلم، هناك أحداث متتالية مترابطة ومُنفَذة بطريقة مقبولة مقارنة بالمعتاد في الأفلام المصرية، فعلى الأقل هناك وعي واضح بالحيز المكاني الذي تدور فيه الأحداث، تم تصميم مشاهد الحركة والمطاردات وفقًا له باستخدام المساحات والأدوات التي يمكن توفرها في مبنى مستشفى.

هي بالمناسبة المرة الثانية التي ينجح فيها المخرج ياسر الياسري في الخروج بفيلم لحيز الأمان التقني حتى وإن لم تكون المؤشرات تجعلنا نتوقع ذلك، فقد قدم العام الماضي فيلمًا إماراتيًا بعنوان "شباب شيّاب" كان مفاجئًا في بساطته وخفة ظله وجودة تنفيذه قياسًا للمعطيات والعناصر المكوّنة له.

لكن، لا يجب أن يوحي هذا بمثالية التنفيذ، فالفيلم يعاني من بعض الهنات التي ترتفع فيها أصوات المشاهدين بالتعليقات الساخرة (مؤشر ممتاز لمن يريد فهم الجمهور المصري) كأن تُركب الفتاة الصماء سماعتها في أذن ثم تضع هاتفها المحمول وتجري مكالمة من الأذن الأخرى، أو أن تكون سيارة الشرطة أمام نافذتها فلا تصرخ لتلفت الانتباه (فالأبكم بإمكانه إصدار صوت ملفت كما يعلم صناع الفيلم بالتأكيد)، أو أن تتلقى شخصية لكمات متتالية مصوبة لمسمار ضخم اخترق وجهها حتى نعتقد في وفاتها مشوهة الوجه، ثم نراها في مشاهد تالية تضع لاصقة طبية صغيرة على موضع الإصابة وكأنها كانت جرح خلال الحلاقة.

هذه الأخطاء تسفر عن نفس الشعور الذي تحدثه فجوات العالم الفيلمي: تذكرنا باستمرار أننا نشاهد فيلمًا مصريًا يحاول أن يُقلد الأفلام الأمريكية، لتكون الأزمة إنه مهما بلغت جودة المنتج المُقلد، فالطبيعي والمنطقي ألا يختاره المستهلك طالما توفر المنتج الأصلي بنفس السعر في القاعة المجاورة.

الأمر يقودنا للسؤال الرئيسي الذي يثيره "122": ما الذي يجعل المنتج المُقلد جذابًا ويمكنه من المنافسة؟ وهل يعني ما سبق أن على صناع الأفلام التوقف عن محاولات تقديم أفلام نوع تفوق جودتها المعتاد في السينما المحلية؟ بالقطع لا، لكن ما يجعل الجمهور يُقبل ويحب، والنقاد يدعمون، هو الموضوع بالأساس قبل كل الأمور الشكلية، هو أن يقترن التحسن التقني بنص يستفيد حقًا من زمانه ومكانه فيجعلهما مسرحًا لأحداث يمكن تصديقها والتفاعل معها دون أن تتسبب الثغرات المنطقية في تعطيل مسار التماهي مع ما تعرضه الشاشة.

"122" هو خطوة، صحيح إنها خطوة أصغر بكثير مما يعتقد صناعها أو ما يروجون له، لكنها تبقى خطوة تستحق التحية على قدرها، وتستحق أيضًا أن توضع كحالة للدراسة والتقييم، لعلها تكون مسافة تقطعها الصناعة المحلية نحو إيجاد منتج أفضل وأنجح يكفل للسينما المصرية الاستمرار في مساحات تختلف عن أفلام الخمسين مليون المتهافتة والأفلام الفنية التي لا يراها سوى صناعها ومن حولهم.

اقرأ أيضا

حوار (في الفن) أحمد فتحي: أنا متوتر.. فيلم "ساعة رضا" حلم تمنيت تحقيقه منذ 4 سنوات

قائمة الأفلام المنتظرة في 2019.. إحياء كلاسيكيات Disney وعودة "سبايدرمان" و"الجوكر"