خاص في الفن - رسالة كان (4): روائع المهرجان تبدأ في الظهور

تاريخ النشر: السبت، 14 مايو، 2016 | آخر تحديث:
طوني إردمان

بعض الأفلام تجُب ما حولها، تشعرك بإشباع يجعل مواصلة المشاهدة والكتابة حملاً نفسياً في ظل الرغبة في تذوق ما شاهدته على مهل، المتعة التي قد تسمح بها الظروف العادية لكنها في مهرجان مثل كان درب من الخيال، فالوقت لا يرحم وعلى من يريد أن يستفيد من وجوده في المهرجان السينمائي الأكبر ألا يتوقف كثيراً على أي شيء، بل ينتقل بسرعة من فيلم لآخر ومن مقال لغيره، متنقلاً بين كافة المشاعر والأفكار في غضون أيام معدودة.

كان من نصيبنا في يوم المهرجان الثاني أن نشاهد فيلمين مشبعين هما موضوع هذه الرسالة، أحدهما يتفوق في كل شيء، ويبدو بعد عرض خمسة أفلام من المسابقة الرسمية هو الأفضل والأوفر حظاً في نيل الجوائز، والثاني عمل خاص جداً يحمل من الخبرة والإحكام ما يجعله يعلق بالذاكرة.

كوميديا مارين أدي المبهرة

العمل الأول والأفضل بين كل ما شاهده كاتب السطور في المهرجان حتى لحظتنا هذه هو الفيلم الألماني "طوني إردمان" Tony Erdman للمخرجة مارين أدي، التي نالت عام 2009 جائزة لجنة التحكيم الخاصة في مهرجان برلين عن فيلمها السابق "كل شخص آخر Everyone Else"، وتعود بعد سبع سنوات بفيلم جديد ربما يكون له حظ في الجوائز نهاية المهرجان، في ظل الإعجاب الهائل الذي حظى به من حضور العرض الصحفي، والذي بلغ قيام الجمهور أكثر من مرة بالتصفيق بعد مشاهد داخل أحداث الفيلم وكأنهم يتابعون مسرحية أو عرضاً غنائياً.

على صعيد الحكاية يبدو فيلم أدي بالغ البساطة: مدرس موسيقى متقاعد بوهيمي وخفيف الظل يقرر زيارة ابنته الوحيدة التي تعمل مستشارة لشركة عابرة للقارات في بوخارست، تقابله الابنة الجادة والمنشغلة بحياتها المهنية بجفاء، فيقرر أن يظهر بشخصية كوميدية ترتدي شعراً وأسناناً مستعارة وتفرض نفسها في كل مكان تتواجد فيه الابنة لتفسد الأمر عليها، من أجل أن يقنعها في النهاية بحبه وبخطأ أن تضيع عمرها في العمل دون الإمساك بلحظات السعادة.

الملخص السابق يوحي لمن يقرأه بالبساطة بل والركاكة، ويبدو مناسباً لفيلم كوميدي خفيف لا فيلم ينافس في أهم مسابقة سينمائية عالمية. لكن عبقرية المخرجة المؤلفة تكمن في قدرتها على تحويل هذه الحكاية البسيطة فيلماً بالغ الذكاء، سواء في أسلوبه الخالي من أي استعراض بصري والمشابه لسينما البلد الذي تدور فيه الأحداث (رومانيا)، أو في السيناريو المبهر القادر على تحويل حدث عادي إلى مشهد ممتع بإضافة تفاصيل صغيرة يمكن لأي مشاهد تخيلها في حياته اليومية، أو في استخدام الحكاية الكوميدية في حمل أفكار تبدو أعمق بكثير من أن تُطرح في فيلم كوميدي حول مفهوم الأبوة وقيمة اللحظة الراهنة للإنسان، وصولاً لنجاح الفيلم في تحقيق كل ما سبق دون أن يفقد قدرته على الإمتاع والإضحاك.

وإذا كانت مشاهد النهاية من أهم لحظات الأفلام فإن "طوني إردمان" يتمتع بواحد من أكثر مشاهد النهاية ذكاء وعذوبة وعبثية، نهاية لا تشرح لنا بالتفصيل ما يحدث لكنها تلمح بفكرة مؤلمة هي أن الأب وبعد أن نقل لابنته ولنا معها قيمة التمتع باللحظة الراهنة، فشل شخصياً في الإمساك بأول لحظة حقيقية تجمعه بالابنة على مدار زمن الفيلم.

ألم ريثي بنه الذي لا ينتهي

الفيلم الآخر الممتع لواحد من أساتذة السينما التسجيلية الآسيوية، الكمبودي ريثي بنه الذي كان أول شخص من بلده ينال جائزة مسابقة نظرة ما ويترشح للأوسكار قبل عامين عن فيلمه السابق "الصورة الضائعة The Missing Picture"، ليعود هذا العام بفيلم جديد بعنوان "منفى Exile" عرضه المهرجان ضمن برنامج العروض الخاصة.

فيلموجرافيا ريثي بنه تقوم بالكامل على تأريخ الألم الوطني الذي عاشته كمبوديا خلال أربعة سنوات تمثل الفصل الأكثر سواداً وغرابة في النصف الثاني من القرن العشرين. ففي 17 أبريل 1975 سقطت العاصمة الكمبودية بنوم بنه في أيدي ميلشيات الخمير الحمر، ليبدأ قائدهم بول بوت سلسلة القرارات الأغرب في التاريخ الحديث، لتحويل المجتمع إلى صورة راديكالية من الاشتراكية الزراعية.
تم تغيير اسم الدولة إلى كمبوشيا الديمقراطية، إخلاء عاصمتها وجميع مدنها الكبرى من البشر بصورة كاملة، إغلاق البنوك والأسواق وإلغاء نظام التداول بالعملة النقدية، التخلص من كل أشكال الصناعة الحديثة والتقسيمات الطبقية، إلغاء المحاكم والنظام القانوني، وتحويل الشعب بالكامل ـ بعد تغيير اسماء الجميع وإجبارهم على قص شعرهم وإرتداء ملابس موحدة باللون الأسود ـ إلى مزارعين في حقول الأرز الذي صارت زراعته النشاط الوحيد الذي يقوم به المجتمع الاشتراكي المثالي، لتصدّر كمبوديا مئات الآلاف من الأطنان من محصول الأرز، مقابل مبالغ مالية لا يعرف عنها المواطنون شيئا بحكم إلغاء العملة، بينما يحصلون على وجبات من الأرز تبلغ أحياناً ربع كيلو جرام يُقسم يوميا على أفراد أسرة كاملة.

القرارات المخيفة السابقة هي مجرد رؤوس لأقلام لا أكثر، بينما ما حدث على أرض الواقع أكثر جنونا مما يمكن وصفه بالكلمات، ويكفي أن نظام الخمير الحمر الذي لم يصمد بالطبع أكثر من أربع سنوات سقط بعدها حكمهم نهائيا، تمكن خلال هذه الفترة الوجيزة من إبادة أكثر من ربع الشعب الكمبودي.

ريثي بنه قدم الحكاية السابقة عدة مرات بمداخل مختلفة امتازت في كل مرة بطابع بصري مميز (على رأسها الدمى الطينية التي روى من خلالها في "الصورة الضائعة" غياب الصورة كلياً خلال السنوات الأربع التي كانت الكاميرات ضمن الأشياء الممنوعة فيها)، وها هو يعود لينسج بحس تجريبي واضح عملاً شعرياً حول فكرة المنفى داخل الوطن، ليس بمعناه النفسي ولكن بصورته في الحرمان من ممارسات يومية تتعلق بالطعام، في بلد وصل فيه الجوع للتلذذ بأكل جلد حيوان ميت، ووصل جنون حكامه إلى منع المواطنين حتى من استخدام ملاعق الطعام باعتبارها رمزاً للإمبريالية، حتى أن من تمكن من الحفاظ على ملعقة معدنية قديمة كان يعد ـ حسب الفيلم ـ صاحب ثروة كبيرة!

أفلام بنه دائماً تشعر من يشاهدها بالرعب مما قد يصل إليه هوس البشر بأي فكرة، وفي "منفى" يحول هذا الرعب إلى لقطات كابوسية يبدو بعضها وكأنه لوحة سوداوية حول ثلاثية الجوع والجنون والموت، مع تعليق صوتي شعري، يوجز الأمر المؤلم ويربطه بعصرنا الحالي في أحد الجمل عندما يقول أن المواطن الكمبودي بعد ثورة الخمير الحمر "صار عليه أن يختار بين النقاء والرعب، والحقيقة أن النقاء هو الرعب".


اقرأ أيضا
خاص في الفن - رسالة كان (2) : "اشتباك".. الانحياز للحيرة في افتتاح نظرة ما

خاص في الفن - رسالة كان (1): "كافيه سوسايتي".. وودي آلان يفتتح المهرجان بفيلم اعتيادي ومتقن

بالصور- جورج كلوني ينقذ أمل علم الدين في مهرجان "كان"

إشادة نقدية عالمية بفيلم"اشتباك" ورصده لما بعد ثورة 25 يناير
صورة- ابن نيللي كريم وشقيقها يساندوها في مهرجان كان