"الضيف"- عن اختيار الدكتور يحيى ومأزقه.. وفرصة ابراهيم عيسى المُهدرة

تاريخ النشر: الثلاثاء، 15 يناير، 2019 | آخر تحديث:
فيلم "الضيف"

لا يمكن التعرض لفيلم "الضيف"، أحدث أفلام المخرج هادي الباجوري المعروض حاليًا في الصالات المصرية، دون التطرق لفيلم "مولانا" للمخرج مجدي أحمد علي الذي عُرض قبل عامين بالضبط وفي نفس الموسم (نصف العام) ليحقق نجاحًا كبيرًا. فرغم اختلاف اسم المخرج في كلا العملين إلا أن ما يجمع التجربتين أكثر بكثير مما يفرقهما.

الفيلمان من إنتاج شركة آي بروداكشنز، المستمرة في تمويل أفلام ذات طرح جدلي داخل المجتمع المصري بإنتاج الفيلمين وبينهما "عيار ناري"، في تجربة انتاجية تستحق التحية لا نملك إلا أن نأمل في استمرارها. العملان من تأليف ابراهيم عيسى، الصحفي والإعلامي اللامع الذي يمكن بسهولة أن ننسب المحتوى الفكري للفيلمين إليه، قياسًا على ما يعلمه القاصي والداني من أفكار عيسى التي لم يتوقف عن طرحها منذ ما يناهز العقدين، وكلا العملين ذهني بالأساس، الموضوع والطرح الفكري هما أهم ورقة يمتلكها، وهما ما يبقى في الأذهان بعد مغادرة قاعة العرض.

إلا أن أهم ما يجمع الفيلمين على المستوى الدرامي هو ثنائية البطل / العالم، والتي لا يمكن طرحها بمعزل عن ابراهيم عيسى نفسه، الذي يستمر ـ منطقيًا ـ في إنكار كون أبطال سيناريوهاته هم انعكاسات له، بينما تؤكد الأعمال نفسها عكس ذلك، ليس من منطلق تشابه التفاصيل والمواقف الحياتية، فبالتأكيد حياة الشيخ حاتم والمفكر يحيى التيجاني تختلف عن حياة مؤلفهما، وإنما من منطلق كون كلا البطلين صورة لما يمثله ابراهيم عيسي من وضع فكري ومجتمعي: صاحب الأفكار التي صقلتها الخبرات فصار عليمًا بما في مجتمعه من عوار وفساد، والذي يقف طواعيةً في مواجهة عالمه لأن تكوينه النفسي يأبى ألا أن يرصد ويحلل ويعلق وإن دفع الثمن.

حاتم ويحيى.. الاختيار يُفرق

الشيخ حاتم والدكتور يحيى إذن هما صورتان لمأزق لا يعاني منه مؤلف الفيلم فحسب، وإنما يمكن أن نسحبه على القطاع الأكبر من أصحاب الرأي في حاضر صار معاديًا للآراء طالما لم تأت ملتزمة بالسائد، حذرة تمشي على الحبل وتمارس ألاعيب الحواة. حاتم ويحيى صورتان متشابهتان في المنطلق وفي خفة الظل واللسان اللاذع والذهن الحاضر، يفرقهما الاختيار ثم يعود المأزق فيجمعهما.

الفارق في الاختيار واضح: حاتم يقرر أن يخوض اللعبة ويخرج منتصرًا بأي ثمن، يجد لنفسه المبررات الأخلاقية الكافية التي ينسجها باستخدام ذكائه، ليمرر لنفسه قول حق يُراد به باطل "مهما فعلت فسأظل أشرف من كل الآخرين". اختيار يقوده لصعود سريع كان من المنطقي بأن يصل بصاحبه لأن يكبر أكثر مما ينبغي، يخترق فيحترق. حاتم بالطبع بطل إيجابي بمعنى تمريره لأفكار معتدلة وردّه على مدار زمن الفيلم على الكثير من الادعاءات الشائعة، لكنه أمام نفسه مذنب باع روحه للشيطان، وحكاية "مولانا" الأثرى دراميًا كانت تطهره من هذا الذنب.

أما الدكتور يحيى التيجاني، المُفكر التنويري الذي "تُعين الحكومة له حرسًا باليمين وتجرّه إلى ساحات المحاكم باليسار"، فهو النسخة الشريفة من الشيخ حاتم، النسخة الدون كيشوتية التي اختارت أن تحارب طواحين الهواء وتدخل معركة تلو الأخرى لا لشيء إلا للتعبير عمّا تؤمن به. بناء شخصية كان السبب الرئيسي في جعل الشخصية تبدو أضعف على المستوى الدرامي، فهو شريف أكثر مما ينبغي، صادق وطريف وصاحب حجّة وحضور وتبدو كل المشاكل التي يواجهها آتية من الخارج لا من الداخل، وهو بالقطع نوع شخصيات أقل في القيمة الدرامية من التعقد الروائي لشخصية حاتم. صحيح أن الشخصية تهتز للحظات عند كشف أمر يتعلق بماضيها البعيد، لكنها تظل هزة طفيفة، لا تؤثر على موقف وقوة اللحظة الراهنة، ولا تتعارض في حقيقة الأمر مع صورته الحالية، اللهم إلا فيما يتعلق بإخفائه هذه الذكرى، وهو أيضًا ما يُمكن تفهم دوافعه.

يحيى وحاتم.. المأزق يُجمّع

إلا أن المأزق الذي يجمع الشخصيتين، والذي أعترف بأن ذكره قد يكون من باب التأويل المُفرط الذي قد لا يحتمله العمل، هو حقيقة كونهما جزءًا من اللعبة، ترسًا داخل تروسها. كلاهما قبل دخول معركة جدلية ممتدة بطول العمر، يعرف معرفة اليقين إنها لن تسفر عن أي تحسن في العالم المحيط. لا فارق هنا بين من دخل اللعبة ليفوز ومن دخلها ليُعبر عن نفسه، في النهاية المحصلة واحدة بأن كل منهما أخذ دورًا داخل المسرحية الكبرى الهزلية، دورًا مركزيًا صارت حياته تُعرّف من خلاله، يشاهده الجميع بشغف أو بدون، ثم ينصرفون لمتابعة حياتهم وكأن شيئَا لم يكن.

هذا العمق الذي ربما قد يكون قد خرج بشكلٍ غير واعٍ هو ما يُنقذ شخصية يحيى التيجاني من أن تكون نموذجًا أحاديًا للمثقف التنويري العبقري كامل الشرف والنزاهة الذي يستخدمه صناع الفيلم بوقًا يردد أفكارهم. قد يبدو يحيى بفعلًا بهذا التماسك، لكنه في النهاية فشل في تحقيق رسالته للعامة والخاصة: المحيطون به والمتعاملون معه بشكل يومي يصدقون في داخل نفوسهم ما يقال عنه، ابنته لم تقرأ كتابًا له طيلة حياتها، أما خريجي الجامعة الأمريكية، الاثرياء المثقفين الحاصلين على أعلى الشهادات مثل خطيب الابنة المنتظر، والذين يفترض نظريًا أن يشكلوا الجانب الأكبر من جمهوره، فحدّث ولا حرج.

الدكتور يحيى العلماني مثله مثل الشيخ حاتم الإسلامي، كلاهما يحرث البحر وهو يعلم، يكافح لتغيير العالم وهو فاشل حتى في تغيير أهل بيته، يعيش ويتكسب من العمل الدعوّي ـ كلٌ على طريقته ـ وفي قرارة نفسه يوقن بأن الدعوة بلا مريدين، محض استمناء!

البُعد السابق يجعل من الفيلمين، على خفة ظلهما الواضحة، أعمالًا عدمية الجوهر. صحيح أن الرجلين يربحان كل السجالات المنطقية التي يخوضانها تقريبًا، إلا أنه لو كان الجدل المنطقي هو المعيار لما كنا قد وصلنا إلى هذا الحال، ولما كان ابراهيم عيسى بعد آلاف الساعات التلفزيونية لا يزال في حاجة لخلق شخصيات ينسج لها دراما كي يُعبر من خلالها عن آرائه وأفكاره.

الصنعة ومأزق النص

كل ما سبق يتعلق بالمضمون، وهو أمر منطقي في ظل كون "الضيف" مثل "مولانا"، أفلام موضوع ومحتوى. غير أن السينما هي فن بصري ودرامي بالأساس، السؤال الأهم فيه ليس "ماذا تقول؟" وإنما "كيف تقول؟"؛ وهو ما يجعلنا نعترف بالمأزق الذي كان على المخرج هادي الباجوري أن يتجاوزه خلال تنفيذ نص "الضيف".

بالمناسبة الباجوري اختيار غريب جدًا يأتي من خارج كل التوقعات لاسم المخرج الذي يمكن أن يُنفذ فيلمًا بهذا المضمون؛ فإذا كان مجدي أحمد علي مخرج "مولانا" هو أيضًا كاتب وناقد ومفكر نشاطه السياسي سبق احترافه السينما، فالباجوري هو أبعد ما يكون عن نموذج الفنان المُفكر، هو صانع أفلام متميز تقنيًا، مهموم بقضية الشكل وكيف يمكن أن يجمع بين الجودة والجماهيرية، انتقل في أفلامه "واحد صحيح" و"وردة" و"هيبتا: المحاضرة الأخيرة" بين أنواع مختلفة لا يجمعها سوى انشغال المخرج بالصنعة أكثر من أي شيء آخر.

الباجوري البعيد تمامًا عن عالم الأفكار المجردة كان عليه أن يتعامل مع نص مكوّن من مناظرة فكرية ممتدة تشغل أكثر من نصف مساحته، مناظرة لا يُمكن حتى وصفها بالمسرحية ـ وإن حملت السمات المكانية للمسرح ـ في ظل كونها تدور بين شخصين لا يطرأ عليهما أي تغيير أو حتى تعديل طفيف في المواقف نتيجة الحوار. وحتى الهزات التي يتعرض لها الدكتور يحيى أمام ماضيه وأمام ابنته، تأتي كما أوضحنا سريعة بدون تأثير كبير على موقفه في الزمن الحاضر.

يختلف هذا كثيرًا بالطبع عن معادلة "مولانا"، والذي وإن كان هو الآخر فيلمًا ثرثارًا يُشكل الحوار العنصر الأساسي في تحريكه، إلا أنه مليئ بالأماكن والمواقف والشخصيات التي تُثري العمل تلقائيًا، على الأقل على المستوى البصري. لذا فمن العدل أن نُثمن إقدام الباجوري على إخراج هذا الفيلم البعيد تمامًا عن شخصه وعالمه، لا سيما وأن طبيعة النص لا تحتمل الكثير من التطوير، فإما أن يُقدَم على هذه الصورة أو لا يُقدَم على الإطلاق.

على هذا الصعيد يُمكن القول بأن هادي الباجوري قد نجح إلى حد بعيد في تنفيذ النص بالحد الأقصى من الديناميكية والقدر الأقل من الملل، وهي مهمة ليست بالسهلة كما أوضحنا، خاصة مع التفاوت الواضح في مستوى الممثلين الرئيسيين ومدخل تعاملهم مع شخصياتهم؛ فخالد الصاوي يأخذ الشخصية إلى مساحة كارتونية تميل للمبالغة في طريقة النطق والحركة خاصة في النصف الأول من الفيلم (أداء الصاوي تحديدًا يختلف جذريًا ويرتفع بشكل ملحوظ في النصف الثاني)، بينما ينتهج أحمد مالك أداءً باطنيًا يُمسك فيه بتمكن الصراع الداخلي بين حماس الفدائي في التعبير عن قناعاته ورغبته في إخفاء نواياه. والتفاوت في مداخل التمثيل مسؤولية المخرج بالطبع.

أداة المخرج الرئيسية في كسر الرتابة وخلق معادل بصري مقبول لشخصيات لا تتوقف عن الكلام كان جغرافيا المكان وديكور علي حسام؛ فيبدو من الواضح أن جهدًا كبيرًا قد بُذل في اختيار الفيلا التي تدور الأحداث فيها وتأثيثها. وسواء كانت هذه فيلا حقيقية أو عدة أماكن تم التصوير فيها لتُعطي الشكل النهائي للفيلا، فإن تصميمها وعلاقة غرفها ببعضها البعض (المكتب – قاعة الجلوس – الحمام – المطبخ – الحديقة والنوافذ المطلة عليها)، منح مساحة تنفس خلالها الباجوري ومدير تصويره مازن المتجوّل، خاصة وإنه تقسيم مرتبط بتصاعد الدراما وليس فقط بتغيير المكان لمجرد التغيير.

فرصة ذهبية مهدرة

تتبقى الإشارة لأن الفيلم، والذي جائت محصلته النهائية جيدة بشكل كبير رغم العيوب الخلقية للنص التي يمكن تجاوزها تارة لنجاح المخرج في التعامل معها، وتارة لفهم سياقها وربطها بمشروع المؤلف الفكري والسينمائي، قد أهدر في مسار انشغاله بالمناظرة المشتعلة بين المفكر التنويري وضيفه الشاب فرصة ذهبية للتعبير عن مأزق شخصية طازج وفكرة ذكية كانت تستحق المزيد من الاعتناء.

بطلة المأزق هي الابنة فريدة، والتي يمكن اعتبارها وفق المعايير الدرامية الشخصية الوحيدة التي تخوض رحلة نفسية حقيقية خلال الفيلم. رحلة لن نخوض في تفاصيلها حتى لا نحرق الأحداث لكنها تطرح سؤال كيف يُمكن أن تكون حرية الاختيار الكاملة مأزقًا إنسانيًا لصاحبها، ليس بالمعني النمطي للفساد الأخلاقي وإنما بكون الإنسان ـ أي إنسان ـ يحتاج في لحظات من حياته أن يكون مُسيّرًا لديه مرجعية يرتكن إليها، بأن الاختيار قدر كونه حقًا وامتيازًا، هو أيضًا مسؤولية تُثقل كاهل حاملها.

هذه الأزمة ترتبط في مجتمعاتنا عادة بأبناء كل صاحب فكر مغاير، وليست هيئة وآراء بنات الكاتب الأعظم نجيب محفوظ وقدر تاثرهم بمنجزه الفكري والإبداعي منّا ببعيد. ووجودها في فيلم "الضيف" منحنا أملًا لحظيًا في خروج الفيلم عن مسار المناظرة المتوقع نحو فكرة أكثر طزاجة، لكنه سرعان ما تركها دون تعميقٍ كافٍ، وساعد أداء جميلة عوض التي لا تزال تحترف منهج التمثيل عبر اللاتمثيل في مرور الفكرة الثمينة مرور الكرام.

إلا إنه ـ ورغم الملاحظات السابقة ـ يظل "الضيف" فيلمًا ضروريًا في موضوعه، شجاعًا في توقيته، جيدًا في تنفيذه، قد لا يكون هو الفيلم العظيم الذي سيبقى طويلًا في ذاكرة السينما، لكنه لا يفتقر للمتعة ولبضعة أفكار مهمة يمكن أن يحملها المشاهد معه خارج قاعة العرض.

اقرأ أيضا

"في الفن" يحاور أبطال فيلم "الضيف" أحمد مالك وجميلة عوض وشيرين رضا وهادي الباجوري.. هجوم محتمل وتعاون مع إبراهيم عيسى

اختيارات النقاد- ما هي أسوأ أدوار الممثلين العظماء على شاشة السينما؟