فيلم Girl.. عندما يخذلك جسدك في رحلة التحقق

تاريخ النشر: الأحد، 18 نوفمبر، 2018 | آخر تحديث:
Girl

مع ظهور شارة النهاية لفيلم Girl للمخرج البلجيكي لوكاس دونت، وقف الحضور في مهرجان كان السينمائي تحية لفريق العمل، وبدأت وصلة من التصفيق استمرت لعدد من الدقائق، يتخللها نظرات إعجاب ببطل الفيلم، فيكتور بوليستر، الذي فوجئ الجميع بهيئته الخارجية بعد مشاهدته لما يقرب من ساعتين في دور فتاة متحولة جنسيا على الشاشة.
وفي ختام الدورة الـ71، توج الفيلم بجائزة الكاميرا الذهبية التي تمنح لأفضل عمل أول في مختلف المسابقات. وقد أصبح فيما بعد، المرشح الرسمي لتمثيل بلجيكا في تصفيات أوسكار أفضل فيلم أجنبي لعام 2019.

الفكرة مستوحاة من مقال قرأه المخرج في عام 2009، يتناول قصة فتاة مراهقة ولدت في جسد صبي، لكنها تشعر بأنها أنثى، وترغب في أن تصبح راقصة باليه. من هنا جاءت الشخصية المحورية في الفيلم، "لارا" التي لا نعرف شيئا عن مرحلة اكتشافها لحقيقة هويتها الجندرية، أو عن حياتها قبل الانتقال لمكان جديد مع والدها وشقيقها الأصغر، للالتحاق بواحدة من أكبر مدارس الباليه في البلاد كي تحقق حلمها الذي يستنزفها نفسيا وجسديا.

نظرة مختلفة على عالم المتحولين جنسيا

اختار دونت اقتحام عالم المتحولين جنسيا من زاوية مختلفة عن السائد في مثل هذه النوعية من الأفلام. فعادة يتم التركيز على نظرة المجتمع للشخص المتحول جنسيا، والضغوط الهائلة التي يتعرض لها حتى يتم قبوله كإنسان عادي دون اضطهاد أو احتقار، مثلما هو الحال في الفيلم التشيلي A Fantastic Woman الحائز على جائزة أوسكار أفضل فيلم أجنبي لعام 2018. وقلما نجد أفلاما تتعرض إلى المرور بمرحلة التحول الجنسي في عمر المراهقة، وكيفية التعامل مع كل الصعوبات المتعلقة باكتشاف الهوية والذات، مثل الفيلم الإنجليزي Just Charlie.

الفرق بين Just Charlie وفيلم Girl، أن الأول اهتم بمرحلة مواجهة المراهق للعالم الخارجي، رافضا تحديد الهوية وفقا لنظرة الآخرين له. أما الثاني ركز على المعاناة الداخلية التي يعيشها مع جسده، والحرب التي يشنها على تكوينه الخارجي حتى يكون في حالة انسجام مع روحه.

يبدأ دونت فيلمه، من مرحلة خضوع "لارا" للعلاج الهرموني، قبل إجراء العملية الجراحية التي تحولها جسديا إلى فتاة، محاطة بدعم والدها ومساندته لها في كل خطوة. لا تبدو مشكلتها الأساسية مع المجتمع، فبالرغم من النظرات والتساؤلات السخيفة التي تتلقاها في بعض الأحيان، فإن غالبية الناس يعاملونها بطريقة مقبولة. لكن أزمتها الحقيقية مع نفسها التي لا تقوى على الصبر ولا تطيقه، وترغب في أن تكون صورتها الخارجية متماشية مع روحها في أسرع وقت ممكن.تقف أمام المرأة عارية بشكل روتيني، لتتفحص جسدها وتراقبه لعلها تشعر بأي تتطور ملموس، محاولة إخفاء العضو الذكري، الذي تنكره وترفض وجوده. لكن ما تراه لا يطمئنها، بل يزيد اضطرابها، وشعورها بالخذلان واليأس.

تُضاعف الفتاة من حجم صعوبة تجربتها، باختيارها للباليه، الذي يتطلب قواما أنثويا مثاليا وتدريبات شاقة وتركيزا تاما حتى الوصول إلى نتيجة جيدة. فهي تجد في الرقص ذاتها، وتشعر معه بتحققها، وتسعى إلى الموازنة بينه وبين العلاج. لكن جسدها لا يقدر على تحمل كل هذه الضغوط. يرفض الانصياع إلى محاولات الترويض المستمرة، ويئن من الألم، فيزيد من معاناتها.

صورة بألف كلمة

حرص المخرج على أن تكون الصورة هي المعبر الأساسي عن آلام "لارا" سواء النفسية أو الجسدية. ففي مشاهد التدريب، لا ينشغل بإظهار شكل الرقصات وإنما يركز على بطلته، ويتنقل بين لقطات قريبة لوجهها وقدميها، ليكشف عن إصرارها رغم الإعياء الشديد. وفي مشاهد الحمام عقب انتهاء التدريبات، نراها وهي تنفرد بنفسها لتحاول إزالة آثار الدم التي تغطي أصابعها، واللاصقات التي تداري بها العضو غير المرغوب فيه. الإضاءة أيضًا تلعب دورا في توصيل ذلك، ففي البداية تكون الصورة ناعمة مع شروع الفتاة في تأسيس حياة جديدة والسعي وراء حلمها، ثم تتحول إلى مظلمة مع زيادة حجم القلق حول جدوى العلاج وكثرة التدريبات التي تصل بها حد الانهيار. كل هذا يمهد لمشهد قاس في النهاية، لا تظهر فيه الدماء، لكنه يترك المشاهد في حالة من الصدمة والحيرة أيضًا.

حاول دونت من خلال الصورة أيضًا أن يدفع المشاهد إلى التفكير حول مفهوم الأنوثة وتعريفه. ففي أحد المشاهد، تخبر "لارا" طبيبها بأنها لا تشعر بكونها فتاة حقا، لكن كل شيء يشير إلى عكس ذلك. فهي فتاة جميلة تصفف شعرها، وترتدي ثيابا أنيقة يمتدحها الأقارب، وتنجح في إثارة إعجاب جارها في السكن. كما أن علاقتها بشقيقها الأصغر تنم عن إحساسها بالأمومة تجاهه، وكأنها تحاول تعويضه عن غياب والدتهما.

هذا الفيلم لم يكن ليخرج بهذه المستوى الفني دون الأداء الاستثنائي لفيكتور بوليستر في شخصية "لارا"، الذي استحق عنه جائزة أفضل ممثل في مسابقة "نظرة ما". ويعتبر ما قدمه على الشاشة أكبر دليل على أن الدعوات المطالبة باقتصار تجسيد شخصيات مجتمع "ميم" LGBT على الممثلين الذين ينتمون إليه دون غيرهم، غير منطقية على الإطلاق. فهو ممثل وراقص باليه لم يتجاوز عمره 20 عامًا، لكنه استطاع التعبير عن حالة نفسية وجسدية شديدة التعقيد.

فيلم Girl يعتبر من أهم أفلام عام 2018، لأنه يقدم تجربة سينمائية مميزة تمس القلوب وتثير الإعجاب بطريقة بعيدا تماما عن النمطية في التناول أو المعالجة. تضع صاحبها في مصاف المخرجين المهمين الذين ينتظر الجمهور أعمالهم الجديدة بفارغ الصبر.

اقرأ أيضا
كيف سرد فيلم Bohemian Rapsody حكاية فريدي ميركوري وفرقة Queen؟ انفصال درامي وتجاهل الميول الجنسية

اختيارات النقاد- ما هو أعظم فريق عمل سينمائي على الشاشة؟ اسم براد بيت يظهر في عملين