"عيار ناري".. عندما يتعارض الحق مع الحقيقة

تاريخ النشر: الخميس، 27 سبتمبر، 2018 | آخر تحديث:
لقطة من فيلم "عيار ناري"

بمجرد بدء شارة نهاية فيلم "عيار ناري"، أول أفلام المخرج كريم الشناوي، في عرضه العالمي الأول بمهرجان الجونة السينمائي الثاني، اندلعت عاصفة من الجدل حول الفيلم بين معجب مناصر وكاره يتهم الفيلم اتهامات مسيئة أغلبها لا يتعلق بمستواه الفني وإنما بخطابه السياسي، أو للدقة بما فهمه المهاجمون من خطابه، فهناك على الجانب الآخر من وجدوا أن الخطاب مقبول بل وجيد بالرغم من وقوفهم ـ سياسيًا واجتماعيًا ـ على نفس الأرضية مع الكارهين، ودائمًا في خضم أي جدل من هذا النوع، يتوه الحديث عن السينما لصالح ما سواها، وهو ما سنحاول تفاديه في هذا المقال، على الأقل حتى لا نكون سببًا في حالة سوء الحظ التي يعاني منها الفيلم.

سوء الحظ يكمن في أن المخرج عندما بدأ الإعداد لفيلمه الأول لم يكن يتخيل أن منتجي الفيلم الأساسيين سيكون أحدهما مؤسسًا لمهرجان سينمائي كبير (نجيب ساويرس مؤسس شركة iproductions ومهرجان الجونة)، والثاني سيتم تعيينه رئيسًا لمهرجان آخر (محمد حفظي مؤسس فيلم كلينك ورئيس مهرجان القاهرة)، وأن يتزامن ذلك مع إلغاء مهرجان ثالث مهم (دبي السينمائي)، ليجد كريم الشناوي نفسه مجبرًا على إقامة العرض العالمي الأول لفيلمه خارج مسابقة مهرجان الجونة، ليكتفي بالمنافسة على الآراء وليس الجوائز.

دوافع البطل مفتاحًا

تدور أحداث "عيار ناري" خلال إحدى المصادمات الدامية التي شهدتها مصر قبل سنوات بين المتظاهرين وقوات الأمن، حيث تدور الأزمة حول تقرير كتبه الطبيب الشرعي ياسين المانسترلي (أحمد الفيشاوي) يذكر فيه أن أحد المتظاهرين المتوفين (أحمد مالك) قد قُتل بعيار ناري من مسافة قريبة وليس من مسافة بعيدة مثل سبعة آخرين وصلوا المشرحة في الليلة ذاتها، ليتسرب التقرير للإعلام من خلال صحفية (روبي) فيصير بمثابة تشكيك فيما وقع للـ"شهيد"، تشكيك سرعان ما يتطور لصدام يدخله البطل مع مديرته التي توقفه عن العمل وتزوّر تقريرًا آخر لتُغلق القضية فيخوض ياسين رحلته لتقصّي الحقيقة وراء مقتل الشاب.

نقطة البداية تصنف العمل كفيلم تحقيق بوليسي بامتياز، وبناء شخصية بطله تجعل منه فيلم نوار film noir، فهو بطل سكير، منعزل، اكتئابي موصوم بما فعله والده وزير الصحة السابق المتهم بالفساد، وبنظرة الآخرين له عندما يتم الكشف عن اعتياده شرب الخمر خلال أوقات العمل، لتتوازي رحلة بحث ياسين الخارجية عن السر وراء مقتل علاء مع رحلة بحثه الداخلية عن مفاهيم الحقيقة والإيمان والتسامح، المفاهيم التي ينبغي أن يجدها كي يبلغ نقطة تفاهم مع والده، وبالتالي مع نفسه.

ياسين لا ينتمي لأي جبهة، ليس ثوريًا وإن كان يكره ما فعله والده، وليس معاديًا للثورة وإن صمم على التمسك برأيه الطبي ولو كان هذا الرأي يعني أن الشهيد ليس شهيدًا. ياسين ينظر للقضية من منظور شخصي بحت: يدافع عن سمعته ومهنيته وكفاءته، مغلقًا عينيه عن مفاهيم يستخدمها الجميع كالمسؤولية الاجتماعية والنقاء الثوري وتوازنات المنصب وغيرها. وفي هذا الفهم للدوافع المحركة لبطل الحكاية يكمن أساس تلقي ما وراء الحكاية، التي تُصر بعض الكتابات أن تجزأها وتفسرها بطريقة تدين صناع الفيلم، وكأن الإعلان عن رأي الفنان، أي رأي وأي فنان، قد يمكن أن يكون اتهامًا في حد ذاته.

الخطاب الثوري في الفيلم

(السطور التالية تحتوي على معلومات تحرق نهاية الأحداث)

يبدو التحذير السابق نوعًا من المبالغة المهنية في ظل تباري معظم من شاهدوا الفيلم الذي لم يُعرض تجاريًا بعد في كشف نهايته، وفيها ـ كما صار معروفًا للغالبية ـ نكتشف أن الشهيد ليس شهيدًا، وليس ثوريًا من الأساس، بل هو مجرد شاب فاسد قتله شقيقه بالخطأ عنده ضبطه وهو يضرب أمه ليجبرها على الاستغناء عن بيت الأسرة ليبيعه. وهو الاكتشاف الذي انطلقت منه كل الأصوات التي تهجو الفيلم وتصفه بتشويه الثورة والإساءة للشهداء وغيرها من التهم المتوالية، التي بالقطع كان صناع الفيلم يتوقعونها أثناء إنتاج فيلمهم.

الحديث من هذه الزاوية الضيقة يتجاهل حقائق أساسية في الحكاية، أولها أن علاء استثناء، هو الوحيد الذي قُتل بهذه الطريقة بينما جاء معه سبعة قتلى آخرين قتلوا من مسافة بعيدة، بما يُثبت ـ بمنطق الفيلم ـ أنهم قد تلقوا رصاصات القناصة. يتجاهل أيضًا حقيقة أن علاء ليس ثوريًا ولا متظاهرًا من الأساس، فهو لم يذهب ولو مرة واحدة للمظاهرات، وكل ما حدث أن شقيقه وأمه استفادوا من الوضع لإخفاء فعلتهم، بل أن حتى الحصول على الشقة والمحل لم يكن من بين أهدافهم ولا خططوا له.

حقيقة ثالثة يتم تجاهلها هي أن الشخص الثوري الذي يظهره الفيلم (الجار) هو الوحيد الصادق، الذي لم يكذب حول كونه لم ير علاء في المظاهرة، وأنه لم يكن من معتادي التظاهر بل كان يسخر من المتظاهرين، وأن أم علاء هي من أبلغته الخبر بشكل درامي كان لابد وأن يقنعه فيندفع في النضال من أجل حق جاره ورفيق نضاله (لاحظ أنه من سكان حي آخر وبالتالي لا يعلم حتى بما يخفيه أهل زينهم)، بل إنه لم يكذب في كونه قد أقرض جاره مبلغًا كبيرًا ليساعده في حياته. أي النموذج الثوري الحقيقي الذي يعرضه الفيلم هو نموذج ناصع، ربما أكثر من اللازم. صحيح أن الشاب يتحدث بطريقة سوقية و"يطجن" في الكلام، لكنه شريف تحركه قناعاته لا يتواني عن مساعدة جاره ومعاونة الصحفية عندما يقتنع أنها تبحث عن الحق.

هذه أمور لابد من وضعها في الاعتبار قبل التسرع بإصدار الأحكام وتوزيع صكوك الاتهام وملء القوائم السوداء، الفعل الذي كان أول مسمار في نعش أي حراك إيجابي شهدته مصر خلال السنوات الماضية. وقبل الصراخ بأن الفيلم يتهم الثوار، ربما يجد التفكير قليلًا فيمن هو الثائر في الفيلم.

الحق في مواجهة الحقائق

ما سبق توضيح يأتي من داخل الأحداث وبناء الشخصيات، لكن الأهم منه هو التفكير في الخطاب النهائي للفيلم، في تساؤل بالغ الأهمية يطرحه هيثم دبور وكريم الشناوي: إذا ما كان الأمران متعارضين، أيهما أجدر بأن ننتصر له، الحقائق أم الحق؟

قد يعتقد البعض أن الكلمتين مترادفتين، لكن "عيار ناري" يوضح لنا الفارق بينهم انطلاقًا مما أوضحناه عن شخصية البطل اللا منتمي، الذي يعيش اليوم بيومه ولا يشغله إلا أن يؤدي عمله بشكل صحيح، لا تشغله سوى الحقائق facts، البيانات بشكل مجرد، اتجاه الطعنة من أعلى أم أسفل، الرصاصة من مكان قريب أم بعيد، الموت جاء بهبوط في الدورة الدموية أم بالصدمة العصبية، وغيرها من المعلومات التي يملأها في تقريره بعد كل جثة يفحصها، والذي لا يشغله كثيرًا ما تعنيه للآخرين، "شغلتي أكتب اللي شفته في الجثة، مش أني أجيب حق الشهيد ولا أضيعه" يقولها ياسين في مواجهته الأولى لشقيق القتيل (محمد ممدوح).

ياسين يناضل طوال زمن الفيلم ليثبت إنه كان صحيحًا في رصد الحقائق، قبل أن يقوده اكتشاف ما حدث بالفعل، وإدراك كون موت علاء هو الحل الوحيد الذي وقع بشكل غير مرتب ليُنقذ هذه الأسرة من ابن عاق كاد ليدمر أربعة حيوات على الأقل في لحظة، ليفهم عندها ـ ونحن معه ـ أن الحقائق تختلف عن الحق justice، وإن ما حدث كان لا بد وأن يقع من أجل المصلحة العامة، من أجل حياة أفضل لبشر يستحقون الأفضل، وهي لحظة التنوير والنضج التي يمكنه عندها أن يتنازل طواعية عن جموده المهني، ويوافق على التغاضي عن بعض "الحقائق" من أجل الانتصار لكفة "الحق".

هنا يمكن القول بأن "عيار ناري" هو أبعد ما يكون عن اتهام معاداة الثورة، بل والمزايدة بوصفه بالفيلم الثوري، باعتبار الثورة ـ أي ثورة ـ هي حالة من الاحتقان تسفر عن انفجار يرتبط بأعمال معارضة للنسق والقوانين والقواعد السائدة بهدف تأسيس وضع جديد أكثر صدقًا ونبلًا واقترابًا من العدل، وهو ما يحدث بالضبط داخل هذه الأسرة البسيطة، والذي يمكن لمن يريد أن يسحبه على ما حدث في بلد كامل.

من يريد أن يصدق أن حدث شارك فيه ملايين كان حدثًا طاهرًا بلا دنس، لا تشوبه شائبة جريمة أو انحراف أو استفادة نالها من ألصقوا أنفسهم به، هو إما واهم أو كاذب. أما من استفاد من الوقت والتجربة ليعيد تقييم ما وقع، ويفهم أن أي هفوة قد حدثت هنا أو هناك، أو استفادة نالها أفّاق، أو جريمة نجى مرتكبها بسبب الوضع العام، هي كلها أعراض جانبية يمكن التغاضي عنها من أجل الصورة الأوسع والأسمى، فهو في الأغلب من نضج بشكلٍ كافٍ لتلقي مضمون الفيلم الصحيح دون تشنج أو اتهامات.

هفوات التوجه والسرد

هذه قراءة في دراما "عيار ناري" باعتبارها حكاية تقع لشخصية درامية أولاً، وسياقًا يحمل فكرة أو يطرح سؤالًا سياسيًا واجتماعيًا وأخلاقيًا ثانيًا. غير أن هذا الفهم لمحتوى الفيلم لا ينبغي أن يجعلنا نغفل ميزات الصنعة وعيوبها. ففي فيلمه الأول يثبت كريم الشناوي تمكنه كمخرج من سرد حكاية متماسكة فيها تصعيد درامي خارجي وداخلي، مطعّمة بلحظات إنسانية مؤثرة، ومقدّمة بهوية بصرية تمنح الفيلم روحه الخاصة.

لا ينبغي أيضًا ألا نلتفت لهفوات الفيلم، وعلى رأسها حيرته في تحديد توجهه وجمهوره المستهدف. هل يخاطب "عيار ناري" الجمهور العريض للفيلم التجاري أم الجمهور المتخصص لأفلام "الآرت هاوس" وعروض المهرجانات؟ تقييمي إنه لا يخاطب أيًا منهما.

نظريًا، ندعم طول الوقت أي محاولة لتقليل الفجوة بين ما هو فني وما هو تجاري، وملء الفراغ الكبير بين الأعمال الفارغة التي تجمع الملايين وأفلام المثقفين التي لا يشاهدها أحد. لكن على المستوى العملي لا ينجح "عيار ناري" في إيجاد مسافته الوسطى ونبرته التي تضعه في مكان بين هذا وذاك، بل تردد في كثير من أجزائه بين الأمرين: بين أفكار عميقة ومهمة منسوجة في سيناريو جيد وبين الرغبة في التأكيد وإثبات المعلومة وتكرارها مرة واثنتين وثلاثة على طريقة المسلسلات التلفزيونية.

كم مرة تحدثت الشخصيات عن فكرة الحقيقة وأوجهها المتعددة؟ وعلاقة رغبتنا في التصديق بها؟ لا تكاد ربع ساعة تمر دون أن يُفتح الموضوع نفسه بين شخصيتين، رغم أنه موضوع الفيلم وفكرته العامة الموجودة والواضحة حتى لو لم تقال بالكلمات. الأمر نفسه في مشهد الكشف الختامي، والذي نسمع فيه ما حدث ونراه في الوقت ذاته لزيادة التأكيد، بينما كان أحد الخيارين ليكون أكثر اقتصادًا وأعمق تأثيرًا، وغيرها من التكرارات التي تجعلنا نعتقد أن المخرج في تجربته الأولى ـ خاصة مع تعلقها بموضوع حساس ـ خشى ألا تصل فكرته أو تصل منقوصة للمشاهدين، لذلك صمم على التيقّن من وضوحها في كل فرصة ممكنة.

مشكلة أخرى سردية تتعلق بالسياق الزمني للأحداث، وهو في حالة الطبيب يقدر بالأيام التالية لكتابته التقرير وتحويله للتحقيق، بينما يبدو في حالة أسرة القتيل بحاجة لزمن أكبر كي تتسلم أسرة الشهيد شقة ومحلًا، ويتم تكريمهم عدة مرات حتى تنفد حجج الابن في تبرير غياب أمه عن تكريمها، وهو ما يستحيل أن يستقيم منطقيًا عن الحديث عن امرأة فقدت ابنها قبل أسبوع. وهو عيب يمكن معالجته قبل طرح الفيلم في القاعات بتعديل جملة هنا أو كلمة هناك. فمن الأقرب للمنطق أن تأخذ إجراءات الطبيب وبحثه فترة أطول على أن يُصدم المشاهد بأن حياة الأسرة قد تغيرت بهذا الشكل قبل أن تكمل الوفاة يومها السابع.

العيوب السابقة تمنع "عيار ناري" من مقارعة الجودة الكاملة سواء كعمل فني أو تجاري، وتبقيه في درجة نجاح تفوق المتوسط على الصعيدين، فهو فيلم مهم جيد الصنع، كثير من عناصره متميزة وعلى رأسها مخرجه الواعد، لكنه لا يُحلق بعيدًا بصانعه، فمن الصعب توقع تحقيقه نجاحًا تجاريًا كبيرًا في الصالات، ومن الصعب أن يرضي ذوق المشاهد المتمرس الخبير بالسينما العالمية. لكنه بكل الأحوال خطوة كبيرة ومؤثرة في مسيرة المخرج كريم الشناوي الذي سيستفيد بالقطع من التجربة في أفلامه التالية.

اقرأ أيضا

الفيلم المصري "يوم الدين".. في عذوبة السينما ومدح المنبوذين