أحمد عزت
أحمد عزت تاريخ النشر: الجمعة، 22 نوفمبر، 2019 | آخر تحديث:
ابنة اللص

نقلا عن نشرة مهرجان القاهرة السينمائي 41

"عليك أن تغادر، حين تكون هنا أشعر أنني علي وشك الموت، وأنا لا أستطيع أن أموت".

توجه الشخصية الرئيسية بالفيلم "سارا" هذه الكلمات لوالدها "مانويل" حين تذهب لزيارته بمسكنه في مشهد قرب النهاية، قبل أن يدب بينهما شجار بالأيدي. يقوم الأب علي إثره بطردها، لكنها قبل أن تخرج يطلب منها في حنان أبوي صادق ألا تبكي! هذا المشهد يمثل مدخلا مناسبا لفهم طبيعة علاقتهما المعقدة، والمليئة بالتناقضات، والتي تشكل مركز الفيلم الذي يدور حوله كل شئ. وعبر فهم هذه العلاقة نتعرف علي دوافع الشخصية الرئيسية ومعني ماتكافح من أجله بكل ما أوتيت من قوة.

تفتتح المخرجة الإسبانية "بيلين فونيس" فيلمها الروائي الطويل الأول بأصوات غامضة من الواقع اليومي لبطلتها علي شاشة سوداء ويستمر الصوت أيضا بعد نزول تترات النهاية، وما بين البداية والنهاية تقدم لنا المخرجة شريحة زمنية مقتطعة من حياة "سارا/ جريتا فرنانديز" فتاة في مطلع عقدها الثاني تنتمي للطبقة الفقيرة في برشلونة، تناضل من أجل العيش تتنقل بين عدة وظائف من أجل أن تدعم طفلها "6 شهور" وأخيها الأصغر الذي يعيش داخل أحد دور الرعاية الاجتماعية وتطالب بحضانته قانونيا.

لا تشغل المخرجة فيلمها بتفاصيل زائدة، تبقي ماضي الشخصيات غامضا ولا تغوص في سيكولجية أبطالها، بل تحاول بواقعية شديدة أن تقدم الواقع اليومي الذي تعيشه بطلتها وترصد أفعالها في عالم شديد التطلب، بينما كل ذلك الزخم الحكائي يظل دائما خارج الكادر.

نحن لا نعرف مثلا ماضيها مع والدها نعرف فقط من ثنايا الحديث أنه دائم التردد علي السجن وأنه طالما هجرها وأذاها هي وأخيها، لكن ماينفذ إلي قلب العلاقة مباشرة وبؤطرها علي نحو واضح هو ذلك المشهد حين تري سارا والدها لأول مرة بعد عودته إلي برشلونة، حيث كانت بأحد مؤسسات الخدمة الاجتماعية بحثا عن عمل ومعها طفلها في عربة أطفال، تحمل سريعا طفلها بين ذراعيها وتهرب من المكان، هذا التهديد الذي يمثله الأب الذي نستشعره في نظراتها وفي فعل الهرب، يقول عن العلاقة بينهما أكثر من أي حوار أو ذكريات مستعادة.

نحن لا نعرف أيضا سبب انفصالها عن زوجها، هو رجل طيب القلب ويرعاها جيدا هي وابنهما، لكنه يرفض محاولاتها لاستعادته، لكننا نفهم أيضا عبر الحوارات بينهما أنها وبسبب احساسها المزمن بعدم الأمان نتيجة علاقتها السامة بوالدها، ترغب دائما أن تفعل كل شئ علي طريقتها، كي لاتعتمد علي أحد ويخذلها في النهاية.

هذا الحجب المتعمد لبعض المعلومات عن ماضي الشخصية، ونثرها في ثنايا الحكي هكذا بطريقة غير مباشرة يحعل المشاهد أكثر انتباها، كما يجعل منه شريك في كتابة الحكاية.


هواجس امرأة وحيدة

حين يسألها مدير أحد المطاعم في مقابلة من أجل وظيفة: من أنت، كيف تعرفين نفسك؟ تجيبه بعد تردد: أنا مجرد شخص طبيعي. علي الأقل هذا ما تحلم به "سارا"، وبالنسبة لها كي تكون طبيعيا عليك أن تمتلك عائلة، وهو الأمر الذي حرمت منه بسبب والدها الذي طالما تركها وحيدة، لكنها لا ترغب في ذلك لطفلها وأخيها. الهاجس الذي يشغل "سارا" طيلة الوقت وخوفها الأكبر هو أن تترك وحيدة لذلك كل ما تسعي اليه أن تبقي طفلها وأخيها الي جانبها وإبعادهما عن أبيها.

وهو ما يتضح في مشهد النهاية ، حين يوجه لها أحد القضاة، في جلسة طلب حضانة لأخيها:

لماذا ترغبين بحضانة أخيك، وأنت لا تملكين شيئا؟

في نهاية الجلسة، تبكي في خوف لمحاميها: هل سأترك وحيدة الآن؟ هذه هي الجملة التي تختتم به المخرجة فيلمها.

جماليات واقعية

هناك حس وثائقي ونزوع نحو الواقعية واضح جدا في خيارات المخرجة، الاهتمام بدقة تفاصيل الواقع اليومي، التصوير في الأماكن الطبيعيية، الاعتماد علي الإضاءة الطبيعية، شريط صوت يخلو من الموسيقي التصويرية، يكتفي بأصوات الواقع أو موسيقي ذات مصدر داخل الفيلم، الكاميرا المحمولة باليد والتي تعكس اهتزازات الصورة الناتجة عنها قلق الشخصية الدائم. تعتمد أيضا المخرجة علي اللقطات الطويلة زمنيا وهو مايمنح المشاهد احساسا كبيرا بالطبيعية والتلقائية.

يخبرها زوجها السابق أن تنسي والدها، لكنه تخبره أنها لا تستطيع فهي تحمله في وجهها.

تعاني "سارا" من ضعف قدرتها على السمع وغالب الظن أنه بسبب إصابة من والدها، أثناء شجار بينهمان تنزف أذنها وكأن الجرح القديم لا يزال مفتوحا، فهذه الجروح التي تخلفها العائلة داخلنا، لا تلتئم أبدا.

اقرأ أيضا:

يوسف شريف رزق الله الذى أعرفه

مارتن سكورسيزي: "الأيرلندي" رحلة فى قلب ومشاعر قاتل يعترف بأخطائه