فيلم Mabata Bata.. الأحلام تتناثر في وقت الحرب

تاريخ النشر: الخميس، 21 مارس، 2019 | آخر تحديث:
مهرجان الأقصر للسينما الإفريقية

الروح الهائمة العالقة بين عالمي الأحياء والموتى، تعد فكرة جذابة صالحة للاستخدام في أفلام الكوميديا والرعب بكثرة، وسواء كان الغرض انتزاع الضحكات أو إثارة القلق والرعب في نفوس المشاهدين، ففي غالبية الأحوال، يتم تقديمها على اعتبار أنها حالة خارقة للطبيعة، نادرة الحدوث. لكن ما يثير الانتباه في فيلم Mabata Bata للمخرج سول دي كارفيلو، أن الروح الهائمة تبدو شيئا عاديا في أرض يعتقد سكانها بأن من يموت في حادث مأسوي، تظل روحه غير مستقرة تسبب مشاكل للعائلة، حتى تقام احتفالية لمرضاتها ومنحها السكون.

يمزج الفيلم الموزمبيقي المشارك ضمن مسابقة الأفلام الروائية الطويلة في مهرجان الأقصر للسينما الإفريقية، بين الحقيقة والخيال في بيئة تعتبر السحر وسيلة الانتقال بين العالمين. وبالرغم من رحابة فضاء الخيال وتحرره من قيود الواقع، يظل البسطاء يطمحون في الحد الأدنى من كل شيء، ويطالبون بالاحتياجات الأساسية البعيدة كل البعد عن الرفاهية. فقد ناضل طفل يتيم من أجل حقه في التعليم عندما كان على قيد الحياة، وواصل كفاحه بعد مماته.

يتنقل دي كارفيلو بين زمني الماضي والحاضر في الكشف عن تفاصيل الحكاية التي تبدأ بمشهد افتتاحي صادم وأخاذ يتضمن لحظة موت طفل يجري بخفة في حالة سعادة غامرة وسط الحقول، يمهد من البداية لحالة الحزن المخيمة على الفيلم. يتميز زمن الماضي بالحيوية الشديدة، والإيقاع المتماسك، مستعرضا بأسلوب شاعري تفاصيل حياة هذا الصغير الذي يتمنى الذهاب إلى المدرسة لكنه مجبر على رعاية الماشية حتى تسمن ويتزوج عمه. نفهم أن حكايته المأساوية جزء من حكاية أكبر لقرية فقيرة مقموعة بسبب الحرب الأهلية، يرتدي أطفالها ملابس مهترئة، ويتسلون بألعاب بدائية الصنع، وأفضلهم حالا من يرعى الماشية صباحا ويتعلم في المساء.

فيما يركز زمن الحاضر على مراسم الاحتفالية المقامة على شرف الروح الهائمة، التي تتكرر فيها مشاهد الشعوذة وتبادل النظرات بين الحضور الذين يطالبون الروح بالغفران، دون استفادة درامية من تجمعهم. لكن الاختيار الذكي في هذا الزمن هو عنصر كسر الإيهام مع المشاهد طوال الوقت، عن طريق تقديم شخصية خارقة للطبيعة تعلق على الأحداث بأسلوب ساخر. فقد ظهرت روح الطفل الهائمة في هيئة رجل ناضج يرفض مسامحة عائلته على ما فعلوه به. يتجول بين الأشجار متحدثا إلى الكاميرا ليوجه تعليقات لاذعة على الاحتفالية المقامة، ويعدد الأشياء التي حُرم منها الطفل في حياته وبعد مماته، ويطرح أسئلة على مدار الأحداث تثير الفضول حول قراره في النهاية.

لمحة الكوميديا السوداء حاضرة أيضًا في شريط الصوت المرتبط بالحاضر. فهناك تيمة موسيقية ساخرة نستمع إليها في البداية مع استعراض سريع للقطات من القرية، ثم تتكرر من ظهور روح الرجل الناضج وتستمر مع حديثه المنتقد لما عايشه الطفل. على عكس مقاطع الموسيقى في خط الماضي التي تميل إلى التعبير عن حزن الصغير أثناء رعي الماشية. وكأن الحاضر بكل تفاصيله لا يستحق سوى السخرية بعدما مات الطفل البريء فجأة بسبب ألغام الحرب!

يركز الفيلم على فكرة القمع التي تظهر في صور وأشكال مختلفة طوال الوقت. بداية من المحيط الأسري حيث يقرر العم أن يسلب الطفل من حقه في التعليم حتى يكون متفرغا للمهمة التي تحقق له الزواج. مرورا بالدوائر الصغيرة في القرية، عندما يجبر الطفل وصاحباه على مغادرة أحد أماكن الرعي، بعد ظهور ثلاثة مراهقين أشداء البنية، لم يتحمل أحدهم الخسارة في مناظرة الموسيقى، فلوح باستخدام القوة. وصولا إلى وقوع الجميع تحت حصار الحرب، التي جردتهم من حريتهم، وجعلتهم مقيدين بالسير في أماكن محددة، ومعرضين في أي لحظة للموت إذا أخطأت أقدامهم وضغطت دون قصد على لغم. فيصبحون أشلاء متناثرة تضيع معهم الخطط المسبقة والرغبات التي لم تحقق بعد.

هذا القمع كان محور القصة القصيرة المستوحى منها فيلم سول دي كارفيلو. فالحرب حاضرة، وسيطرة العم على الطفل وتحكمه في مصيره يعتبر الخط الأساسي الذي يركز عليه الكاتب ميا كوتو. الاختلاف بينهما في استعانة الفيلم بعالم السحر والخرافة المتأصلة في الثقافة الإفريقية، ليؤكد من خلاله أن الأحياء والأموات سواسية على هذه الأرض البائسة. فكلاهما يفقد حلمه بعدما يصبح على بعد خطوات من تحقيقه، وتبدد سعادته قبل اكتمالها، لأن الهلاك هو المصير الحتمي الذي لا مفر منه في أوقات الحروب.

وبالرغم من نجاح الفيلم في توصيل فكرة أنه لا سبيل لاستقرار الأرواح الهائمة ومنحها السكينة في مكان ينعدم فيه الأمان، بعدما أحرقت القرية على بكرة أبيها بفعل نيران العساكر، فقد كان هناك رغبة في التأكيد على المعنى مباشرة دون حاجة إلى ذلك. حيث يقول الرجل في النهاية أنه لا جدوى من الحلم والتعلق بالمستقبل في ظل الحرب، وأن أفضل خطة هي وقف الدماء. وكأن المشاهد لم يستنتج مثل هذه الحقيقة الجلية بمفرده من خلال الأحداث. لم يكن هذا الحوار الشارح ضروريا على الإطلاق، لأن الصورة قادرة على التعبير عن المعنى المرجو.

تأتي النهاية حزينة مثل البداية، تتحقق فيها سعادة مشروطة بالأسى. حيث تسير الفتاة التي كان الطفل معجبا بها وحدها في الفضاء الواسع، فيما يصاحب صوته خطواتها، متحدثا عن الأحلام الضائعة في وقت الحرب، وطاقة النور التي تضيء ظلام الواقع. فقد أصبحت روح هائمة مثله، وحانت الفرصة للم شملهما. فلم تسعهما الحياة معا، لكن الموت جمعهما أخيرا.

اقرأ أيضًا:
فيلم "إلى آخر الزمان".. الحب في أرض الموتى

فيلم Robin.. النوايا الحسنة لا تصنع فيلما