عن الآباء والأبناء.. عن أطفال لم يعودوا كذلك

تاريخ النشر: الخميس، 27 سبتمبر، 2018 | آخر تحديث:
عن الأباء والأبناء

في إطار مسابقة الأفلام التسجيلية في الدورة الثانية من مهرجان الجونة السينمائي، عُرض فيلم ”عن الآباء والأبناء“ للمخرج السوري طلال ديركي. الفيلم حصل على عدة جوائز منها جائزة لجنة التحكيم الكبرى في مسابقة سينما العالم للأفلام التسجيلية في مهرجان صندانس.

تعددت في السنوات الأخيرة الأفلام التي تتعرض لقضايا الإرهاب والحروب في المنطقة العربية مثل “Radio Kobani” للمخرج ريبر دوسكي، ونجحت السينما التسجيلية تحديدًا في الدخول إلى بعض مناطق الصراع والتصوير مع أفراد بعض المنظمات الإرهابية، فما الجديد الذي يقدمه ”عن الآباء والأبناء“ الذي يدور في سوريا في فترة الحرب الأخيرة أيضًا؟

حتى ندرك خطورة الصورة التي يقدمها الفيلم، وكم هي مخيفة، يمكن أن نستشهد بفيلم آخر هو ”The Land of the Enlightened“ (أرض المستنيرين) للمخرج بيتر-جان دي بو، وهو فيلم تسجيلي، يحتوي على مشاهد تمثيلية في ما يُعرف بـ DocuFiction. هذا الفيلم ضم عددًا من المشاهد التمثيلية لجماعة من الأطفال الأفغان، الذين يعملون في التهريب، ونقل المخدرات وتفكيك وبيع الأسلحة، في الوقت الذي يسعى فيه قائدهم الطفل لجمع مهر الطفلة التي يريد الزواج منها، كان هذا مخيفًا، رغم أننا نعلم أننا نتابع مشاهد تمثيلية مستوحاة من الحقيقة، فماذا لو كانت هذه هي الحقيقة بالفعل؟ وماذا لو كان الأطفال بالفعل يمارسون أعمالًا إجرامية بمنتهى الأريحية؟ هذا هو ما قدمه ”عن الآباء والأبناء“.

أقسى من الخيال

بينما ركزت الكثير من الأفلام التي تناولت شخصيات متطرفة، على سلوكها الوحشي في حالة الحرب وفي الكلام عمن يعتبرونهم أعدائهم، وغير ذلك، اتجه طلال ديركي إلى تصوير جانب آخر، وهو تعامل هؤلاء داخل إطار الأسرة.

اتجه المخرج بكاميرته إلى عائلة شخص يدعى أبو أسامة، وأقام عنده حوالي سنتين ونصف السنة، يرصد تعامله مع أولاده الكثيرين، اللذين لا يتخطى عمر أكبرهم العشر سنوات تقريبًا.

من الانتقادات التي توجه أحيانًا إلى السينما، أنها تبالغ في تضخيم بعض القضايا، يمكن أن تُوجه التهمة بسهولة إلى الأفلام الروائية، ولكن الأمر أصعب مع الأفلام التسجيلية التي ترصد واقعًا، حتى مع وجود بعض التدخلات من المخرج، لكن الواقع في هذا الفيلم مخيف إلى حد ربما يتجاوز حدود خيال الأفلام الروائية.

تبدأ الأحداث بتعليق صوتي للمخرج يوضح عودته إلى سوريا بعد سفره إلى الخارج، وتقدمه للعيش مع بعض أفراد تنظيم القاعدة السوريين، بصفته مصور حرب، ويؤمن بكل ما يؤمنون به، وبهذا ينجح في خداعهم للسماح له بالتصوير، ونشاهد مجموعة من الأطفال يلعبون، وهو الذين سنعرف في المشهد التالي أنهم أبناء الإرهابي أبو أسامة.

بفخر يتحدث أبو أسامة عن تسمية أبنائه على أسماء القيادات في تنظيم القاعدة الإرهابي أكبرهم أسامة نسبة لأسامة بن لادن، وهناك أيمن تيمنًا بأيمن الظواهري، هكذا يقدم لنا الفيلم سريعًا نظرة على واحدة من الشخصية الرئيسية في الفيلم وإلى أي مدى هو غارق في عالم هذا التنظيم ومؤمن به.

لكن الأب ليس واحدًا من الشخصيات الرئيسية فقط، الأبناء أيضًا يشاركونه البطولة، ويأتي التعريف الأهم من خلال مشهدين غاية في القسوة، يقلبان الأسس المتعارف عليها في التعريف بالأطفال في الأفلام المشابهة.

عادة ما يُقدم الأبناء في طفولتهم في صورة ملائكية، وتتشوه هذه الصورة تدريجيًا بسبب تدخلات الآباء، أو ربما لا تتشوه على الإطلاق، بينما نجد في الفيلم هؤلاء الأطفال منذ المشاهد الأولى مسلوبين البراءة.

المشهد الأول الذي يعرفنا بالأطفال يتحدث فيه الطفل أسامة عن ذبح لعصفور بري كان يمسكه في المشهد السابق، ويخبر أبوه وإخوته بفخر عن عملية الذبح، وهم أيضًا ينظرون له بإعجاب، وكأنه يخبرهم عن لعبته الجديدة.

المشهد الثاني لثلاثة من الأطفال، وأسامة مرة أخرى يُخبرهم بألغاز غاية في السذاجة، مثل: ”4 تقسيم 10، كم تساوي؟“ لتأتي الإجابة أكثر سذاجة من إخوته الأصغر سنًا: ”خمسة“، لكن العجيب أن أسامة بعد تفكير يخبرهم أن الإجابة صحيحة.

المشهد الأول يكسر الصورة التقليدية المرسومة للأطفال، وبشكل سريع وصادم جدًا، هؤلاء أطفال لم يعودوا كذلك، ذبح العصفور لديهم ممتع أكثر من اللعب معه، بينما المشهد الثاني يوضح غياب أي ملمح من ملامح العلم عن أذهان هؤلاء الصغار.
تستمر هذه الصورة في الترسخ مع مسيرة الفيلم.

لحظات سينمائية

لا يكتفي الفيلم بمجرد سرد هذه المشاهد، بل يستخدم المخرج أدواته لصناعة لحظات سينمائية ممتازة.

يروي طلال ديركي أنه صور خلال الفترة التي قضاها هناك 330 ساعة، ومن هذه الكم الكبير من المادة المصورة قدم الفيلم الذي تبلغ مدته 99 دقيقة فقط، وهكذا ندرك قيمة المونتاج في هذا العمل، إذ يختار ما يود تقديمه بعناية، ليأتي في النهاية في صورة أحداثها متماسكة ومتصاعدة.

من المشاهد المهمة التي تبرز كيفية سيطرة المخرج على المشاهد التي يقدمها، مشهد أَسر تنظيم القاعدة لبعض الأفراد، يقف الأسرى مربوطي الأيدي وظهورهم للحائط ينتظرون مصيرهم، وننتظره نحن أيضًا، في لقطة متقطعة على وجوهم الخائفة والباكية، ولا يقطع المخرج هذا المشهد قبل أن يُشبع المشاهد بثقل كل لحظة، مع وجود تساؤل هل سيطلقوا النار عليهم؟

هذا الشكل يتكرر في عدة مشاهد، تترك في كل مرة تأثيرًا قويًا على المشاهد، بشكل يوحي بقدرة المخرج بالتأكيد على توصيل الصورة التي يود أن يوصلها بشكل كامل.

الفيلم لا يتوقف عند عرض الأبناء والأب بشكل منفصل، بل يوضح طبيعة العلاقة بينهم، ومرة يتجاوز المتوقع أو التقليدي، إذ نشاهد هذا الأب في علاقة حب واضحة لأبنائه، وليس مثل الصورة المُنتظرة أن يكون أبًا قاسيًا أو جافًا، وفي المقابل عندما يتعرض لحادث نجد خوف الأبناء وبكائهم عليه، لكن هل احتوى هذا على تجميل لصورة المتطرفين؟

في الحقيقة لا، لم يجمل الفيلم هذه الصورة، بل أوضح جانبًا خفيًا لها، حتى عندما نصل إلى نهاية الفيلم، سنجد أننا شاهدنا أسرة مشوهة، ولكنها ليست أحادية البعد، متطرفة إلى أبعد حد ويؤمن أفرادها تمامًا بقيمة ما يفعلون، بل وينتظرون قيام حرب عالمية ثالثة لتأسيس دولة الخلافة التي يحلمون بها، لكنهم في النهاية لديهم تفاصيل أخرى ليست كما كنا نتخيلها أو نعرفها، تفاصيل عبر عنها المخرج بمنتهى البراعة، وهي ليست إنسانية بقدر ما كانت مخيفة.

اقرأ أيضا

الجونة السينمائي 2018- "يوم آخر من الحياة".. سرد لواقع الحرب الأهلية بالرسوم المتحركة