أحمد شوقي
أحمد شوقي تاريخ النشر: الجمعة، 14 سبتمبر، 2018 | آخر تحديث: الجمعة، 14 سبتمبر، 2018
صورة من الفيلم

بتاريخ 30 أغسطس الماضي نشرت مجلة "فارايتي" خبر اختيار ألمانيا فيلم "لا تنظر بعيدًا أبدًا Never Look Away" للمخرج فلوريان هينكل فون دونرسمارك ليكون مرشحها لأوسكار أحسن فيلم غير ناطق بالإنجليزية لهذا العام، قرار جاء قبل العرض العالمي الأول للفيلم بتاريخ 4 سبتمبر في مسابقة مهرجان فينيسيا السينمائي، ليغلق الباب في وجه الصراع الذي بات تقليدًا سنويًا عند اختيار الفيلم المصري المرشح. صراع يتبارى فيه الجميع للإدلاء بدلوهم وادعاء معرفة القواعد والخوف على فرصة مصر في الترشيح.


والحقيقة أن القواعد مرنة والأكاديمية لا ترسل مخبرين للتأكد من موعد عرض أو ظروف مشاهدة، لكنها تنتظر من الأفلام المرشحة أن تصل في الموعد المناسب ومعها المواد المطلوبة، بل إن دولًا أخرى تختار اللعبة العكسية، فاسرائيل على سبيل المثال اختارت ترشيح فيلم "صانع الكعك The Cakemaker" الذي عُرض لأول مرة قبل 13 شهر بتاريخ يوليو 2017 في مهرجان كارلوفي فاري، وعُرض مرتين في اسرائيل ضمن الحيز الزمني لأوسكار العام الماضي في يوليو وسبتمبر 2017، لكنه أعيد توزيعه في ديسمبر ليكون ملائمًا للترشيح عن العام الجديد، باعتباره أكثر فيلم اسرائيلي عُرض في مهرجانات أمريكية خلال العام بما يرفع من فرصه للترشح.

الدول تبحث إذن عن الفيلم الأفضل وصاحب الفرص الأكبر لتدعمه، وتوفر في سبيل هذا الدعم الظروف الشكلية التي تضمن للترشح السير بشكل ملائم، لا تترصد للأفلام وتحاول أن تمسك عليها غلطة من أجل انتصار شخصي واه، فالملكي أكثر من الملك لديه في الأغلب أسباب أخرى!

نترك هذه المقدمة الضرورية لنعود لفيلم "لا تنظر بعيدًا أبدًا"، الذي يرجع به فون دونرسمارك لوطنه ألمانيا، الذي قدم فيه فيلمه الأشهر الذي صنع شهرته العالمية "حياة الآخرين" عام 2006، قبل أن يعبر الأطلنطي ليقدم مع جوني ديب وأنجلينا جولي فيلم "السائح" عام 2010 ليحقق الفيلم نجاحًا مقبولًا لكنه يظل نجاحًا محدود جدًا مقارنة بالفيلم السابق الحائز على الأوسكار. بعد 8 سنوات من "السائح" و12 سنة كاملة من العمل في ألمانيا، يقدم فون دونرسمارك فيلمًا طموحًا بكل ما تحمل الكلمة من معان.

طموح الملحمة

في "حياة الآخرين" تعرض المخرج لثقل الحياة تحت مظلة مجتمع شمولي يراقب أدق التفاصيل الحميمية للبشر، عبر حكاية تدور في ألمانيا الشرقية الشيوعية، الحقبة التي لا يزال مهووسًا بها، لكنها في الفيلم الجديد تتحول مرحلة في فيلم يراهن على بلوغ الملحمة، على المستويين الزمني والسردي.

قصة تبدأ قبل اندلاع الحرب العالمية الثانية، تعبر للأيام التالية لانتهاء الحرب، تقفز لألمانيا الشرقية في الخمسينيات، وتنتهي في ألمانيا الغربية بالستينيات. حكاية طفل موهوب شهد الحرب صغيرًا وتضررت منها أسرته بشكل مؤلم، ثم عاش ودرس وعمل تحت مظلة الشيوعية حتى صار فنانًا معروفًا لجداريات الواقعية الاشتراكية، وصولًا لهروبه نحو عالم أكثر حرية وفرصًا لاكتشاف الذات والموهبة وأدوات التعبير.

هذا ملخص مخل للغاية للأحداث التي تحتاج مساحة كبيرة حتى يتم تلخيصها بشكل وافٍ، فالفيلم "ساجا Saga" من عدة فصول تتلاقي فيها مصائر الشخصيات بصورة تجنح أحيانًا للميلودرامية، المقبولة هنا باعتبار أن أحد المكونات الرئيسية لرواية الأجيال هي المفارقات القدرية وما قد يحدثه الزمن في البشر.

التاريخ والسياسة والفن، التيمات الثلاث الأساسية التي يأخذ الفيلم وقته الكافي في التطرق إليها بالتناوب (زمن العرض يمتد لـ 188 دقيقة)، تبدأ من عبارة تقولها الخالة للطفل الذي سيكون بطل الفيلم "لا تنظر بعيدًا أبدًا.. كل ما هو حقيقي جميل". عبارة استمد فون دونرسمارك منها عنوان فيلمه، ويمكن ربطها بسهولة بالتيمات الثلاث.

الفن المنحط والفن الملتزم

الفيلم يبدأ بزيارة تأخذ الخالة البطل فيها لزيارة متحف للفن "المُنحط". وهي متاحف حقيقية أقامها النازيين لتعليم المواطنين أهمية أن يكون الفن معبرًا وواضحًا وبعيدًا عن الشطط، فكل ما ليس له معنى ورسالة واضحة هو فن منحط لا ينبغي أن يوضع في الاعتبار. الخطاب نفسه الذي ترفعه الشيوعية لاحقًا ليتلقي البطل كورت محاضرات في مدرسة الفنون يذم فيها المحاضر بيكاسو لأنه "ترك رسوم بداياته التي تنتصر للفقراء وانحاز للتعبير عن نفسه في أشكال جديدة غير مفهومة"، معتبرًا الاهتمام بتحقيق الأهداف الشخصية انحرافًا عن "رسالة الفن"!

رغم أن النازية والشيوعية إذن كانتا طرفي مواجهة في أكبر حرب في التاريخ، إلا أن الجوهر واحد: لا قيمة للفرد وأحلامه وطموحه، لا قيمة لكل مالا يمكن أن يتحول ترسًا في ماكينة ضخمة، وعندما يقول الطبيب الشيوعي ـ النازي السابق ـ أن الفنان الشاب قد رسم له بورتريه لا يمكن تمييز أسلوبه عن كافة البورتريهات الموجودة حوله، يقولها على سبيل المدح، أن تكون مجرد نسخة من الآخرين هو الهدف الأسمى لكل نظام قمعي مهما كان اسمه.

روح الفنان الموهوب، الحالم والمغامر، داخل كورت هي دافعه الأكبر رغم سنوات من محاولات تدريب النفس على قمع هذه الروح، والفيلم بشكل عام هو قصة هذا الصراع بين رغبات الفنان "المنحطة" ومثاليات النظم الشمولية، صراع لا يحسم إلا بعد سنوات من الأحداث المتشابكة يتمكن خلالها الفتى أخيرًا من الوصول لجوهر عبارة خالته، واستلهام صوته الفني من الحقيقة التي رآها بعينيه، حقيقة كانت مؤلمة لكنها حسب وصف الخالة كانت جميلة، لأن كل ما هو حقيقي جميل.

متعة الحكي الماهر وأزمة الملاحم

انتقال فلوريان هينكل فون دونرسمارك السريع إلى هوليوود لم يكن محركه الرئيسي هو تقديمه فيلم جيد وناجح، فهذا أمر يحققه مخرجون آخرون كل عام، ولكن كونه قادرًا على حكي الفيلم بطريقة جذابة يمكن أن يتواصل معها الجمهور العريض، قدرة يواصل تطويرها في الفيلم الجديد. التواصل هنا أمر حتمي في فيلم مدته أكثر من ثلاث ساعات، فأي محاولة للتثاقف أو التأمل أو الخروج بالقصة من مسار يتحرك للأمام ستعني خسارة انتباه الجمهور فورًا.

يحكم المخرج هنا تصميم مشاهده، سواء على مستوى الديكور والملابس التي تنقل زمن المشهد بدقة (مع مراعاة الإطار الزمني الكبير بما يتطلبه من جهد إضافي)، أو على مستوى الأداء المميز للممثلين خاصة البطل توم شيلنج والممثل سباستيان كوخ في دور الطبيب النازي المؤمن بالتطهير العرقي (في دور متناقض لدوره في "حياة الآخرين")، أو على مستوى الإيقاع الذي يجعل زمن الفيلم يمر سريعًا دون ملل أو تعثر.

لكن تبقى المشكلة الأكبر هي أن "لا تنظر بعيدًا أبدًا" مثل أي عمل ملحمي مليئ بكل شيء، الكثير من الأفكار والأحداث والشخصيات والأزمان، بصورة أكبر ربما مما يحتمله فيلم واحد، صحيح أن اهتمامك لا ينقطع، وأن هذا التنقل بين الحقبات هو أحد أوجه الاستمتاع بالفيلم، لكنه يظل عيبًا بالنسبة لمن يفضلون الفيلم الذي يحتوي على قصة واضحة ومحكمة. والفيلم عمومًا يدفع للتفكير في أمور عديدة تتعلق بشكله ومضمونه، وهو ما تحمس الألمان لدعمه كي يكون مرشحهم للأوسكار.