محمد شميس
محمد شميس تاريخ النشر: الأحد، 24 ديسمبر، 2017 | آخر تحديث:
فريد الأطرش وأم كلثوم

بعد تقرير (علم "الرمشيولجي" في أغاني زمان.. هكذا كان رمش العين خارقا)، يستكمل FilFan.com القراءات النقدية في الأغاني القديمة مستعينًا بالكتاب الساخر "الأغاني للأرجباني" للكاتب أحمد رجب.

الجيل الغنائي لم يعد شغوفا بتقديم الأغاني التي تتحدث عن "العذول" بين الحبيب والحبيبة.

وإذا حولنا فهم هذا الوصف لـ "العذول" عند معجم اللغة العربية المعاصرة فسنجد أن معناه: "صيغة مبالغة من عذل: (أتعبني العذول بكثرة انتقاداته).

وفي تاج العروس: الْعَذْلُ: الْمَلاَمَةُ عَذَلَهُ يَعْذِلُهُ عَذْلاً كالتَّعْذِيلِ شُدِّدَ لِلْكَثْرَةِ والاِسْمُ: الْعَذَلُ مُحَرَّكَةً واعْتَذَلَ الرِّجُلُ وَتَعَذَّلَ: أي قَبِلَ منه الْمَلاَمَةَ وأَعْتَبَ.

فهل هناك علاقة بين هذه التعريفات بقصة العزول الموجود بكثرة في تراث أغانينا الشرقية؟

لا يوجد في حياة الإنسان الطبيعي ما يمكن وصفه بهذه الصفة التي توجد في الأغاني العاطفية القديمة، فشعراء الأغاني العاطفية القديمة مؤمنون بشكل كامل وشامل بنظرية المؤامراة، ومقتنعون بأن هناك أشخاص يراقبون العشاق ويقومون بالتخطيط لإفساد مواعيدهم الغرامية كاعطاء مبررات لكل حبيب وحبيبة عند فشل العلاقة بأن هناك تدخلات "أجنبية وخارجية" تسببت في فشل قصص حبهم.

أو بمعنى آخر "العذول" هو المعادل الطبيعي لمصطلح "الطرف التالت" الذي كان يتردد بقوة بعد ثورة 25 يناير في معظم الأحداث الدموية التي كانت تضرب البلاد.

وتم التعبير عن حالة العذول في كثير من الأغاني العاطفية، إذ نجد السيدة أم كلثوم كوكب الشرق عبرت عنها في أغنيتها "العزول فايق ورايق"، حينما تغنت وقالت: "ليه تعاند بس هاود، واترك العذال وكايد، يبقى حبك ع المرام"

هذا رأي الكثير من المهتمين بالشأن الغنائي ومنهم الكاتب أحمد رجب في كتابه المتميز المدهش "الأغاني للأرجباني".

يقول رجب في كتابه: العذول في الكوكب الأرضي غير العذول في الكوكب الغنائي.

والعذول بلغة فقهاء اللغة هو العاذل أي اللائم والفعل عذل يعزل أي لام يلوم، وعذول أي كثير اللوم، فهي صيغة مبالغة مثل كذوب أي كثير الكذب.

وفي الكرة الأرضية انقرض العذول من زمان، فإن أخر عاذل شهدته الأرض تبين أنه مومياءه تنتمي إلى العصر الحجري الأول أيام كانوا يضربون العاشق بالحجر والطوب إذا اجترأ واختلس النظر إلى مشربية المحبوب التي لا يظهر منها للعين أي محبوب.

وعند فحص تلك المومياء أخر عذول شهدته الأرض، وجدوا في يده اليمنى شومة غليظة، وفي يده اليسرى بقايا من شعر بنت كان يجررها على الأرض، وعلى جدران المقبرة رسوم وكتابات: رسم لشاب مبطوح ودمه سايح مكتوب تحته "كان ماشي كده وعينه منها"، ورسم للبنت اللى كان عينه منها وهي مربوطة في السرير وراسها محلوقة زلطة.

فقد كان الحب في ذلك العصر سفالة ـخلاقية وقلة أدب و"سفوخس" واللي اختشوا ماتوا، ولهذا كان العاشق الذي لا يختشي يموت بالحيا حرمانا وكتمانا وكان العاشق الذي لا يختشي يموت من الضرب، وكانت أخطر المغامرات الغرامية التي يقوم بها العاشق هي كما يقول عبد الوهاب: "مريت على بيت الحبايب، حامدا الله شاكرا فضله -بعد المرور- على نجاته من رجالة الحتة، وكانت أقصى أمانية تقول: أمتى الزمان يسمح يا جميل، واقعد معاك على شط النيل.


وفي ذلك العصر، لم يكن جدي، الله يرحمه "بوي فرند" لستي قبل زواجه منها، فلم يكن مسموحا للعريس جدي برؤية عروسته ستي إلا في ليلة الدخلة، فكان يمسك قلبه بيده توجسا وهو يهم بالنظر إليها في تلك الليلة، إذا كانت العروسة بالنسبة لعريسها أيامها كالبطيخة، يا طلعت حلوة، يا طلعت قرعة.

وخلاصة القول في ذلك المجتمع الغابر كان الأصل هو اللاحب والاستثناء هو الحب سرا، فإذا ماذاع السر وانكشف تحول اسمه من حب إلى فضيحة بجلاجل وشخاليل، وبناء عليه كان العذول هو سيد الموقف القوي، فقد كان مندوبا ساميا للعذول الأكبر صاحب السلطان والهيلمان "المجتمع".

ويواصل رجب سخريته من الأغاني القديمة قائلا: العذول لا يزال موجودا في الكوكب الغنائي إلى يومنا هذا، ولسوف يظل موجودا غدا وبعد غد وإلى الأبد الآبدين، وذلك تطبيقا للمادة الثامنة من دستور الكوكب الغنائي التي تنص على أنه "لاحب ولا حبيب بلا عذول"، والحكمة من هذا النص الدستوري هو تأمين سعادة العاشق الغنائي الغرامية بتوفير المزيد من المتاعب والغم والهم والدموع حتى تكتمل له متعة الحب الحقيقي، وذلك هو السبب في وجود العذول بكل أغنية، وكما تحتم قوانين الكوكب الغنائي وجود ذلك الشرير الغنائي المسمى بالعذول في كل علاقة حب، بل أن حكومة الكوكب الغنائي أشد حرصا على راحة العاشق لتسأل العاشق: فين عذولك؟ وهنا يبرز العاشق المستند الرسمي الذي يبين اسم عذوله وتاريخ قيده في مكتب تسجيل العواذل، وشئ عادي أن يدور هذا الحوار بين صديقين من أهل الكوكب الغنائي:

- ... وازي أحوالك"

- ... زفت بعيد عنك، تتصور، مش لاقي عذول يقرفني في عيشتى.

- كلام أيه ده ..؟

- لا حول ولا قوة إلا بالله ..! اسمع .. على أي حال متشيلش هم

- ازاي بس مشيلش هم ..؟ دي مصيبة

- رقبتي سدادة .. أنا مستعد أعملك عذول وأطين لك عيشتك معاها ..

ثم يبدأ رجب في سرد الأغاني ويعلق عليها بشكل ساخر ويقول: مش كفاية يا حبيبي مش كفاية .. ابتسامك أو سلامك مش كفاية .. ده أنت لو تطلب عنيا مش كفاية .. وأن سألت كتير عليا مش كفاية .. لو ملكت الدنيا ديا مش كفاية .. حتى لو فكرت فيا مش كفاية"

طيب عايز ايه ده؟؟ مشكلة يعيش فيها طبعا، فهو لا يحتمل هناء ولا نعيما ولا فرحا وإلا أصيب بالحساسية.


ويواصل رجب: البحث عن المتاعب المشاكل هو الحافز لإيجاد العذول الذي لا يكتمل للحب جماله ومتعة بدونه، وفي ذلك تقول أم كلثوم: "كان عهد جميل حاسد وعذول والبال مشغول .. راحت عواذلي وحسادي"


ويقول أيضا: لا يمكن حصر النصوص الواردة من الكوكب الغنائي التي تحمل كل منها كلمة "طظ": قول يا عذول مهما تقول .. احنا حبايب وانت عذول"

وأيضا: " انا قلبي اليك ميال .. ومفيش غيرك ع البال .. انت وبس اللي حبيبي .. مهما يقولوا العذال".

وأيضا: العواذل ياما قالوا ليه تحبه ليه .. رد قلبي قال وماله لما احبه ايه؟ .. قاله ده غدار وقاسي وقلبه فاضي .. من زمان هاجرك وناسي قلت لهم راضي".

ومنتشرة جدا في أفواه العذال حكاية تخويف العاشق بأن قلبه راح يدوب - خصوصا القلب مقاس 44 بكعب كباية، وذلك عندما يرفض العاشق الملوم نصيحتهم بالتوبة فتقول أغنية محرم فؤاد: "قالوا قلبك داب .. قلت يدوب لأحبابه".

وهذا عاشق غنائي يتخذ من إحدى يديه هون ومن يده الأخرى الهون نفسه، ومطلع لسانه على آخره "ما قللي وقلت له يا عوازل فلفلوا"

ولا نهاية للأغاني التي تحمل معانيها كلمة طظ، لمحرم فؤاد مثلا: "العواذل زودوها حبتين"

ولقنديل: "اسمع كلام واشبع ملام"


وعن العواذل العتاولة يقول أحمد رجب: أننا نصادف أحيانا نصوصا غنائية تؤكد نجاح العذول في مهمته، فتقول أغنية عبد الوهاب: "انت وعذولي وزماني حرام عليك"

ويقول موال محمد عبد المطلب: "حجبوكي عني العواذل ليه يا نوري العين .. يا شاغلة قلبي بحبك فين ودادك فين"، وتقول أغنية نجاة علي: "يا لايمين في الهوى حوشوا الملام عننا .. أنا وحبيبي سوا فرقتوا ليه بنا".


وعن العاشق الغنائي المذلول بفعل العذول يتحدث رجب عن أغنية فريد الأطرش التي تقول: "أنا عارف الحب مذلة جبر الخواطر على الله .. انا عارف إني مانيش قدك وكتير علي اطلب ودك .. ياسيدي إرحم ده انا عبدك وكل أملي إني اشاهدك عن بعد بالعين واتملى".

وتقول أغنية يا حلو صبح يا حلو طل: "مكتوب علي أبص لفوق وأجيب لروحي شوق على شوق"، وفي أغنية وياك: "أنا مين وانت مين .. يا ملاك يا بدر في سماك .. انا فين وانت فين .. أنا عبد وازاي اطمع في هواك".

هذا جزء بسيط من باب "وعواذله" للكاتب أحمد رجب في كتابه "الأغاني للأرجباني" الذي أصدر منذ ما يقرب من 60 عاما ويسخر فيه من أغلب الأغاني العاطفية في الفترة الزمنية التي أطلق عليها "زمن الفن الجميل"، فهذا الكتاب خير دليل خير شاهد على أن النقد متاح للجميع، وأن لا قدسية لأي عمل فني أو غير فني، فالأغاني التراثية القديمة ليست مقدسة، ويجوز مناقشتها والسخرية منها كما فعل أحمد رجب.

وفي التقرير المقبل نستكمل مناقشة الأغاني التراثية من خلال قراءة "الأغاني للأرجباني".

اقرأ أيضا

"الأغاني للأرجباني" 1- علم "الرمشيولجي" في أغاني زمان.. هكذا كان رمش العين خارقا