فيلم "أم غايب".. الخوف من الحياة والموت

تاريخ النشر: الاثنين، 2 أكتوبر، 2017 | آخر تحديث:
فيلم "أم غايب"

"الانتظار محنة، في الانتظار تتمزق أعضاء الأنفس، في الانتظار يموت الزمن وهو يعي موته"... يمكن النظر إلى الجملة السابقة التي وردت في رواية الحرافيش للأديب المصري نجيب محفوظ، على اعتبار أنها تلخص حياة "حنان" بطلة الفيلم التسجيلي "أم غايب" للمخرجة نادين صليب. فهي سيدة شابة في أوائل الثلاثينات من العمر، تعيش في حالة انتظار حدوث حمل منذ قرابة 12 عامًا، وتقيم في إحدى قرى صعيد مصر المنخرطة في عادات وتقاليد تجعل من الإنجاب ضرورة حتمية وسبب أساسي يمنح للمرأة أهميتها ومكانتها في المجتمع، لدرجة أنهم يطلقون على السيدات اللاتي يتأخرن في الحمل لقب "أم غايب"، أي المنتظر ولادته.

حنان: الغريق يتعلق بقشة

منذ الدقائق الأولى وقبل ظهور "حنان" على الشاشة، تحرص المخرجة على الكشف عن جوانب مختلفة من شخصية بطلتها عن طريق ظهورها على شريط الصوت؛ فهي تبدو سيدة بسيطة لكنها تمتلك فلسفة خاصة تساعدها على الاستمرار في الحياة والتمسك بحلم الأمومة. فهي تعترف بأنها تخلط بين الحقيقة والخيال، ثم تعود لتؤكد أنها تصدق في كل ما تتمناه، وتقول: "كل حاجة بتصدق فيها هي حقيقة".

يمتزج هذا الحديث مع صورة النيل الذي يسبح فيه طفل صغير، تشعر أحيانًا أنه يغرق مثلما تعرضت حنان في صغرها للغرق وأنقذت حياتها سيدة، ثم بعد ذلك غرقت هي، في واقعة يغلب عليها طابع الموت. وأحيان أخرى تشعر أنه مثل الجنين يسبح داخل رحم أمه، يمثل الحياة وتحقيق الحلم.

لا تتوقف محاولات "حنان" لتصبح أمًا، وكلما زاد ألمها وحرمانها زاد ارتباطنا بها وبمشكلتها؛ فتارة تبتعد عنها صديقتها الحامل خوفًا من الحسد، وتارة أخرى تحكي هي عن واقعة سيدة وصفتها بانها عديمة الفائدة بسبب عدم الإنجاب، ومرات كثيرة تظهر وهي تنظر إلى أطفال العائلة والقرية نظرة اشتياق ورغبة في تحقيق الحلم، حتى نصل إلى تقليد "الكحروتة" الذي تتعرض فيه إلى التقلب على الأرض فوق القبور، وهي منكسرة ومستسلمة إلى أي فكرة مهما كان تأثيرها النفسي والجسدي عليها.

ومع كثرة المحاولات والتردد على الأطباء والقابلة، يصبح الغائب ليس فقط الطفل، ولكن مفهوم السعادة. تتحول "حنان" إلى سيدة تعيسة وتطرح الكثير من التساؤلات حول معنى الحياة وأهميتها دون هدف تعيش من أجله، واحتمالية الموت دون خلف يحيي ذكراها. تتحدث عن تفضيلها للقبور والجلوس بين الموتى التي تشعر أنهم أحياء وترتاح بينهم، ثم تكشف عن خوفها المستمر من الحياة والموت.

تنجح المخرجة نادين صليب في اختيار صور سينمائية تظهر هذه التغيرات عبر الزمن الاعتباري، المتمثل في الصور داخل منزل "حنان". ففي البدايات نرى صورتها وهي في سن أصغر دون حجاب مصففة شعرها ومبتسمة، ثم صورة لزوجها وهي بجانبه مبتسمان نصف ابتسامة. إلى جانب صورة ملصق دعائي لأغنية "بخاف"، التي تعبر كلماتها عن الخوف من الوحدة، والمستقبل الخفي. فالصورة بشكل عام في الفيلم مليئة بالتفاصيل التي تزيد من واقع التأثر بالموضوع، وتخلق حالة من الكمال مع صوت "حنان".

النساء في بلاد الهم والغلب

في بداية الفيلم تسأل إحدى السيدات ونسمعها عبر شريط الصوت عن سبب وجود طاقم العمل، وحينما يخبرها طفل أنهم أتوا من أجل تصوير البلد، ترد واصفة حال القرية بأنها "بلاد الهم والغلب".

اختارت المخرجة عدد من الشخصيات النسائية اللاتي تربطهن علاقة مباشرة بـ"حنان" وقصتها، وتتشابه حكاياتهن مع حكايتها في غياب السعادة. فهناك السيدة العجوز التي تسكن في المنزل المجاور لها والتي لم تنجب هي الأخرى وتنقل بنفسها الماء دون مساعدة من أحد، فترى مصير "حنان" من خلالها. وهناك "ميرفت" إحدى الصديقات، التي تزوجت وحملت وبعد الإنجاب فقدت طفلها وحزنت عليه، وتعتبر "حنان" تجربتها أشد وأقسي لأنها حملت المولود بداخلها 9 أشهر وتأثرت بوجوده. ومن بين بطلات الفيلم القابلة أو "الداية أم منصور" المسئولة عن متابعة النساء، والتي تروي قصة سيدة تمنت الإنجاب وحملت بعد معاناة، وجاء الطفل ووضعت خلاصه في جرة، لكن عندما كبر أهانها، فكسرت الجرة ومات.

من أهم العوامل التي ساعدت على ظهور جميع اللقاءات بتلقائية واضحة، كان اختيار فريق عمل نسائي، جعل الكثير من الأحاديث حميمية ومتبادلة، تجعلك تشعر أن من هم وراء الكاميرات يشاركون سيدات القرية نفس المخاوف والتساؤلات المتعلقة بالزواج والإنجاب. إلى جانب حفاظ المخرجة على إيقاع الحوار دون تطويل أو حشو ومزجه ببعض الأغاني التراثية في الخلفية مثل التي دخلت في شريط الصوت أثناء مشاهد القبور، بالإضافة إلى صور بصرية تعبر عما تشعر به كل شخصية، وتكمل الحالة العامة مثل لقطة تلقيح الزهور ثم إعلان خبر الحمل، وذلك على عكس عدد من الأفلام التسجيلية التي يتمسك فيها المخرجين بعرض جميع ما لديهم من مواد وتسجيلات دون القدرة على الحذف.

مجتمع منعزل

واستمرارًا لفكرة الإنجاب المسيطرة على الفيلم، تحضر أخبار الثورة -حديثة الولادة- في إحدى المشاهد، لكن عائلة "حنان" تتابعها وكأنها في دولة ثانية بعيدة كل البعد عنهم وعن حياتهم وشؤونهم. فتشعر أن هذه بلدة منعزلة، خارج نطاق الزمن، منشغلة فقط بأخبار النساء وحملهن.

هذه القرية التي تفرض نوع من القهر على الرجال أيضًا، متمثل في "عربي" زوج حنان، القادر على الإنجاب، والذي ينصحه الجميع بالزواج مرة أخرى لكنه يرفض هذا الأمر، بل ويدافع عن زوجته ويقف أمام كل من يعايرها.

السعادة الغائبة

تأتي نهاية الفيلم متماشية مع فكرة الصراع بين الموت والحياة؛ فعلى الرغم من حدوث الحمل، وسعادة "حنان" وتغير ملامحها كلية، وإقامتها في منزل جديد، إلا أن فقدانها للجنين يفتح باب أفكار وتساؤلات جديدة تزيد من الحيرة والقلق حيال مستقبل غامض يتركها ضحية الانتظار من جديد.

اقرأ أيضًا:
10 سنوات على رائعة Atonement .. من الخيال ما قتل

فيلم Redoubtable.. الوجه الآخر لـ جان لوك جودار

فيلم "حبيبي بيستناني عند البحر".. قصة حب فلسطينية لم يتقابل طرفيها