"قضية رقم 23".. المحاكمة داخل الفيلم وخارجه

تاريخ النشر: الأربعاء، 27 سبتمبر، 2017 | آخر تحديث: الأربعاء، 27 سبتمبر، 2017
قضية 23

أي حديث عن فيلم المخرج اللبناني الكبير زياد دويري الجديد "قضية رقم 23" لابد وأن يقوده صاحبه رغماً عن إرادته إلى محتوى الفيلم الفكري. الرغبة النظرية في الحديث عن السينما لا المضمون السياسي تتبدد في هذه الحالة مع عمل كل ما فيه مرتبط بالسياسة: موضوعه وشكله السردي وما أثير حوله من مشكلات وصلت لتخوين المخرج على صفحات الجرائد (بسبب فيلمه السابق في حقيقة الأمر).

بعد عرض "قضية رقم 23" في مسرح المارينا بالجونة (المسرح الذي ظُلم كثيراً بسبب أحداث حفل الافتتاح، والذي أثبت بعد انتهاء العاصفة الترابية أنه من أفضل قاعات العرض المصرية على مستوى الجودة ومتعة المشاهدة)، قوبل الفيلم باحتفاء كبير من حضور اقترب من الـ800 شخص، لم يعكر صفوه سوى اعتراضات بعض المثقفين الفلسطينيين الذي أدى لإنهاء المناقشة بشكل سريع منعاً لتطورها بشكل سلبي.

ما حدث قد لا يهم القارئ كثيراً، لكنه في رأيي مرتبط بالفيلم نفسه على مستوى الخطاب والصنعة، ففي صف واحد بقاعة العرض يجلس اثنان من المشاهدين، أحدهما يرى الفيلم منحازاً يطرح الخطاب "القواتي" بشكل ظالم للفلسطينيين، بينما يراه الجانب الآخر ـ وبينه كاتب السطور ـ عملاً تصالحياً من الطراز الأول، ينكأ جراح الماضي التي لم تطيب ليخبر جميع الأطراف أنهم بشكل ما نسخ من بعضهم: أبرياء ومخطئين في الوقت نفسه.
أتفهم بطبيعة الحال أن من يعرف الخلفيات الكاملة للأمر يختلف رد فعله عادة عن الذي يسمع عن الصراع من خارجه، أمر صرنا معتادين عليه في كل عمل به شبهة جدل سياسي أو اجتماعي. لكن المثير في الأمر هو أن اعتراض رافضي الفيلم يمكن الرد عليه من داخل الفيلم لا خارجه، أي أن دويري ـ وهو المخرج المحنك ـ جعل رده على ما سيُقال عن فيلمه داخل الفيلم نفسه في فعل لا يمكن وصفه إلا بالذكاء.

"كان ينبغي أن تتحدث عن كذا"، "لماذا لم تشر لحقيقة كذا؟"، "الفيلم يبسط الأمور لأنه يتجاهل كذا".. هذه باختصار طبيعة أغلبية الاعتراضات الموجهة للفيلم، والتي يرد عليها الفيلم من داخله بأن أحد أسباب الاحتقان المزمن للمشكلة هو أن هذا الـ "كذا" هو فقط المسموح بتداوله، بينما يتعرض الخطاب المقابل لقدر المنهزمين: يصير ممنوعاً ملعوناً، ويُترك داخل نفوس أصحابه ليتقيح ويفرز المزيد من العنصرية والكراهية.

"ليس من حق أحد احتكار المعاناة" هي العبارة التي تُقال خلال المحاكمة وتعكس فلسفة الفيلم الرئيسية، ليبقى السؤال الموجه للغاضبين: إذا ما كان الفيلم قد سكت ـ وهو لم يفعل ـ عن تقديم الخطاب المواجه للبطل القوّاتي (عادل كرم)، فلماذا نتفهم جميعنا معاناة خصمه الفلسطيني (كامل الباشا) ونقع في غرام صلابته ونقائه وإمساكه عن التلفظ بما يجرح كرامته وإن تسبب في الإضرار بنفسه وموقفه القانوني؟

لماذا يتم تجاهل حقيقة أن هذا المهندس الصموت كمأساة هو أجمل وأنبل شخصية فلسطينية شوهدت على شاشة السينما لعقود؟ وهل كان من الأفضل أن نراه يلقي خطباً عصماء عن المعاناة الفلسطينية مثلاً كي يخلق التوازن الذي يتحدث عنه المعترضون؟

ياسر رجل بالغ ناضج شريف، يواجه طفلاً عنصرياً لا يتوقف عن إهانته فيحاول ألا ينزلق لمستواه رغم كل الساخطين والمتظاهرين في الخلفية. الفيلم يقول أن جوهر الرجلين واحد، لكن أحدهما أخذ الفرصة مئات المرات لأن يعاني ويحزن ويعبر عن ألمه فصار معجوناً بالمأساة، والآخر لم يُسمح له بالتعبير فصار قنبلة عنصرية موقوتة تنتظر لحظة للانفجار وإن كانت مشادة لفظية يمكن أن تنتهي في ثوان.

طوني وياسر رجلان كان من الممكن في عالم مواز أن يجمعهما أكثر ما يفرقهما. يجمعهما حبهما لإتقان العمل واعتداد كل منهما بنفسه وإخلاصه لأسرته، يجمعهما جوهر إنساني نبيل يختفي تحت ركام احتقان يعمل كل من حولهما على أن يظل باقياً. وفي لحظات عديدة يكاد أحدهما أن يعتذر أو يعترف وينهي كل هذه المهزلة، لكن القوى الخارجية تأبى أن تسمح لكل منهما إلا أن يصير رمزاً ولو على حساب سعادته وسعادة أحبائه.

فالمهم هي القضية ـ بطرفيها ـ وليذهب أصحابها للجحيم. أو كما قال المخرج الكبير يسري نصر الله في حوار حول فيلمه "باب الشمس": الجميع يحب القضية الفلسطينية لكن لا أحد يحب الفلسطينيين أنفسهم!

ما يفعله زياد دويري بنجاح كبير هو قلب ميزان تقييم الشخصيات من بداية الفيلم لنهايته. في البداية كان طوني وياسر ـ خاصة الأول ـ يتصرفان بغرابة وشطط أكبر من خلاف يمكن حله ببساطة، لكن مع المُضي قدماً يصيران هم الأكثر عقلاً في عالم كل ما فيه يدفعهما للجنون. فردية التجربة وتعلقها بحياة كل منهما وأسرته، والتفهم الجزئي والتدريجي الذي يتسلل لنفس كل طرف تجاه الآخر، يجعلهما يدركان ـ دون تصريح أو خطابة أو نهايات ميلودرامية ـ أن السير وراء الجماعة وقيمها ليس دائماً هو الخيار الأصوب أو الأنبل.

"قضية رقم 23" انتهت وطرفيها أكثر قرباً، بينما زاد من حولهم ـ ومن شاهدوا الفيلم ـ انقساماَ، وكأنه قدر هذه المنطقة أن تنتهي أي محاولة للتقارب إلى مزيد من التعصب والخطابة والتشرذم.

اقرأ أيضا

"شيخ جاكسون".. كيف يفتح الفن جروحنا وكيف يداويها؟

محمود حميدة يكشف: فاروق حسني رفض القانون الذي طلبته وهذا الفيلم الأقرب إلى قلبي