خاص- رسالة كارلوفي فاري(2): روشتة صناعة مهرجان سينمائي ناجح

تاريخ النشر: الجمعة، 7 يوليو، 2017 | آخر تحديث:
كارلوفي فاري

عندما وقفت النجمة الإيطالية جاسمين ترينكا، الحاصلة مؤخراً على جائزة أحسن ممثلة في مسابقة "نظرة ما" بمهرجان كان عن فيلمها "فورتوناتا"، كي تقدم الفيلم لجمهور مهرجان كارلوفي فاري الثاني والخمسين، نظرت بانبهار للجمهور الذي ملأ في العاشرة صباحاً جنبات المسرح الكبير الذي يتسع لـ 1146 مشاهد بخلاف من جلسوا في الممرات، وقالت بانجليزية بدائية "حجم الجمهور غريب ومدهش.. في إيطاليا لا أحد يحضر العروض الصباحية"!

عبارة ترينكا أتت على سبيل المزاح، لكنها وضعت يدها على أحد أهم أسباب خصوصية مهرجان كارلوفي فاري وتميزه: الجمهور. في كل مكان وكل قاعة عرض لجميع الأفلام بلا استثناء، مئات جاءوا للتمتع بفعل "المهرجان" الذي لا يكاد ينطبق بهذه الدقة في مكان آخر أكثر من المنتجع التشيكي الراقي.

فكلمة مهرجان الانجليزية festival بكافة اشتقاقاتها اللغوية ترتبط بالاحتفال والمتعة، وبالمشاركة الجمعية كذلك. وإذا كان مهرجان كان الأضخم والأهم في العالم هو مهرجان مغلق على المحترفين المعتمدين، يقتصر تواجد محبي السينما فيه على الوقوف في الشوارع وأمام القاعات أملاً في الحصول على دعوة من أحد الضيوف، وإذا كان مهرجان برلين بشعبيته الهائلة تتسبب إقامته في قلب الشتاء الأوروبي القارص في جعله فعالية كل أوجهها داخل القاعات المغلقة فقط، فإن شروط الاحتفال والاستمتاع الجماهيري تتحقق كلها في كارلوفي فاري.

الأرقام لا تكذب

مدينة هي بطبيعتها مقصد سياحي على مدار العام، تقيم مهرجانها في أجمل شهور السنة طقساً حيث الشمس ساطعة ومبهجة تدعو للخروج والاستمتاع، تحوّل شوارعها خلال فترة المهرجان أروقة له، في كل ركن موسيقى تُعزف وأطعمة ومشروبات متنوعة تُباع وأنشطة لا تتوقف، وتُخصص خطوط حافلات مجانية لكل من يحمل بطاقة المهرجان، وهي بطاقة يمكن شرائها لكل محب للأفلام يرغب في مشاهدتها، وليست حصرية أو مغلقة على المحترفين (وإن كانت لبطاقات المحترفين صلاحيات أوسع بطبيعة الحال).

لا يوجد إذن تجسيداً أدق لفكرة المهرجان الجماهيري الناجح. صحيح أن إدارة المهرجان تعاني كل عام أكثر في الحصول على أفلام جيدة لأسماء كبيرة في ظل تفضيل معظم كبار صناع الأفلام الذهاب إلى كان أو فينسيا (يقع كارلوفي فاري بينهما). لكن الأرقام تقول أن هذا لا يفرق كثيراً مع الجمهور.

بالطبع الحشود تزيد حول السجادة الحمراء عند وجود نجم أمريكي معروف (حضر كايسي أفليك وأوما ثورمان وجيرمي رينر هذا العام)، لكن الأرقام تقول أن النجاح الجماهيري ليس فقط حول السجادة الحمراء أو نجومها. العام الماضي على سبيل المثال المهرجان باع حسب الأرقام المعلنة على الموقع الإلكتروني 138.341 تذكرة (مائة وثمانية وثلاثون ألف تذكرة وكسور). وإذا علمنا أن عدد سكان كارلوفي فاري بضواحيها لا يتجاوز 49 ألف نسمة، عندها يمكننا أن نفهم حقاً ما الذي تعنيه كلمة مهرجان ناجح.

تذاكر مباعة تعادل ثلاثة أضعاف تعداد السكان تقريباً في مهرجان أشهر عرض أول يستضيفه هو فيلم المخرج الجورجي جورج أوفاشفيلي. الأمر إذن لا يتعلق بالحصول على حق العرض العالمي أو الأقليمي الأول لأفلام كبيرة، ولا باستقدام كبار نجوم العالم (فمن الصعب ربط النجاح بذلك إذا كان ضيوفك بحجم رينر وأفليك)، وإنما يرتبط بفهم متبادل ناجح بين طرفي معادلة كل منهم يحترم الآخر: المهرجان وجمهوره.

معادلة النجاح

المهرجان يعلم أن روحه هي جمهور يجب أن يستمتع، فيأتي له بمجموعة ممتازة من الأفلام المتوازنة بين الاكتشافات والعناوين المعروفة من مهرجانات كبرى سابقة، يفتح له باب استخراج بطاقات بسهولة من شبابيك التذاكر المنتشرة في كل مكان، وينصب له أكثر من ثلاثة متاجر رسمية يمكن منها شراء منتجات أنيقة تحمل شعار وبوستر المهرجان، تجد الجميع يستخدمونها فيتحول المهرجان إلى علامة المدينة التجارية خلال أيامه. جدول عروض دقيق يتم الالتزام به، وأفلام تُعرض بأفضل جودة ممكنة وبحضور أكثر من فرد من فريق الفيلم (يصل عدد الضيوف إلى سبعة أو ثمانية أشخاص في حالة الأفلام الآتية من دول شرق أوروبا المجاورة).

الجمهور في المقابل يتواجد بكثرة، يحضر من كل مكان حول جمهورية التشيك للتمتع بالصيف والشمس والأفلام. في فندق "سان مايكل" التاريخي الذي تاسس عام 1872 والذي سكنت فيه خلال أيام المهرجان تعرفت على ممرضة تشيكية اعتدنا أن نلتقي في الصباح الباكر لنأخذ نفس الحافلة إلى مقر المهرجان. السيدة تأتي كل عام من مدينتها التي تبعد حوالي أربعة ساعات عن كارلوفي فاري، تدفع ثمن الإقامة في فندق ليس بالرخيص، فقط كي تستمع بأفلام مهرجانها المفضل. وبالطبع داخل القاعات تلتزم هي ومن حولها بآداب المشاهدة، فلا أحاديث ولا رنين هاتف ولا أطفال يبكون داخل الصالات، لأن السينما مكان مقدس يستحق الاحترام.

هذا حديث ذو شجون، محركه مقال كتبه الصديق الناقد رامي عبد الرازق عن حال المهرجانات المصرية، التي تُصر جميعها على رفع الهدف الكوميدي "تشجيع السياحة" بينما هي عاجزة حتى عن تشجيع سكان الشارع الذي يستضيف الأفلام على دخول قاعات تعرض الأفلام مجاناً. والحديث قد يطول عن ثقافة المشاهد المصري بشكل عام في كل العروض العامة، وعن قيمة السينما كفن عند الغالبية العظمي من المصريين، وعن مهرجانات تعرض الأفلام دون توافر الحد الأدنى من الجودة التقنية للعرض، ولا الجودة التنظيمية لما يحيط به.

تزامن مقال عبد الرازق مع معايشتي لمهرجان هو نموذج للنجاح على صعيد العلاقة مع جمهور ومدينة يقوم حقاً وصدقاً بتشجيع توافد آلاف الضيوف عليها كان الدافع الرئيسي لترك الأفلام جانباً في هذه الرسالة، من أجل رصد نظام وحقائق أعتقد أن معرفتها لا تقل أهمية لدى القارئ عن متابعة أهم الأفلام المعروضة في المهرجان، والتي سنعود لها في رسالة تالية وأخيرة، نرصد فيها الأفلام الفائزة بجوائز الكريستالة الذهبية، وأهم العناوين التي يجب على محبي السينما أن يتحينوا الفرصة لمشاهدتها في الشهور التالية.

اقرأ أيضا

خاص- رسالة كارلوفي فاري: سينما شرق أوروبا.. دراما تحت الجلد


"هروب اضطراري".. تعاقد جماهيري ناجح.. لمرة واحدة فقط

"الأصليين".. كيف تُفسد الرغبة في كل شيء مشروع فيلم عظيم؟