خاص- رسالة كارلوفي فاري: سينما شرق أوروبا.. دراما تحت الجلد

تاريخ النشر: الاثنين، 3 يوليو، 2017 | آخر تحديث:
مهرجان كارلوفي فاري

إذا كُنت في أوروبا الشرقية فشاهد دراما أهل أوروبا الشرقية، شعار لابد وأن يرفعه كل من يزور بلدة كارلوفي فاري، المنتج التشيكي الشهير بالينابيع الساخنة والذي يستضيف حالياً الدورة الثانية والخمسين من مهرجانه السينمائي.

سبب العبارة هو السيادة الكاملة لدراما شرق أوروبا على برنامج المهرجان، الذي لا يُخصص فقط مسابقة كاملة لسينما المنطقة هي مسابقة "شرق الغرب East of the West" التي يعتبرها الخبراء أفضل مكان سنوي لاكتشاف أهم مواهب المنطقة، بل وتضم مسابقته الدولية 12 فيلماً من بينها ثمانية شرقية، أي أن 20 فيلماً من أصل 24 تتنافس على المسابقتين الأكبر تأتي من البلقان والبلطيق وصولاً لضفاف البوسفور.

ما يدركه كل من يتابع سينما هذه البقعة من العالم، لاسيما بشكل مكثف كما يحدث في كارلوفي فاري، هو هذا التقارب الشديد ليس فقط في قائمة الهموم والقضايا المطروحة، وإنما في الفهم العام للسينما والفلسفة التي تُصنع من خلالها الأفلام. هارمونية عامة تسيطر على غالبية صناع سينما المنطقة التي فشلت الأيديولوجيا السياسية في إبقائها موّحدة، وبقت الفنون بمفردها تصرخ بتقارب أخيلة البشر.

المشكلات الأسرية، الفساد السياسي، ومعاناة الفرد الوحيد في مواجهة العالم، تكاد تكون هي التيمات العامة التي دائماً ما تهيمن إحداها على أي فيلم أوروبي شرقي بغض النظر عن مستواه، مع ميل مستمر للتبسيط والبعد عن أي بهرجة، وكأن هناك إدارك عام لأن هناك كنز من الدراما المخبأة تحت جلد كل إنسان هنا. كنز يكفي التفتيش عنه لصناعة فيلم بديع دون مؤثرات خاصة أو استعراض للعضلات.

أرثميا.. الحب بين أسرّة الموت

أحد أبرز النماذج لما سبق من بين أفلام المهرجان هو الفيلم الروسي "أرثميا Arrhythmia" لبوريس خليبنيكوف الذي اختاره المهرجان ليكون فيلم افتتاح المسابقة الدولية. الأرثميا كما قد يعلم البعض هي الاسم العلمي لاضطراب ضربات القلب. عنوان مناسب لفيلم تدور كل أحداثه داخل أروقة المستشفى وعربات الإسعاف.

زوجان يعملان في المكان نفسه كمسعف وطبيبة طوارئ، يمتص العمل جُلّ ساعات يومهما، ليعود كل منهما للمنزل محملاً بقدر ضخم من الألم والسخط والإرهاق تجعل تجربة التعايش مع آخر ليست بالأمر الهين، وبالتالي تتقافز علاقتهما كقلب يعاني الأرثميا، موجات انقباضية وانبساطية لا تتوقف.

المخرج يجيد رسم خريطة لمشاعر المشاهدين تحددها الدراما، التي تُقدم الزوج أوليج في الفصل الأول من الفيلم مرتكزة على تصرفاته خارج العمل، ليظهر كرجل أخرق سكير لا يتوقف عن إثارة أعصاب زوجته، قبل أن يحوّل خليبنيكوف الدفة إلى متاعب المهنة والفساد الإداري الذي يجعل مهنة المسعف هي التلاعب مع الموت والتنصل منه يومياً، لندرك مع توالي الأحداث أن ما يفعله أوليج هو أقل بكثير مما قد يفعله كل منّا لو كان مكانه.

عندما تصير حياة البشر مهما كانت حالتهم إلى مجرد فعل اعتيادي، لا تكترث الإدارة الصحية لإنقاذه قدر اهتمامها بإنهاء اليوم دون التورط في خطأ يستحق العقاب، فلابد أن يقود ذلك من يعمل داخل النظام الصحي إلى الجنون. "ليس من المهم أن تنقذ حياة المريض، المهم ألا يموت داخل ورديتك" يقولها مدير وحدة الإسعاف صراحة لأوليج، وعلى الرجل أن يضع إنسانيته وخبرته جانباً كي ينفذ الأوامر. ألا يقود هذا رأساً للجنون؟

لكن أجمل ما في "أرثميا" إنه ليس فيلماً عن فساد النظام الصحي الروسي رغم تشبعه بكافة تفاصيل الأمر، وإنما هو فيلم عن الحب. الحب الذي ينشأ في أصعب الظروف، ويواجه أقسى الانعطافات والتحديات حتى يؤمن الجميع باستحالة استمراره، ليعود ويطفو على السطح ليخبرنا أنه لا قيمة لعشق لا يُنقذ المرء من كوارث يومه.

بستان الرمّان.. وشرخ يثقله الزمن

إذا كان "أرثميا" هو أبرز عناوين المسابقة الدولية حتى نهاية يوم المهرجان الثالث، فالفيلم الأذربيجاني "بستان الرمان Pomegranate Orchard" للمخرج إيلجار نجف يبدو هو العمل الأكثر بروزاً في مسابقة "شرق الغرب" إلى الآن.

في قرية أذربيجانية صغيرة يعيش جد مع حفيده وزوجة ابنه في بستان الرمّان الذي يملكه الجد، مكتفين ببعضهم البعض بعدما هرب الأب وتركهم منذ 12 سنة، ليعود هذا الابن للبيت في ليلة ممطرة، مخبراً أبيه أنه يعيش الآن في روسيا، وأنه عاد ليأخذ زوجته وابنه كي يعيشا معه هناك.
نقطة بداية درامية تبدو بسيطة على ما فيها من مشاعر معقدة: الابن يحمل شعوراً بالذنب تجاه والده وأسرته، الجد لا يريد أن يسامح ابنه لكنه يشعر بالحنين إليه، الزوجة التي فقدت رجلها كل هذه السنوات وجدته أمامها من جديد، والحفيد الذي لم يعرف أباً طيلة حياته يظهر له رجل يريد أن يأخذه ليعيش في بلد آخر.

غير أن هذا التعقيد ليس هو كل شيء، بل هو مجرد بداية لسلسلة من الاكتشافات التي يكشفها المخرج تباعاً عن ماضي الشخصيات وحاضرها، لنعرف أكثر عن سبب هروب الابن من بيت والده، وعن السر الحقيقي لعودته، من خلال أحداث تسير بهدوء وفي مشاهد طويلة يستغل فيها إيلجار نجف مواقع التصوير البديعة التي اختارها لتحتضن مشاهد فيلمه.

الزمن يجعلنا ننسى بعض الأشياء، لكنه يعمق أموراً أخرى، من بينها الشرخ بين الأب وابنه. أي أب لابد وأن تربطه علاقة ثقة مطلقة بابنه، اهتزازها حدث مؤلم، وشرخها كاهله يُثقل بمرور الزمن وتعاقب الأيام. وحتى عندما تبدأ المياة الراكدة في التحرك ببطء أسفل الجسور، تأتي الاكتشافات لتجعل من "بستان الرمان" لوحة تشكيلية حزينة عن الأزمات العائلية عندما تكون غير قابلة للتصحيح.

المزيد والمزيد من الدراما يعدنا بها كارلوفي فاري، المهرجان الذي يحفل برنامج دورته الثانية والخمسين بأفلام لمخرجين قد لا نعرف معظمهم مسبقاً، لكن ما نراه من أفلامهم يُثبت أن الاكتشاف هو أحد أبرز فضائل المهرجانات الكبرى، إن لم يكن أبرزها على الإطلاق.

اقرأ أيضا

"هروب اضطراري".. تعاقد جماهيري ناجح.. لمرة واحدة فقط

"الأصليين".. كيف تُفسد الرغبة في كل شيء مشروع فيلم عظيم؟