رسالة كان (5): سباق السعفة الذهبية.. هانيكه لانثيموس وشخصية جودار يتنافسون

تاريخ النشر: الثلاثاء، 23 مايو، 2017 | آخر تحديث:
مهرجان كان السينمائي الدولي

أحد عشر فيلماً تم عرضها من المسابقة الدولية لمهرجان كان السبعين، أي أكثر من نصف المسابقة التي تضم 19 عملاً تتبارى على السعفة الذهبية، أرفع جائزة سينمائية في العالم. رصدنا في رسالة سابقة الأعمال الخمسة الأولى، ونواصل التحليل الكامل لكل أفلام سباق السعفة الذهبية.

120 دقة في الدقيقة 120 Beats Per Minute (فرنسا)

عندما تقرأ في ملخص فيلم إنه يتحدث عن "آكت أب" أحد أنشط الجماعات التي نشطت في تسعينيات القرن الماضي بفرنسا، للمطالبة بحقوق مرضى الأيدز والتوعية من أخطار المرض، فمن الطبيعي أن تتوقع فيلماً من أفلام القضية التقليدية وتتسائل عن الطريق الذي سلكه الفيلم إلى مسابقة كان. لكن مشاهدة فيلم المخرج روبن كامبيلو تؤكد أن التوقعات كثيراً ما تكون عدواً للسينما.

"120 دقة في الدقيقة" فيلم بالغ الحميمية، متدفق الإيقاع، يمتلك نصاً مؤثراً وفريق ممثلين استثنائي يجعلون المشاهد مثل الأشخاص الذين يحضرون اجتماع المشهد الافتتاحي للتعرض على المجموعة والتفكير في الانضمام لها، وبنهاية المشهد يبدأون في التصويت وكأنهم صاروا بالفعل أعضاء، والجمهور أيضاً صار متعاطفاً مع هؤلاء الشباب المفعمين بالحيوية بينما يأكل المرض أجسادهم.

الفيلم خال تماماً من الموائمات الأخلاقية، فرنسي بامتياز، لا يختبأ خلف أقنعة ويقولها بوضوح: من حق الإنسان اختيار ميوله الجنسية، من حق المريض تلقي العلاج، من حق المراهقين أن يوجد من يوجههم للجنس الآمن فلا يجد مراهق نفسه مصاباً بالفيروس المخيف، من حق من تورط في المخدرات أن يعثر على محاقن نظيفة حتى لا يقتله الإيدز قبل الإدمان. من حق الإنسان عموماً ألا يرتبط الحفاظ على حياته بتقييم أخلاقه وتصرفاته، وهذا موقف بالغ النبل لا يبدو أننا سنعيش لنرى من يأمن لإدراجه في فيلم آت من منطقتنا.

يعيب الفيلم زمنه الممتد أكثر مما ينبغي، مائة وأربعون دقيقة رقم كبير على فيلم حقوقي مهما كان ممتعاً، ولولا غياب فضيلة الاختزال على أجزاء من ثلث الفيلم الأخير، لكان "120 دقة في الدقيقة" أحد أكمل أفلام المسابقة حتى الآن.

التقييم: ****

الرهيب Redoutable (فرنسا)

قبل المهرجان كان هو الفيلم الذي يترقبه السينيفيليون بشدة. كيف لا وهو فيلم يخرجه ميشيل أزانافيسوس صانع "الفنان" عن أستاذ الموجة الفرنسية الجديدة جان لوك جودار، وبالتحديد عن مرحلة من أهم وأحرج مراحل حياته: فشل فيلمه "الصينية" عام 1967 الذي أحب بطلته آن ويازيمسكي وتزوجها، ثم اندلاع ثورة 1968 الشبابية وانخراطه فيها وإعادة تقييمه لمسيرته الفنية.

ثم جاء تأجيل العرض بسبب إنذار خاطئ بوجود قنبلة وكأن القدر يرسم ظروف عرض مثالية لفيلم عن الرجل الذي أوقف مع زملائه مهرجان كان عام 1968 اعتراضاً على إقامته والشوارع الفرنسية مشتعلة بالمظاهرات الغاضبة، وهو حدث يتضمنه الفيلم المأخوذ عن كتاب ويازيمسكي عن فترة زواجها بجودار، الذي من ناحيته لم يهتم بالفيلم واعتبره مجرد فكرة سخيفة.

لا يمكن القول إنها فكرة سخيفة، ففيلم "الرهيب" يقدم بالفعل حكاية شيقة لها حس كوميدي واضح منبعه شخصية جودار الساخرة والتي يجسدها لوي جاريل بنجاح كبير. وأهم ما فيه هو إنه ليس عن علاقة الرجل بزوجته قدر كونه عن أزمة نفسية يعيشها مبدع استثنائي في وقت تتناقض فيه قناعاته مع الواقع. هو يؤمن أن الشباب والجماهير على حق دائماً، والجماهير لم تعد معجبة بأعماله وأقواله كما كانت قبل أعوام.

أزمة شخصية إبداعية في إطار كوميدي، هذا هو توصيف دراما الفيلم، الذي يستخدم مخرجه في بعض مشاهدة كثير من الألاعيب البصرية التي جربها جودار خلال أفلامه في الستينيات. لكن رغم الفكرة والحيل، يظل بناء الفيلم العام أمريكي تماماً في تقديمه للشخصيات وتصعيده للصراع حتى النهاية. بصورة تجعلنا نقول إنه فيلم جيد، لكن أزمته تكمن في كونه عن جودار لا عن مخرج آخر.

التقييم: ***

حكايات آل مايروفيتز The Meyerowitz Stories (الولايات المتحدة)

قد يبدو الأمر عسيراً على التصديق لكن المخرج نواه بامباك وضع آدم ساندلر وبين ستيلر ضمن المرشحين بقوة لجوائز التمثيل في مسابقة مهرجان كان. في حوار مصور مع مجلة "هوليوود ريبورتر" يقول بامباك إنه استمتع باختيار فريق الفيلم لأنه فيلم عن عائلة، وأفراد العائلة هم دائماً نسخاً مختلفة للشخص نفسه، يمكننا القول أن هذا هو أدق تعبير عن سر نجاح الفيلم درامياً قبل نجاحه على مستوى التمثيل.

كوميديا عائلية لابد أن تذكرنا بأفلام وودي آلان، بالشخصيات الساخرة الذكية وغير المتحققة. النحات العجوز متوسط النجاح الفاشل في علاقاته الزوجية (داستن هوفمان)، زوجته الرابعة الفنانة التي لا تفيق من السكر (إيما طومبسون)، وأبناءه الثلاثة متبايني الشخصية والميول (ساندلر وستيلر وإليزابيث مارفل). جميعهم شخصيات منفتحة صريحة قادرة على التعبير عن مشاعرها، وكلهم يشعرون بالفشل الإنساني والمهني.

حوارات لاذعة مضحكة ترسم العلاقة بين الشخصيات وخاصة بين الرجال الثلاثة: الأب الذي يهيم بابنه الأصغر ولا يرى غيره لكنه لا يخبره بهذا أبداً، والابن الأكبر الذي يحب الوالد الذي لا يبادله الشعور ولا يحدثه سوى عن أخيه غير الشقيق، والابن الأصغر البعيد بنجاحه المهني الذي يمنحه تعويضاً ينكشف زيفه عند أول اختبار.

وإذا كان "أوكجا" فيلم "نتفلكس" الأول هو فيلم لشاشة كبيرة تعنتت الشبكة في منعه من الخروج للقاعات، فإن "حكايات آل مايروفيتز" هو الصورة المُثلى للدراما الصالحة للشاشات الصغيرة، فأدواته الرئيسية هي النص والحوار والممثلين، وخلفهم مخرج يعلم كيف يفعل من الإحباطات الصغيرة حكاية إنسانية رقيقة.

التقييم: 1/2***

نهاية سعيدة Happy End (فرنسا - ألمانيا - النمسا)

إحباط كبير سيلقاه محبو النمساوي الكبير مايكل هانيكه بمشاهدة فيلمه "نهاية سعيدة"، الفيلم الذي وضعه المحبون قبل بداية المهرجان على رأس مرشحي السعفة الذهبية، أملاً في أن ينال هانيكه سعفته الثالثة على التوالي عن آخر ثلاثة أفلام صنعها (بعد "الشريط الأبيض" و"حُب").

السينما ليست بطولة للكرة، والحديث عن تتويجات متتالية لا محل له من الإعراب أمام سؤال الإتقان، وليس الجودة. الجودة هناك بالطبع فمن العسير تصوّر انخفاض إنتاج هانيكه عن حد معين في التكوين وتوجيه الممثلين والأفكار الكبيرة. غير أن "نهاية سعيدة" جاء مجرد تنويعة لما سبق، إحالة لعدة أفلام رائعة صنعها الرجل من قبل، وعمل يفتقر في أغلب فتراته لقدرة حقيقية على التواصل مع مشاهده.

قرابة الثمانين دقيقة من السكون الذي يحبه هانيكه: لا شيء يحدث حقاً، لكنه هذه المرة سكون في حياة شخصيات لا نعرفها ولا نفهم دوافعهما. نعرف أنهم أفراد عائلة بالغة الثراء تعيش في كاليه مدينة اللاجئين، وأنهم رغم ثروتهم تعساء جداً لسبب غير مفهوم. هذا الركود يستمر طويلاً دون ما يضيفه المخرج لما سبق وأعلنه مرات عديدة "الرأسمالية سيئة والأثرياء أقذار تعساء". لا اعتراض.. لكننا في انتظار ما نشاهده!

الفيلم الحقيقي يبدأ في النصف ساعة الأخيرة، باكتشاف كون الجد (جان لوي ترانتينيان) هو امتداد للشخصية التي لعبها في "حُب"، وأن الفيلم نفسه هو تتمة لما بدأه هانيكه في فيلمه السابق حول الموت للهرب من تعاسة الحياة. اكتشاف تتصاعد معه دراما الفيلم وتُغلق الأقواس، لكن للأسف بعدما يكون الاهتمام إزاء العمل ككل قد زال عند أغلب من يشاهده. فيلم سيسقط بعد سنوات من فيلموجرافيا مخرجه المدهشة.

التقييم: 1/2**

قتل غزال مقدس The Killing of a Sacred Dear (إيرلندا ـ بريطانيا)

فيلم خلافي يعود به اليوناني يورجوس لانثيموس لكان بعد فيلمه فائق الشهرة "سرطان البحر". مرة أخرى التعاون مع كولين فاريل، مرة أخرى الأساطير اليونانية مصدراً للإلهام، ومرة جديدة مخرج قادر على خلق عالم خيالي كامل، وإن كان هذه المرة عالماً معاصراً وليس مستقبلياً مثل الفيلم السابق.

مصدر إلهام لانثيموس هي أسطورة أجاممنون الذي تطلب من الآلهة قتل ابنته، ومقابلها في"قتل غزال مقدس" هي اللعنة التي يتعرض لها جراح القلب ذي الحياة الناجحة بسبب خطأ من الماضي، والخيار الصعب الذي عليه أن يأخذه لإنقاذ عالمه: أن يقتل أحد أفراد أسرته!

الحكاية لا تنكشف بهذه السهولة، وإنما تأت بعدما يأخذنا المخرج الموهوب إلى عالمه الخاص، بشخصياته التي تتحرك كالروبوت وتتحدث بنبرة صوت لا تتغير، تتفوه بعبارات تبدو جريئة وغير ملائمة للموقف، لكنها عبارات تحمل داخلها دوماً أكثر من دلالة تختلف كلها عما تظهره الشخصية.

شريط صوت بديع من الموسيقى الكلاسيكية يصاحب المأساة المتصاعدة، وعلاقات مربكة مثيرة للريبة على رأسها الصداقة الغريبة بين الجراح الخمسيني وصبي مراهق. صداقة الجنس يحلق حولها دون أن يباغتها، قبل أن نعي بتحليق الموت جواره في الأفق. مع أداء مدهش من فاريل ونيكول كيدمان، وظهور مؤثر في مشهد وحيد لنجمة إغراء التسعينيات إليشيا سيلفرستون.
حضور الصحفيين في كان قابل الفيلم بردود أفعال متناقضة تماماً، بين من صاح رافضاً الفيلم في نهايته واصفاً مخرجه بالفاشية، وبين محب لهذا الفيلم الخاص الذي لا يشبه سوى سينما صاحبه. ومن العسير توقع إلى أي الرأيين ستميل لجنة بيدرو ألمودوفار.

التقييم: ****

اليوم التالي The Day After (كوريا الجنوبية)

كثير من المخرجين قاموا بتقديم ثلاثيات فيلمية. أمر يأخذ عادة سنوات طويلة لإكماله، لكن الكوري الجنوبي هونج سانجسو تمكن من إنهاء ثلاثيته وعرضها خلال ثلاثة أشهر لا أكثر. بدأها في برلين فبراير الماضي بـ "على الشاطئ وحيدة في الليل"، وأكملها بفيلمين يعرضان دفعة واحدة في كان الحالي: "كاميرا كلير" خارج المسابقة و"اليوم التالي" داخلها.

الأفلام الثلاثة بطولة الجميلة كيم مينهي التي انتزعت جائزة التمثيل في برلين وقد تفعلها في كان لتكون أول من ينالها في نفس العام من المهرجانين الأكبر. والأفلام الثلاثة يقدم فيها سانجسو دراما العلاقات بأكثر شكل لا تتوقع أن يسفر عن فيلم جيد. مشاهد طويلة ممتدة لشخصيات تجلس حول طاولة طعام تتحدث عن مشاعرها.
سانجسو هو الوحيد الذي يمكنه أن يحول ساعة ونصف من الحديث حول أطباق الطعام الصيني وكؤوس الخمر المحلي، بصوتيات اللغة الكورية المزعجة للأذن الشرقية، إلى دراما ممتعة وشخصيات تقع في حبها.

في "اليوم التالي" ينجح بوضوح في جذب المشاهد إلى حكاية الكاتب والناشر الشهير الذي تنكشف خيانته لزوجته التي تتهم بالخطأ مساعدته الجديدة في يوم عملها الأول، ليقرر البطل استغلال الموقف بطرد الموظفة الجديدة واستكمال علاقته في أمان من شكوك الزوجة.
حبكة طريفة لكنها ليست جوهر العمل، فأبرز ما في فيلم سانجسو هو الحوار الذكي المكتوب بين الشخصيات، والمصوّر دائماً في لقطة واحدة طويلة لا يخجل صاحبها في الانتقال يميناً ويساراً بين الوجوه واستخدام حركات الزووم إن والزووم آوت لنقل تعابير الوجه. باختصار يستخدم كل الوسائل سيئة السمعة فيخلق منها فيلماً جيداً سيكون منافساً في نهاية المهرجان.

التقييم: 1/2***