رسالة كان (4): الفيلم التونسي "على كف عفريت".. نجاح ولكن

تاريخ النشر: الاثنين، 22 مايو، 2017 | آخر تحديث:
لقطة من فيلم "على كف عفريت"

تكاد تكون الدورة السبعين لمهرجان كان السينمائي الدولي واحدة من أكثر الدورات التي تشهد حضوراً ونشاطاً من السينمائيين العرب سواء الصحافة أو صناعة الأفلام أو المنتجين والموزعين، بينما هي ـ للأسف ـ من أقل دورات المهرجان من حيث مشاركة الأفلام العربية.

المشاركة تقتصر على فيلمين طويلين في مسابقة "نظرة ما" هما "على كف عفريت" للتونسية كوثر بن هنية، و"في انتظار السنونوات" للجزائري كريم موساوي، بالإضافة لفيلم دنماركي بريطاني نحسبه عربياً لموضوعه وأصول مخرجه هو "رجل يغرق" للدنماركي الفلسطيني مهدي فليفل. بالإضافة لعرض فيلم اللبناني جورج نصر "إلى أين؟" في قسم الكلاسيكيات بمناسبة مرور ستين عاماً على مشاركته في دوره 1957.

أما البرامج الموازية "نصف شهر المخرجين" و"أسبوع النقاد" والتي عادة ما كانت تختار أفلاماً عربية فقد غاب عنها المخرجون العرب كلياً، اللهم إلا برنامج عرض من أربعة أفلام قصيرة بعنوان "لبنان فاكتوري"، يصعب اعتبارها اختياراً للمشاركة بحكم كونه مشروعاً مقرراً من العام الماضي تم تصوير أفلامه بغرض العرض في المهرجان بغض النظر عن مستواها.

هذا التواجد المحدود للأفلام يجعل كل فيلم حدث من الطبيعي أن يهتم به جميع الحضور العربي، وهو ما جرى مع "على كف عفريت" الذي شغل حضوره وتبادل الأحاديث والآراء حوله الموجودين خلال اليومين الأخيرين.

تجربة ثالثة لبن هنية

كوثر بن هنية مخرجة وضعت اسمها على خريطة السينما العربية بل والدولية منذ أعوام، وبالتحديد منذ فيلمها الطويل الأول "شلّاط تونس" الذي شغل الرأي العام التونسي لفترة بسبب موضوعه وأسلوبه، فهو فيلم تسجيلي مختلق "موكيومنتري mocumentary" يخلط الواقع بالخيال في بحث عن هوية الشلّاط، وهو شاب كان يتحرك على دراجة بخارية ويقوم بالاعتاد على النساء عبر إصابتهم بنصل حاد.

الشكل السردي الذي اختارته بن هنية لفيلمها الأول جعل آراء كثيرة تأخذ من العمل موقفاً حاداً باعتباره عملاً يضلل من يشاهده بشكله الذي يوحي بأن ما يدور على الشاشة حقيقي. وهي نوعية آراء متوقعة بالنسبة لفيلم خلافي بطبيعته، لكنها لا تنفي تميز مستوى الفيلم، وجاذبيته المناسبة حتى للذوق الجماهيري، ناهيك عما يحمله من تحليل اجتماعي ذكي لظاهرة العنف ضد المرأة وأصولها.

وفي العام الماضي وبالتحديد في مهرجان لوكارنو عرضت بن هنية فيلماً تسجيلياً هادئاً بعنوان "زينب يكره الثلج" فازت عنه في نهاية العام بالتانيت الذهبي لأيام قرطاج السينمائية. قبل أن تعود كوثر في كان بفيلم "على كف عفريت" الذي نتوقع أن يعيدها لساحة الرأي العام، ويفتح جدلاً عن مضمونه وشكله لاسيما مع احتفاء مهرجان كان به، وهو أمر من الصعب تخيل أن المخرجة والمنتج حبيب عطية لا يتوقعانه.

الموضوع المأخوذ عن واقعة حقيقية عن فتاة تدعى مريم تسهر في حفل جامعي مع أصدقائها، وخلال وجودها على البحر مع شاب تعرفت عليه يهاجمها رجال أمن تابعين للشرطة ويقومون باغتصابها، لتحاول مريم على ليلة واحدة هي كل زمن الفيلم الذي صورته المخرجة في تسعة فصول كل منها مكوّن من لقطة واحدة طويلة، تحاول أن تثبت حالتها طبياً وأن تتقدم ببلاغ عما حدث لسلطات الأمن التي يبدو العاملين فيها مشغولين باتهام مريم في شرفها، ومحاولة إثنائها بشتى الطرق عن استكمال شكايتها لما قد تسببه من ضرر للشرطة التونسية.

سؤالا المضمون والشكل

الجدل سيثار بالتأكيد حول صورة جهاز الأمن التونسي الذي يبدو في "على كف عفريت" أشبه بتنظيم عصابي يحاول حماية أفراده حتى بعد التأكد من ارتكابهم للجريمة، وهذا ينتمي للأمور التي عادة ما تتحسس منها الشعوب العربية بالنسبة للأفلام التي تحتفي بها منصة غربية مثل مهرجان كان.

غير أن ما يحمله الفيلم من أفكار أو تقييم للأمن التونسي وجماعاته هي قضية لا يجب أن يتوقف عندها تحليل نقدي طويلاً، فمن حق صانع الفيلم أن يمتلك قناعاته وأن يعبر عنها بمنتهى الحرية. وحتى إن كان الفيلم بطبيعته مرتبطاً بقضية فالأمر يظل ـ على الأقل في رأي كاتب السطور ـ فرعياً بالمقارنة بالسؤال الأهم وهو الشكل أو الأسلوب الذي اختارته المخرجة لفيلمها.

بن هنية اختارت كما أوضحنا أن تصوّر فيلمها في تسع لقطات فقط كل منها يمثل فصلاً يحمل رقماً في بدايته. وهو خيار ترجع له كافة مميزات الفيلم وعيوبه، وكلاهما واضح إلى حد كبير.

الميزة الأهم بالتأكيد هي الواقعية. غياب المونتاج بمعناه الكلاسيكي وبقاء الشخصيات على الشاشة أكثر وقت ممكن، ومتابعة الحدث في زمنه الفعلي مع التخلص من الوقت الزائد في الليلة خلال الانتقال بين اللقطات / الفصول التسعة، منحوا الفيلم حساً واقعياً لا يمكن إنكاره. حساً لا يضيف فقط بإشعار المشاهد إنه داخل المستشفى وقسم الشرطة مع مريم، وإنما يساعد في تصعيد الألم إزاء ما تتعرض له من سخف وشك وتهديد وتنكيل من قبل من يفترض أن يقوموا بحمايتها، فالحفاظ على الزمن يجعلك دائماً تفكر مع مريم وتقول الجملة التالية معها، وهو شكل تماهي ملائم للغاية للفيلم.

عيوب تفسد الكثير

أما العيبين الرئيسيين والناتجين أيضا عن "تكنيك" السرد فهما جودة التمثيل وغياب الفرصة الثانية في التكثيف. هناك مشكلة واضحة للعيان في طاقم التمثيل بالفيلم، وعلى رأسه البطلة مريم الفرجاني التي تبدو مهمة الإمساك بأداء الشخصية أكبر من قدرتها أو خبرتها، سواء داخل اللقطة المشهدية الممتدة كوحدة، أو في توالي اللقطات وتطور الشخصية مع توالي الأحداث، فتفقد في أكثر من مرة ـ خاصة عند لحظات الانهيار والبكاء ـ البوصلة النفسية لفتاة تعترض لما وقع للبطلة.

مشكلة التمثيل تظهر أيضاً في التفاوت الملحوظ بين أداء ممثلي الأدوار الداعمة، ليس في جودته وإنما في المدخل الذي يسلكه كل منهم للشخصية، فبينما يؤدي البعض دوره من مساحة واقعية قاتمة ملائمة لجو الفيلم العام مثل الشاذلي العرفاوي في دور الضابط الذي يحاول تهديد البطلة، يلعب آخرون أدوارهم بصورة كاريكاتورية غير متماشية إطلاقاً مع الفيلم، وعلى رأسهم الضابط ذو الأوشام والقميص الأسود، الذي يبدو حرفياً آتياً من فيلم آخر تؤدى فيه الشخصيات بهذه المبالغة الأدائية.

الفكرة هنا أن اللقطة المشهدية (الفصلية هنا) هي اختبار بالغ الصعوبة للممثل والمخرج على حد سواء، اختبار نجحت بن هنية كثيراً في شقه الدرامي وتعثرت في شقه التمثيلي. وإذا كان الممثل يفترض أن يأتي على رأس قائمة أولويات المخرج، فإن كوثر بن هنية لم تتمكن بالتأكيد من تلبية هذه الأولوية بنجاح.

العيب الثاني هو غياب فرصة إعادة النظر من أجل التكثيف والتخلص مما لا يحتاجه الفيلم بصورته النهائية. عندما لا يكون هناك مجال للقطع أو الاختصار فلابد أن يتم هذا على الورق قبل الدخول لموقع التصوير. "على كف عفريت" يضم للأسف إطناباً في بعض أجزائه وتكراراً لتصرفات وأفعال كان من الممكن اختزال بعضها.

ما هي مثلاً القيمة المضافة من اكتشاف أول ضابط قام بالتحقيق مع مريم أن صديقها يوسف ناشط ثوري التقى به وقت اعتصام القصبة؟ لا تأثير درامي يذكر بخلاف محاولة الزج بالثورة في الأحداث، ونسب منظومة القيم المدافعة عن الحقوق الفردية لمن يمثلها، فيوسف هو المناضل الذي لا يكذب والذي يعرف حقوقه ويصر على أن تنتزع مريم حقوقها حتى لو دفعها الخوف للتفكير في التراجع.

وجود شخصية يوسف أمر جوهري درامياً، وقناعتنا بما يقوله ويفعله أمر بديهي لكل من له عقل. أمر لم يكن بحاجة لتصنيفه وإرغام المشاهد على تصنيف البشر لمعسكرين أحدهما هو القانون واحترام الحريات والآخر هو التجاوز والاستعلاء وإهدار كرامة البشر. ربما كانت أنسنة الوضع هي الخيار الأفضل، أنسنة لم يعد من الممكن التخلص مما يعيقها بسبب كونه جزءً من لقطة مشهدية ممتدة لا يمكن القطع من داخلها.

فيلم جيد ولكن

في النهاية تجدر الإشارة لأن "على كف عفريت" هو فيلم جيد في مجمله، مشوق ومتماسك درامياً، ويطرح للنقاش موضوعاً ضرورياً في عصرنا ومجتمعنا الحاليين. لكنه عمل يحمل كثير من عيوب الفيلم الروائي الطويل الأول للمخرج، بالرغبة في الاستعراض الأسلوبي الذي يأتي أحياناً بتأثير سلبي على الدراما، وهو بالضبط من أخذ الكثير مما كان يمكن أن يصل له الفيلم من جودة.