أحمد شوقي
أحمد شوقي تاريخ النشر: السبت، 11 مارس، 2017 | آخر تحديث: السبت، 11 مارس، 2017
المخرج المرشح للأوسكار ريثي بان

بلغة الأرقام والتواريخ، هو أول كمبودي يترشح لجائزة الأوسكار عندما ترشح فيلمه "الصورة الناقصة" لأحسن فيلم أجنبي عام 2014، وهو أول كمبودي ينال جائزة رسمية في مهرجان كان عندما نال جائزة قسم "نظرة ما" عن نفس الفيلم، بعد ثلاث مشاركات سابقة وجائزة فرعية نالها في المهرجان السينمائي الأكبر. أما بلغة السينما ـ وهي الأهم ـ فهو واحد من أكثر صناع الأفلام المعاصرين أصالة في الشكل والمضمون.

ريثي بان الذي هرب مع عائلته من كمبوديا في فترة حكم الخمير الحمر الدموية، ليموت أفراد عائلته جوعاً وإرهاقاً ويصل هو بشق الأنفس إلى مخيمات اللاجئين، ليعيش في فرنسا ويتعلم فيها السينما، ويصير بمرور الأعوام أشهر وأهم من قدم أفلاماً تتناول مرحلة الخمير الحمر بكل ما فيها من دموية يصعب تخيّل وقوعها في سبعينيات القرن العشرين.

بان كان أحد الأساتذة الذي استضافهم ملتقى "قُمرة" للمشروعات في الدوحة، وكان لنا معه هذا الحوار الخاص.

- بمرور الوقت كوّنت في أفلامك علاقة بين الشكل والمضمون. في الأفلام الأولى كان الموضوع أو القضية هو المهيمن على العمل، لكن مع توالي الأفلام وبالنظر لأعمالك الأخيرة نجد أن الشكل والمضمون متكاملان بشكل لا يمكن فصله. هل من الممكن أن تحدثنا عن ذلك؟

الشكل والمضمون عموماً أمران لا يمكن فصلهما، وصعوبة الإخراج هي العثور على الشكل الملائم لأفكار فيلمك. هل تصوّر هذه الفكرة بطريقة السينما المباشرة cinema direct؟ أم تعتمد على التعليق الصوتي؟ أم تنتهج طريقة أخرى؟ في فيلمي الأخير "منفى" قررت أن يكون أشبه بالعرض البصري الشعري poetic installation. التحدي هو العثور على فكرة جيدة وعميقة بالقدر الكافي، ثم استكمالها بشكل مناسب لسردها. أحياناً لا تكون الأفكار التي تأتيك جيدة لكنك في الأغلب تشعر سريعاً بأنها ليست الخيار الملائم.

- أنت تصنع أفلاماً بالغة الخصوصية؟ كيف تنطلق في ذهنك فكرة الفيلم وكيف تطورها؟

عندما أكتب فالأمر يبدأ كانعكاس يجعلني أطرح على نفسي الأسئلة: لماذا تريد صنع هذا الفيلم؟ لماذا لا تستغل الوقت في التدريس والمال في توفير الأدوية للفقراء؟ صناعة الأفلام عملية طويلة ومرهقة ومكلفة في معظم الأوقات. لماذا تخوض هذه التجربة؟ لماذا لا تكتف بكتابة كتاب يحمل أفكارك؟ العثور على إجابة مرضية لهذه الأسئلة هي المفتاح الذي يجلب معه باقي الخيارات. بناء شريط الصوت واختيار الموسيقى وشكل الكادر كلها أمور لا تنفصل عما سبق. وأحياناً ما أترك فكرتي الأولى بسبب عدم شعوري بالرضا.

بالطبع المنتجون وأصحاب المال لا يحبون هذا، يريدونك أن تكون دائماً على يقين من كيف سيسير فيلمك من بدايته لوسطه لنهايته، لكن الحقيقة وخاصة عندما تصنع أفلاماً تسجيلية، أن عليك أن تكون حراً كي تصنع فيلمك. إذا ما فكرت كثيراً في الجمهور أو المنتجين، أو شغلت عقلك بكيفية توزيع الفيلم في القاعات، فسيكون من الصعب أن تصل لجوهر ما تريده من الفيلم.

- بالحديث عن الشكل وتطويره لابد وأن أسألك عن "الصورة الناقصة". كيف أتتك فكرة تصوير الفيلم بدمى مصنوعة من الطين؟ هذه فكرة غير معتادة إطلاقاً؟

أتى الأمر بالمصادفة البحتة. بدأت الفكرة برغبتي في عرض حكاية من عملوا مع الخمير الحمر كمصوّرين ومونتيرين وكانوا مسؤولين عن الصورة التي يريد الخمير الحمر نقلها عن أنفسهم. قابلت بالفعل هؤلاء الأشخاص مرات عديدة وتحدثنا عن تجربتهم. في لحظة سيطرت عليّ الرغبة في فهم ماضيّ الشخصي. لم أكن قد عدت أبداً للمنزل الذي ولدت فيه. حقيقة هرب العائلة من المنزل وموت أفرادها جميعاً باستثنائي أنا وشخصين آخرين جعلني دائماً أخشى العودة. لكن مع مرور العمر شعرت بضرورة العودة للمكان الذي كوّنت فيه أول ذكرياتي وعلاقتي بالآخرين والعالم.

المفاجأة كانت عندما وجدت أن المنزل قد تحوّل نادٍ للقمار والدعارة. كانت صدمة دفعتني لمحاولة إمساك أي ذكرى من الماضي. طلبت من مساعدي أن يصنع لي تمثال طيني كالذي كنا نصنعه في طفولتنا من الطمي المحيط بالنهر. عندما شاهدت هذا المجسم الطيني جاءتني فكرة استخدام هذه التماثيل الصغيرة في جعل الفيلم شخصي أكثر. وجدتني أغرم بفكرة أنه طمي آت من الأرض تم تشكيله وجففته الشمس، وبعد انتهاء استخدامه يعود مرة أخرى طيناً يمتزج بالأرض.

في كل الحضارات تجد أشياءً كهذه. أنت مصري وتعرف هذا. عندما ترى قناع الفرعون فهو ليس مجرد قناع لوجه، لكن وراءه روحاً صنعته وداخله روح جسدها. شغلتني الفكرة خاصة مع تماشيها مع فكرة الفيلم بأن كل شيء سيفنى سوى الذاكرة. وجدتني أمام فكرة جيدة بوضوح، ومن لحظتها لم يأخذ الفيلم أكثر من عدة أشهر ليكون جاهزاً.

- الهدف الدائم إذن هو صناعة فيلم شخصي، لكن هذا يستحيل أن يتم بمعزل عن كون الموضوع الدائم في أفلامك مرتبط ومؤثر في التاريخ وفي ذاكرة أمة بأكملها. ما مدى صعوبة العمل في هذه المساحة؟

عندما تتحدث عن قيم مطلقة مثل الحرية أو الكرامة فهذه أشياء لا جنسية لها. كل إنسان على الأرض من حقه امتلاك كرامته وحريته واحترامه. لا يمكنك أن تقتل البشر بسهولة مثل الخمير الحمر ثم تنجو بفعلتك. هذا غير طبيعي وخارج إطار الحضارة والإنسانية ولا يمكن أن يحدث كل يوم. عندما أعرض أفلامي في جنوب أفريقيا أو أمريكا اللاتينية يفهمها الناس ويتفاعلون معها. السينما مكان بإمكانك أن تدخله لتأخذ من الفيلم الثواني الصادقة التي تمسك ثم تترك الباقي وترحل، وتبني علي هذه الثواني قصتك الخاصة.

أنا أبحث عن هذه الثواني. كمشاهد لست بحاجة لفهم كل شيء لأنه هدف من المستحيل تحقيقه. عندما أشاهد أفلام أندري تاركوفسكي لا أفهمها بشكل كامل لأني لست أرثوذوكسياً أو روسياً ولا يمكنني تفسير كل رمز يحتويه الفيلم. لكن في الوقت نفسه هناك تلك الروحانية التي تمسني في الفيلم. هذا هو الحال بالنسبة لي. لا يمكنني طرح الذاكرة الجمعية في فيلمي، لكن بإمكاني أن أجعله مليئاً بثوانٍ يمكن لكل شخص أن يستخدم بعضها لبناء قصته الخاصة.

- تحدثت عن تاركوفسكي، وأنا لدي هذا الشعور الدائم بارتباط أفلامك به، على الأقل فيما يتعلق بكيفية تجسيد الكارثة بصورة روحانية. من هم صنّاع الأفلام الذين تأثرت بهم أو يمكنك أن تجد رابطاً بين أفلامك وبينهم؟

هذا سؤال عسير. أشخاص مثل تاركوفسكي وروسوليني فريدون بصورة تُصعّب أن يشبه أحدهم نفسه بهم. عندما بدأت صناعة الأفلام كنت قد اتخذت القرار دون أن أعرف قدراتي أو ما الذي يمكنني فعله. شاهدت وقتها "أندريه روبلوف" تاركوفسكي للمرة الأولى قلت لنفسي أن علي التوقف عن المحاولة. كل شيء قد قيل بالفعل جمالياً وأخلاقياً في هذا الفيلم. شاهده مائة مرة وستشعر شعور أفضل في كل مرة، لكنه لم يترك لك شيئاً لتصنعه. بعدها بفترة قلت لنفسي أنت لن تستطيع أبداً أن تصنع فيلماً كهذا لأنه ينتمي لصانعه، لكنه رجل فتح الباب لإمكانية أن تروي حكاياتك الخاصة، فقد عندما تعثر على الطريقة التي تحكيها بها. هذا هو جمال الفن. لترسم لوحتك عليك استخدام الألوان الرئيسية التي يرسم بها الجميع، لكن ما ترسمه في مصر يختلف عن فرنسا عن كمبوديا. تخلط الألوان نفسها لترسم لوحة لا تشبه أحداً غيرك.

- ما هي علاقتك بالنقد السينمائي؟ هل تقرأه أو تتأثر به؟

للأسف لا أقرأه كثيراً لأنني أشعر بالإحباط عندما أجد شخصاً لم يفهم فيلمي. مجدداً، السينما طريقة كي نفهم بها بعضنا والنقاد لم يساعدوني في ذلك. قراءة المدح أيضاً تجعل ذاتك تتضخم وهذا أمر غير صحي، لذلك أفضل أن أعكف في منزلي أقرأ رواية أو شعراً، أو أسافر حول العالم لأقابل الناس وأتحدث معهم وأفهم ما يفكرون فيه، كيف يكافحون من أجل البقاء على قيد الحياة. هذا يساعدني أكثر.

سمعتك مرة تتحدث وتقول أنك لست متخصصاً في الأفلام عن الخمير الحمر، لكنك لا تستطيع الفكاك من ماضيك. أتذكر عبارتك جيداً "من الصعب أن يتوقف وودي آلان عن عمل أفلام حول نيويورك". هل من الممكن تحت أي ظروف أن تخرج فيلماً عن موضوع لا يتعلق بكمبوديا؟

بالطبع هذا وارد. في البداية أعتقد أنني كنت المخرج الوحيد الذي يعمل على الذاكرة الجمعية للشعب الكمبودي، فكان من العسير أن أترك الموضوع خاصة عندما يكون تاريخ البلد مثل تاريخنا. كانت الأفلام وسيلتي لتحية هؤلاء الذين ماتوا في وطني. صنعت أربعة أو خمسة أفلام روائية، لكن كل عامين أو ثلاثة أعود لأصنع فيلماً تسجيلياً عن الموضوع الرئيسي في حياتي. كان المهم هو أن أروي حكاياتنا بعين كمبودي، لا أن أتركها ليأتي الأمريكان والأوروبيون ويحكونها بدلاً منّا. الآن صرت أكثر حرية وبإمكاني التفكير في صناعة فيلم مختلف.