جيلان صلاح
جيلان صلاح تاريخ النشر: الاثنين، 25 يناير 2016 | آخر تحديث:
هند صبري في لقطة من "الجزيرة"

الأدوار النسائية في السينما والدراما المصرية. موضوع أرق الباحثات النسويات منذ عشرينيات القرن الماضي.

لم يقتصر دور المرأة في السينما المصرية منذ تاريخ إنشاءها على الوقوف أمام الكاميرا، بل كان لها الفضل بصورة حقيقية في النهوض بالصناعة ذاتها. فلولا نساء رائدات مثل آسيا داغر وعزيزة أمير وبهيجة حافظ وماري كويني لما أنتجت آلاف الأفلام الكلاسيكية التي نعتبرها الآن –مشاهدين ومحللين- أيقونات سينمائية خالدة. هاته النسوة وغيرهن تميزن بالشجاعة وتصدين لاستثمار أموالهن وعلمهن ومجهودهن في إنتاج أفلام لم تكن تعود عليهن بربح مادي يذكر في كثير من الأحيان.

في ملف عن المرأة والفن، سنحاول إلقاء الضوء على المرأة المصرية ممثلة وكاتبة ومخرجة، ومدى إيجابية الدور الذي لعبته في صناعة السينما والدراما.اخترنا 15 ممثلة قمن بدور إيجابي في تمثيل المرأة على الشاشة سواء مصرياً أو عربياً. هذه قائمة اعتمدنا فيها على ذائقة شخصية قد تختلف أو تتفق معها عزيزي القارئ وأيضاً على تطبيق المفاهيم النسوية في قراءة المشهد السينمائي سواء القديم أو المعاصر.

طالع- #المرأة_والفن- أفضل الأدوار النسائية على الشاشة: من فاتن حمامة لهند صبري (١ من ٢)

٨) هند صبري

ظهرت هند صبري على الشاشة المصرية لأول مرة من خلال قنبلتين عرضتا في نفس العام 2001 "مواطن، ومخبر، وحرامي" و"مذكرات مراهقة" لمخرجين متحررين ومثيري الجدل؛ داوود عبد السيد وإيناس الدغيدي. من اللحظة الأولى أثببت هند أنها ليست مهتمة بالتصنيفات المجتمعية بقدر ما هي باحثة عن المغامرات الفنية والتجريب.

مشهد واحد محوري خرجت فيه هند نصف عارية على الجمهور. ورغم أنه لم يتعد ثوان، إلا أن الدنيا قامت ولم تقعد. لا يعرف الكثيرون أن بداية هند مع الجرأة منذ دورها في الفيلم التونسي شديد الخصوصية والنسوية "صمت القصور" Les silences du palais لمخرجته مفيدة التلاتلي. في الخامسة عشر من عمرها، قامت هند بدور عليا، الابنة الغير شرعية لسيدها علي، والتي تحيا في قصر فاره مع أمها الخادمة وتمر برحلة استطلاع جنسي لجسمها وأجسام الآخرين، بينما تحاول البحث عن هويتها الممثلة في أبيها الذي لا يخبرها أحد بمن يكون، وفي حبها للموسيقى والغناء العربي الأصيل.

توالت أدوار هند الجريئة من هنا. في فيلم "ملك وكتابة" أدت دور الممثلة الناشئة المتحررة هند، والتي تصطدم برجلين يشكلان محورين في رحلة استكشافها النفسية والعاطفية. أولهما محمود أستاذ التمثيل في معهد الفنون المسرحية؛ الرجل شديد الهشاشة والوحدة والذي يحتمي خلف قالبه الذكوري الجامد بالعدوانية مع عالم هو أكثر جبناً من أن يخرج لاستكشافه بمفرده. خيانة زوجته تفتح له باباً لإعادة إكتشاف معنى لحياته التي سارت على نفس النهج طوال الوقت، والثاني طارق؛ الحبيب الشاب شديد الوسامة والفتوة وعدم النضج في نفس الوقت.

في فيلم "لعبة الحب"، تقوم هند بدور ليلى، فتاة تحيا دون تفكير في عواقب ما تفعل، وتمارس حياتها العاطفية خارج إطار الزواج، فتصطدم بعقلية الرجل الشرقي المنغلقة في كل مرة ترتبط فيها برجل، يدعي التحرر ثم يهرب منها عندما يأتي ذكر تغيير إطار العلاقة من صحوبية لزواج. لم تخف هند صبري من أدوار المرأة العادية، فتخلت عن إكسسواراتها وماكياجها وإبراز مفاتنها. جسدت أكثر من مرة معاناة المرأة العاملة والفقيرة والمعدمة، فكانت امرأة مصرية في فيلم شريف البنداري القصير "صباح الفل"، تتمزق ما بين الظروف الاقتصادية الصعبة، ومعاناتها مع تربية ابنها والخروج للعمل، مع حنينها للحظات حب مختلسة مع زوجها.

وفي "أسماء"، تخلت عن جمالها تماماً، وأدت دور شديد الخطورة، لامرأة مصابة بالإيدز، تأبى أن تعلن عن سبب إصابتها بهذا المرض، متشبثة بحقها في خصوصيتها، واستحقاقها للعلاج دون أن تكشف عما وراء إصابتها بالفيروس اللعين. قوة "أسماء" لم تكمن في كونه فيلم "قضية"، لكنها هند التي سرقت الكاميرا بذوبانها في الشخصية حتى النخاع، وتفاعلها مع كل من حولها من مختلف طبقات المجتمع، وفئاته، من ابنتها لوالدها لزملائها في العلاج النفسي الجمعي، وحتى مذيع التوك شو والذي أراد فرقعة إعلامية باستضافته لها، وأرادت هي المال الذي ستتحصل عليه بتعرية نفسها على الشاشة.

وعلى الرغم من اضطرار هند للرضوخ لموجة السينما النظيفة في أوائل الألفية الثالثة (2000s)، في أفلام كوميدية تجارية ضعيفة المستوى مثل "إزاي البنات تحبك"، "عايز حقي"، "حالة حب"، إلا أنها كانت في نفس الوقت تتألق في تونس بأدوار تمثيلية شديدة الأهمية مثل دورها في فيلم "موسم الرجال" La Saison des Hommes والذي مثل تعاونها الثاني مع مفيدة التلاتلي، وفيلم "الكتبية" الذي قامت فيه بدور ليلى المتمردة المولعة بأغاني أسمهان.

عام ٢٠٠٩ عادت هند بدور متميز في فيلم "إبراهيم الأبيض"، فكانت حورية، قبلة العشق والشهوة بين الثلاث شخصيات الذكورية المحورية في أحد أكثر أفلام السينما المصرية دموية. وعندما كان لهند دور في صناعة القرار السينمائي والفني، بدأت تتأنى في اختيار أدوارها، وحاولت قدر المستطاع المساهمة في إعادة الأدب للشاشة الصغيرة مرة أخرى، عن طريق تصديها للقيام ببطولة مسلسل "فيرتيجو" المأخوذ عن الرواية بنفس الاسم للأديب الشاب أحمد مراد.

دفع هذا السيناريست محمد ناير لتغيير دور البطولة من رجل لامرأة، في محاولة –رغم الضعف الفني الواضح في الخط المتعلق بالتشويق والإثارة في المسلسل، مع الإشادة برسم الشخصيات الثانوية الهائلة مثل الصحفي علاء، وزوجته، والراقصة سالي، وعم جودة المصوراتي- لكسر النمط في الدراما، وإثبات أن امرأة تستطيع القيام بدور كتب خصيصاً لرجل، وهو اتجاه شديد الشعبية الآن في هوليوود، فأصبحت نجمات مثل ساندرا بولوك وجوليا روبرتس وأنجلينا جولي تضطلعن لأداء أدوار كتبت لرجال، دون حتى تغيير الحوار، مما يكسر النمط في كون المرأة تتحدث بلهجة "أخف" أو "ألطف" أو "أقل حدة" من رجل في نفس المنصب أو الموقع.

ومع مسلسل "عايزة أتجوز" شديد الشعبية، أثبتت هند انتصارها للمرأة كونها استعانت بالكاتبة غادة عبد العال في تجربتها الأولى للكتابة التليفزيونية، وعاودت الاستعانة بها في مسلسل "إمبراطورية مين" الذي لم يلاقي نفس نجاح الأول، على الرغم من محاولته تجسيد حالة العشوائية والعبثية التي أصابت المجتمع المصري خلال الخمس سنوات الأخيرة.

٩) آثار الحكيم

أحد عوامل نجاح آثار كممثلة، كانت ملامحها الهادئة، شديدة التلقائية، خاصة عندما كانت تؤدي دور الفتاة العصرية في الثمانينيات، والتي تحاول الموازنة بين طموحها المهني، وقصة حبها لشاب، دائماً ما تحيط بها العراقيل، ونلمح هذا في أفلام مثل "الحب فوق هضبة الهرم"، "أنا لا أكذب ولكني أتجمل"، وفي مسلسل "الحب وأشياء أخرى". من أشهر أدوار آثار زهرة سليمان غانم، والذي استكملته من بعدها إلهام شاهين في الجزأين الرابع والخامس من المسلسل الملحمي "ليالي الحلمية". زهرة هي نتاج الزيجة الفاشلة لنازك السلحدار وسليمان غانم. تقع في حب ابن عدو والدها اللدود؛ علي سليم البدري، وتصبح قصة حبهما روميو وجولييت "ليالي الحلمية".

كعادة أسامة أنور عكاشة في انحيازه للشخصيات النسائية النسوية دون راديكالية، رسم شخصية زهرة، التي تضعف وتنكسر، تحب و تتنازل عن حبها بالارتباط برجال آخرين، تصل لأقصى مدى في الطموح المهني، وتتحدى والدها الذي تعشقه، شخصية ثرية مليئة بالصراع النفسي، لكنها لا تقارن بأفضل أدوار آثار الحكيم على الإطلاق؛ عايدة في مسلسل "زيزينيا".عايدة تلك المليونيرة العابثة، التي تتيه فخراً بجمالها، وتجمع العشاق كما يجمع الناس الصدف والطوابع. على الرغم من أن المواصفات الشكلية للشخصية قد تحتاج ممثلة أكثر جمالاً من آثار، إلا أن عايدة رسخت في الذهن كآثار، حتى باللثغة المبالغ فيها، وبالدلال الزائد عن الحد، وبذائقة آثار التي تختلف –بالطبع- عن ذائقة فنانة مثل صفية العمري من حيث اختيار الملابس التي تزيد الشخصية رسوخاً في الذهن.

نظرة عايدة لنفسها التي تتأرجح ما بين الاحتقار والإعجاب، وعدم اكتراثها لسمعتها السيئة توضح حيرة وتشتت المجتمع السكندري والرجال في تعاملهم مع تلك المرأة المتمردة مابين محاولة تأطيرها أوسجنها في حيز الـ "مجون" أو الـ "عبث" الضيق. حتى أن صديقتها الإيطالية سيلفانا –وهو تمثيل رائع من عكاشة لصداقة بالغة النضج والحميمية بين امرأتين- تنصحها بأن تعقل قليلاً. عايدة امرأة حقيقيًا محترمة، لكنها في نظر المجتمع مطلقة سايبة على حل شعرها، وهي تلعب الدور الذي يريده لها المجتمع بأريحية تامة، حتى تصطدم في النهاية بأن بشر، الرجل الذي اشتهته وأحبته دوناً عن الجميع، ينظر لها نفس النظرة الدونية، وهو الصايع النسوانجي الذي لم يكف عن السهر والسكر، وابن التربية الأوروبية المنفتحة من جانب أمه، إلا أن عرق أبيه الذكوري هو الذي يغلب لديه!

لآثار أدوار أخرى هامة مثل الدكتورة سهام في مسلسل "الفرار من الحب"، وهو مسلسل صعيدي تقليدي، شاب أداء آثار فيه المبالغة، لكنه كان أيضاً تجسيد لامرأة قوية تبحث عن حقها في عالم الصعيد الموحش الذي غادرته مع أمها طفلة منكسرة، مهزومة، وعادت طبيبة متسلحة بالحق والقانون، لتصطدم بعادات وتقاليد تجهلها، ووقوعها في حب ألد أعدائها؛ رجل غليظ فظ تعود على السمع والطاعة، يضطر لتقليل حدة طباعه عند تعامله مع امرأة يراها مجرد "بسكوتة" رقيقة قادمة من المدينة لتتحداه. صراع غير متكافئ على القوة والأرض، ينتهي بألا يحسم، مما يجعل المسلسل على ميلودرامته الفاقعة، جدير بالمشاهدة حقًا.

١٠) محسنة توفيق

أجمل ما في هذه المرأة الساحرة هي قدرتها على التنوع بين الأداء المسرحي واللامسرحي في أي وقت. وصفها يوسف شاهين بأنها من "مجاذيب السينما"، تصدقها وهي بهية، الخياطة البسيطة في "العصفور" أو مريم في "إسكندرية ليه؟" امرأة مسيحية من الطبقة المتوسطة إبان الحرب العالمية الثانية. لا يشوب أداءها العيب المحوري في الممثلين المسرحيين؛ المبالغة والانفعال الزائد. أكثر من مشهد كانوا من الممكن أن يفضحوا خلفية محسنة المسرحية؛ مشهد الثورة في نهاية فيلم "العصفور"، عندما تلتحم بهية بالجماهير وتصيح "هنحارب، هنحارب"، مشهد انفعال أنيسة بدوي على علي البدري بعد أن تكبر على زوجته شيرين في مسلسل "ليالي الحلمية".

تخيل معي عزيزي القارئ جميع الممثلات القديرات منهن والصغيرات اللاتي جسدن دور يرمز لمصر في فيلم أو مسلسل ما، وقارنه ببهية، في عفويتها وعذوبتها، وستعرف ما يعنيه أن تشاهد محسنة توفيق تصول وتجول بملكاتها التمثيلية. دورها في مسرحية "دماء على ملابس السهرة" أمام عزت العلايلي والمأخوذة عن النص المسرحي "القصة المزدوجة للدكتور بالمي" للكاتب الأسباني أنطونيو بوييرو باييخو، هو دور الزوجة التي تكتشف إصابة زوجها ضابط الأمن بالعجز الجنسي، بعد ممارساته الوحشية من قطع الأعضاء الذكورية للمساجين السياسيين، وباكتشافها لتاريخ زوجها القذر، تواجهه، وتقف نداً له، وتحاول مساعدته في اجتياز أزمته بأن ترشده إلى الصواب.

عندما قدمت محسنة دور صفية زغلول، أم المصريين في المسلسل الملحمي "أم كلثوم"، انطبعت صورتها في ذهن جيل التسعينيات كزوجة زعيم الأمة، حتى أن التلاميذ الذين كانوا يدرسون ثورة 1919 وقتها، استعاضوا بصورة محسنة تجسيداً للست صفية في كتبهم. وفي فيلم "بيت القاصرات"، برعت في دور امرأة فيللينة villainess على طريقة ساحرات ديزني، مديرة إصلاحية للبنات، تتعامل معهن بصلف وانفصالية، دون مراعاة انسانيتهن، فتزخم حياتهن بالروتين والبيروقراطية التي تدفعهن إما للهرب والضياع في شوارع المدينة الواسعة، أو للانحراف.
أدت محسنة الدور من منطلق نفسي بحت، حملت ملامح وجهها البريئة هدوءاً ممزوج باحتقارها الداخلي لتلك الفتيات ورغبتها في تحويل حياتهن جحيماً. نجحت في دور الشر كما نجحت في الأدوار الموصوفة –سطحياً- بالمثالية، وإن كان دور مثل بهية مثلاً، أكثر تعقيداً من سجنه في حيز دور طيب/دور شرير والذي دأبت السينما والصحافة حتى وقت قريب على تقسيم الأداء التمثيلي واحد من اثنين، لا ثالث لهما.

١١) نجلاء فتحي

من يشاهد نجلاء فتحي في بداياتها، خاصة عند تمثيلها للأدوار التافهة في أفلام السبعينيات التي تم تصويرها في لبنان، بشريط صوت مغاير عند أداءها للأغاني الرومانسية البشعة، لن يتخيل أن تتحول لكتلة النار المتقدة التي تخرج ألف وجه من عباءتها التمثيلية في الثمانينيات والتسعينيات. المراقب لفيلم مثل "سونيا والمجنون" المقتبس من رائعة دستويفسكي "الجريمة والعقاب" بصورة ميلودرامية فجة، قد يلفت انتباهه محاولة نجلاء لكسر النمط.

سونيا عاهرة تضطر إلى امتهان الدعارة لتصرف على عائلتها وأخواتها الصغار –وهي بريئة ورقيقة أشبه بباليرينا شكلاً وموضوعاً كعادة هذا النوع من الأفلام- وتتعذب كونها تمتهن جسدها وروحها. صحيح أن نجلاء مازالت تعاني من طريقة نطقها للكلمات، وهو عيب ستتخلص منه تماماً في أفلامها اللاحقة، لكنها بدأت تتبلور تمثيلياً. دور سونيا صحيح ليس مركباً كما دور مختار في الفيلم، لكنه محاولة نجلاء للخروج من العباءة ال "فاتن حمامة" التي دخلتها بكامل إرادتها، وأصبحت فيها أيقونة رومانسية مستنسخة من الخمسينيات –ولكن بستايل سبعينياتي.
البداية الحقيقية كانت مع يوسف شاهين في "إسكندرية ليه" (١٩٧٩)، عندما قدمت نجلاء دور سارة سوريل، اليهودية السكندرية الرقيقة، والتي تقع في غرام إبراهيم الشاب المصري الأسمر الثائر، وتحمل ابنه في أحشائها. الدور لم يتعد خمس مشاهد، لكنه ظل باقياً في الذاكرة للخفة التي أدته بها نجلاء وتعاطف المشاهدين مع سارة التي ترغم على مغادرة الإسكندرية، خوفاً من هجوم النازي عليها. في "غداً سأنتقم"، قامت بدور امرأة تدخل السجن بدلاً من زوجها، وعندما تنهار حياتها في الحبس بينما يصعد هو لأعلى وقد وضعها في مرآته الخلفية، تخرج وقد صممت على خراب بيته وتدمير كل ما صنع على حساب عمرها الذي ضاع.

وفي "الشريدة"، أدت دوراً مركباً، فهي ليلى المحامية الناجحة المثقفة، والتي تتزوج مقاولاً جاهلاً لترتقي السلم الاجتماعي على كتفيه، وتستغل ثراءه في تحسين وضعها، بينما تظل في قرارة نفسها تحتقره، وتكره نفسها كونها تزوجت رجلاً سوقياً جاهلاً. تمر الشخصية بتحولات كثيرة، تجعلها تكتشف في النهاية أنها تحب هذا الرجل السوقي حقاً، كونه بالرغم من فظاظته يحبها بصدق، وحتى إن كان استغل فقرها ليجعل امرأة جميلة مثقفة مثلها تقبل الارتباط به، إلا أنها أيضاً استغلت علمها ونجاحها لتظل رغم صفقة زواجهما تشعر بتفوقها الداخلي عليه، وكأنما هي أكثر نقاء منه على الرغم من قبولها نفس الصفقة القذرة.

في "المجهول" الفيلم المأخوذ عن مسرحية "سوء تفاهم" للفيلسوف ألبير كامو، كانت مديحة الابنة التي تعاني من الحرمان العاطفي والجنسي في الفندق النائي الذي تمتلكه هي وأمها، وتعيشان فيه من تخدير الزبائن وسرقة متعلقاتهم مع التخلص من جثثهم عن طريق خادم أصم أبكم متأخر عقلياً. في هذا الدور، بدأت نجلاء تخرج رويداً رويداً من عباءة الوجه الساحر والملامح البريئة المسكينة، لتوحي بأن أكثر الملامح براءة قد تداري وراءها كبت الدنيا والنقمة عليها، ومع منتصف الثمانينيات، بدأت نجلاء مرحلة أدوارها ذات الطابع النسوي، ففي فيلم "عفواً أيها القانون"، تقوم بدور أستاذة جامعة تطلق الرصاص على زوجها وعشيقته عندما تجدهما في الفراش سوياً، في محاولة جريئة لتغيير ميزان القوة، واللعب بالجندرية في تناول قضية الخيانة من حيث الفعل "الفراش" ورد الفعل "جريمة الشرف".

يوضح "عفواً أيها القانون" كيفية تعامل المجتمع والقانون مع جريمة الشرف إذا كانت مرتكبتها امرأة لا رجل، وكيف أنها تخسر كل شيء بينما لو كان مكانها رجل لعده الناس بطلاً شعبياً. رغم أن الفيلم ينحو نحو الكليشيهية خاصة في تناول الشخصيات الذكورية من أقصى الميزوجينية لأقصى الخنوع، وحتى في التعامل مع الخيانة بنفس الصورة الأحادية المعتادة للميلودراما المصرية، لكن يحسب له وفي مقدمته بطلته نجلاء التصدي لقضية حساسة قانونية لصالح المرأة. وفي "المرأة الحديدية"، تلعب نجلاء دور امرأة تقرر الانتقام لمقتل زوجها، بقتل من قتلوه. الفيلم ينتمي لخانة الأكشن الرخيص إلا أنه حقق نجاحاً جماهيرياً، ألقى الضوء على إمكانية تصدر امرأة لشباك التذاكر بينما تقوم ببطولة فيلم من نوعية تستهوى الذكور بشكل أساسي.

يتجلى نضج نجلاء التمثيلي في أفلام "أحلام هند وكاميليا" و"سوبر ماركت" و"الجراج" حيث تقدم أفضل أدوارها كامرأة مصرية حقيقية بعيداً عن الكليشيهات أو الرومانتيكية في التناول. هي كاميليا، امرأة تعيش على هامش المجتمع، ترضى بلحظات السعادة القليلة التي تقتنصها منه، وتعتبر صداقتها لهند رفيقتها في الحياة أجمل وأنجح علاقة في حياتها. عند القراءة المتأنية لفيلم "أحلام هند وكاميليا" والتي أسهب فيها الناقد الشاب أحمد شوقي في كتابه "محظورات على الشاشة: التابو في سينما جيل الثمانينيات"، سنجده تطرق للعلاقة الحسية الضمنية بين بطلتي الفيلم هند وكاميليا، وتلك النسوية في التعامل مع علاقة امرأتين بصفتها العلاقة الغالبة والأكثر نجاحاً في مجمل علاقات الفيلم الانسانية والعاطفية.

في "سوبر ماركت" –من انتاج نجلاء، في مغامرة فنية قامت بها لمساندة مخرج هام مثل محمد خان- هي أم عادية للغاية، لا يميزها سوى كونها قررت تلعب بقواعد المجتمع الذي تعيش فيه والذي يعلي قيمة المادة على حساب العلاقات الانسانية، حتى علاقة غريزية فطرية مثل الأمومة والبنوة. وفي "الجراج"، هي امرأة مطحونة، من قاع المجتمع، تعمل حارسة عمارة، وتعاني من المرض واستنطاع الزوج وكثرة الأبناء وقسوة المعيشة، كنعيمة، خرجت نجلاء تماماً من جلدها وتحدت نفسها بتمثيل دور امرأة جعلتها قسوة الحياة أكثر فظاظة وقسوة في التعامل حتى مع أبنائها، لكنها لم تفقد انسانيتها وعطاءها.

١٢) شادية

رقتها وبساطتها وخفة دمها التي لا تضاهى، منحتها قبولاً لدى ملايين القلوب، وحفرت لها اسماً وعلامة في السينما المصرية والعربية. مشروع شادية السينمائي لا يقل أهمية عن مشروعها الغنائي، فهي مرت بعدة تحولات فنية وانسانية كثيرة، جعلت منها ممثلة متلونة، أكثر من مجرد فتاة لطيفة خفيفة الظل كما بدأت في الخمسينيات. قدمت أدواراً عظيمة، يذكر منها "المرأة المجهولة"، "اللص والكلاب"، "الطريق"، "نحن لا نزرع الشوك"، "أضواء المدينة"، و"ميرامار".

لكن نسوية شادية الممثلة بدأت مع الفيلم الكوميدي "الزوجة الـ ١٣". اكتشف المخرج الكوميدي الأكثر شعبية وذكاء فني فطين عبد الوهاب موهبتها الفطرية، واستمد كوميديا الموقف من كون شادية تجسد امرأة عصرية، جميلة ومثيرة، ترفض أن تخضع للحبيب الشرقي على الرغم من ولهها به. في "الزوجة ال 13"، هي عايدة، الزوجة التي أحبت مراد فقط لتكتشف مدى عبثه بلعبة الحب والزواج، فهي الزوجة الثالثة عشر في حياته، بعد سلسلة من الزيجات الفاشلة التي سعى إليها فقط لينال أجساد اشتهاها. تستخدم السلاح الأكثر أهمية؛ جسدها، فتمنعه إياه لتحطم كبرياءه الذكوري، وتجبره على أن يحبها بقواعدها هي، لا بقواعده.

أما في "مراتي مدير عام" فهي المديرة التي تصطدم بعقلية مرؤوسيها شديدة الذكورية، وأولهم زوجها، الذي يقهره ترأسها إياه في العمل، فيقهرها في المنزل. تلعب عصمت وزوجها حسين على ميزان القوة، وصحيح أنها تسلم له القيادة في المنزل، إلا أنها لا تتخلى عن دورها خارجه، تطلب نقلها لمقر عمل آخر، فيستسلم لها حسين بطلب نقله لنفس المكان، وهي محاكاة ذكية للعب على ميزان السلطة، والذي يحتاج لكافتين متعادلتين، وليس إلى قاهر ومقهور على طول الخط.

"كرامة زوجتي" هو الفيلم الأكثر نسوية في تاريخ السينما، نادية فتاة منطلقة تحب الرياضة والفن، بينما محمود بلاي بوي ناجح في عمله، يتزوجا، ويتفقا على أنها ستخونه لو خانها. تتغلب طبيعته الشهوانية على إخلاصه لحبهما، مما يدفعها للانتقام منه على طريقة سالومي التي رقصت حول رأس يوحنا المعمدان، تحيل حياته جحيماً بأن تجعله يشك في إخلاصها هي الأخرى. كذكر شرقي لا يتخيل محمود أن تخونه زوجته، المرأة، والتي يعد شرفها مقياس لشرفه، على العكس من خيانته التي يتعامل معها كزلة شيطان، ينسى النساء الأخريات والشهوة بكونها وضعت رجولته في محك؛ هل تخونه حقاً؟ وحتى في عودة عايدة لمحمود في النهاية، يؤكد هذا على نبل المرأة مقارنة بعصبية وأنانية الرجل. إنها الهزيمة العظمى للرجل المصري.

قدمت شادية في "عفريت مراتي" الحل لأزمة الملل الزوجي بالهروب من كآبة الواقع إلى السينما. الفيلم يحتفي بالمرأة وبالحب وبالسينما، ويستغل مهارة بطلته شادية في نسج حدوتة ممتعة ومسلية لأقصى درجة، مستخدماً الدلوعة مفتاح الحياة، تارة هي ريا وتارة غادة الكاميليا، وفي أشهر استعراضات السينما المصرية هي إيرما لادوس الغانية، تفسد عشاء عمل أقامه زوجها لمديره ورؤساءه في العمل، بالتغزل واستثارة كل رجل من الحضور. شادية الثورة ممثلة في عايدة التي تقمصت إيرما، غير شادية الثورة التي تجسدها فؤادة، رمز الوطن الصامد في مواجهة توحش أبناءه في فيلم "شيء من الخوف".

لا ينسى مشهد فتحها هويس الماء كأيقونة ثورية تقشعر لها الأبدان. ولا تنسى المباراة التمثيلية البارعة بينها وبين محمود مرسي الذي يقوم بدور عتريس، والتي تستخدم فيها فؤادة أيضاً جسدها سلاحاً باتراً للانتقام من عتريس الذي تزوجها غصباً عنها، وبالتالي أصبح زواجهما شرعياً باطلاً. وعلى الرغم من حبها له، فإن كراهيتها له كطاغية تتغلب على مشاعرها العاشقة، فتمنعه منها والعذاب في أن تمنع نفسها منه، لا العكس. تحولت فؤادة في صمودها أيقونة ثورية، استخدمت كما صورة سعاد حسني جرافيتي على الحوائط والجدران. وخلدت شادية في القلوب بأدوارها النسائية العظيمة، وثورتها النسوية التمثيلية على دور المرأة في المجتمع.

١٣) هدى سلطان

لا تتمتع هذه المرأة المصرية شديدة الاعتاد بجنسانيتها على الشاشة بقدرة تمثيلية هائلة فحسب، لكنها أيضاً تتعامل مع الشخصيات بأريحية تامة تجعلها أقرب للنسوية منها للنسائية، ولم تنسلخ من الطابع الأنثوي في أي من أدوارها. تحاسب الآن النجمات على أقل تصريح يدلين به، تخيلوا معي لو كانت هدى سلطان صرحت بالسبب الذي دفع فريد شوقي لتطليقها في وقتنا الحالي؟ فبمنتهى الأريحية صرحت هدى في لقاء تليفزيوني بأنها استمرت في فيلمها الأشهر "امرأة على الطريق" حتى بعد استبدال البطل فريد شوقي برشدي أباظة، على الرغم من اعتراض وحش الشاشة وقتها وتهديده لها بالطلاق وبررت هذا "أمال أخرب بيت المنتج؟"

منطق جريء وانساني من امرأة لم تتنصل يوماً من ماضيها السينمائي حتى بعد ارتداءها الحجاب. ظلت معتدة بأدوار الإغراء الشعبي التي برعت فيها أيام شبابها، حينما كانت فتنتها محط الأنظار. بل وواظبت على الغناء في الحفلات وهي مرتدية الحجاب بنفس الدلع والغنج اللتين كانت تتمتع بهما في صباها. بعيداً عن "امرأة على الطريق"، والذي يمكن اعتباره أكثر أدوارها جرأة وإثارة، فإن نسوية هدى سلطان تتجلى في تجسيدها لدور فاطمة تعلبة في مسلسل "الوتد"، المسلسل الذي التفت حوله الأسرة المصرية عام ١٩٩٦ والذي انتهى نهاية ميلودرامية كئيبة تليق بدراما تلك المرحلة.

فاطمة تعلبة شخصية ليست فقط قوية، لكنها أيضًا مذمومة، كريهة، في سباقها المحموم لامتلاك الأرض والابن، تتخطى كل النزعات الانسانية والعاطفية، هدفها الأوحد هو السيطرة وصناعة إمبراطورية تترأسها هي وابنها الأكبر درويش –الذي يقوم بدوره يوسف شعبان- والذي تتخذ منه بديلاً ذكورياً للزوج ضعيف الشخصية، لكن على عكس العادة فإن هذا الابن على قوة شخصيته وعنفوانه لا يجرؤ على تخطي أمه أو اتخاذ قرار دون موافقتها. عادة في تلك النوعية من المسلسلات، فإن الأم تكون شخصية من اثنتين؛ شريرة على طريقة زوجة أب سندريلا، خلقت للمكائد وتحطيم حياة الآخرين، أو طيبة كفردوس محمد وآمال زايد خلقت للقمع والدعاء للأبناء.

لو كانت الصحافة الأمريكية تتشدق بدور جوي Joy (٢٠١٥) للأمريكية جنيفر لورانس، كونها امرأة تترأس عائلة بأكملها، فإن فاطمة تعلبة ماتريرك matriarch من قبل أن تظهر جنيفر على الساحة، وقوتها تعود للعهود السحيقة، حينما كانت النساء القويات تحكمن قبائل وتحددن نظام الحياة فيها، فترسخن لأسس العلاقات بين أفرادها. وفي "الوتد" الذي كتب السيناريو له المبدع خيري شلبي عن رباعيته بنفس الاسم، ما فاطمة تعلبة إلا شخصية ملحمية بكل عيوبها ومحاسنها، تغلب عليها الصرامة والقسوة النابعتان من عاطفة الأمومة نفسها، والتي دأبت الدراما للأسف على تصويرها كعاطفة أحادية البعد، لا تخرج سوى الإيجابية والحب الغير مشروط من عباءتها، بينما الأمومة أعقد وأكثر إظلاماً من هذا بكثير.

جسدت هدى أكثر من شخصية أمومية مركبة؛ من أم حسن في مسلسل "حسن أرابيسك"، وأم رحيم في "الليل وآخره"، والحاجة آمنة في "زيزينيا" ونفيسة هانم في "ليالي الحلمية"، وأبرزها دور الأم في رائعة يوسف شاهين "عودة الابن الضال". لكن أحد أفضل الأدوار في مشوار هدى سلطان الفني، هو بهية من فيلم "الاختيار"، أحد أهم إنجازات يوسف شاهين على مدار تاريخه. بهية امرأة محبة للحياة، ممثلة مسرحية سابقة تمتلك بيتاً يضم صعاليك المجتمع من فنانين ورسامين ونساء منسيات. الطاقة الجبارة التي أخرجها شاهين من هدى سلطان في دور بهية، جعلت منه دوراً أسطورياً، يكاد يتفوق على دور سعاد حسني في الفيلم، لأنها رغم جمالها الشديد وإثارتها في دور شيرين إلا أنها لا تقارن ببهية. إن كانت بهية "العصفور" تمثل مصر المعطاءة الملتزمة (النهارية)، فإن بهية "الاختيار" تمثل مصر العابثة ابنة النكتة (الليلية).

١٤) سماح أنور

خرقت سماح أنور قواعد الزي والجندرية في المجتمع المصري بشكل كبير، خاصة عندما اكتمل نضجها الفني والعمري. لم تتخل سماح عن ارتدائها الملابس الرجولية، دائماً بنطلون وقميص وجاكت جلد، تركب الموتوسيكل وتقوم ببطولة أفلام الحركة الرخيصة، لا تخشى من لي عنق الجندرية وتتصرف بحرية بعيداً عن قواعد الأنوثة التي يجب عليها اتباعها. تعتبر سماح أول ممثلة تتخذ هذا الستايل اللاجندري gender neutral في حياتها العادية فهي تشتري ملابسها من محال الرجال، وتتبادل القمصان مع ابنها، دون أن تمسخ نفسها أو تتخلى عن جمالها الشكلي الطبيعي حتى لاقت انتقادات كثيرة من وصفها بالمسترجلة وأوصاف أخرى بشعة، في محاولة من المجتمع كالعادة لإتهام المختلف دوماً بالانحراف.

في فيلم مثل "امرأة واحدة لا تكفي"، ريم الصحفية المتمردة كان من الممكن أن تمر مر الكرام، لو لم تمتلك رقة سماح، ولبسها الغير مجنسن، شديد التعبير عن ذات الشخصية. في واحد من أفلام إيناس الدغيدي الأكثر جودة بعيداً عن إثارة الجدل لغرض الإثارة فقط، تتلون الثلاث الشخصيات النسائية بينما يحلقن حول ذكر الألفا الوحيد –أحمد زكي- حسام. في الوقت الذي تبدو فيه شخصيتي يسرا وفيفي عبده عاديتان للغاية، تبرز شخصية ريم الطالبة بكلية الإعلام والتي تتصرف دون اعتبار لقواعد الذكورة والأنوثة في المجتمع، كونها كانت من السهولة أن تقع في فخ الكليشيه والتنميط، أو حتى الفارص، لكن سماح صنعت منها شخصية راقية، متنافرة تماماً مع هنادي وأميرة، اللتان تمثلان الأنوثة بوجهيها الأمومي المعطاء والقوي المسيطر.

ولا ينسى لها دور وردة الأيقوني في المسلسل بالغ النجاح في التسعينيات "ذئاب الجبل"، فهي فتاة تتمرد على تقاليد قبيلة هوارة الصارمة، وتتفوق في العلم والاقتران بالرجل المتفتح الذي تحب، وقد ساعدها في ذلك أبوها المستنير رغم أميته. المتابع أيضاً لدور حنا بلومبرج، الإسرائيلية الرقيقة التي تعادي الصهيونية في الجزء الثالث من مسلسل "رأفت الهجان"، يلمح كيف أضافت أزياء سماح الكثير لشخصية حنا الثائرة على المجتمع الإسرائيلي، فالواضح في هذه الفترة تأثير الخمسينيات والستينيات على الموضة من تايورات وأقراط ضخمة وقبعات وماكياج بألوان محددة للغاية من أحمر وفوشيا، بينما ستايل ملابس حنا بالألوان الداكنة واختفاء البهرجة في الاكسسوار والتي حاولت أن تختلف بها وبشخصيتها لرفض المجتمع الذي من المفترض أن تنتمي له.

في مسلسل "زيزينيا"، تقوم بدور إكرام، أخت بشر غير الشقيقة، والمقربة إلى قلبه، والتي ترفض أن يزوجها والدها التاجر الثري لأي تاجر أو رجل أعمال، كونها تفتقر لمواصفات الجمال الشكلية. تقرر الانتقال للعيش في بيت أخيها بدلاً من أن تبقى في بيت والدها لتحتمل الإهانات التي تصبها عليها زوجات إخوتها كونها عانس، وتتأرجح ما بين قصة حبها للشيخ عبد الفتاح، الولي الذي ليس بولي، والمفتون بعايدة، وتجد حريتها في التمرد على ملبس أبناء حتتها، وارتداء لبس الهوانم باستشارة من أخيها خبير النساء الأكبر.

حتى أدوارها مع سمير صبري من خلال الفوازير أو الأفلام الخفيفة الكثيرة التي قاما ببطولتها سوياً –ربما أكثرها تميزاً "اقتل مراتي ولك تحياتي"- أثبتت سماح إمكانية تجسيد توأمة الروح بين رجل وامرأة، في العالم العربي حيث يتم جنسنة كل شيء، فكانت كالعادة خارج الجنسنة وخارج النمط، ليست مجرد مادة تتناقلها صحف التابلويد، ولم يكترث الديو لما يمكن أن يطالهما من شائعات، أو للتأويلات التي بنيت على هذه العلاقة شديدة التفرد، شديدة الخصوصية.

١٥) معالي زايد

مجنونة، متمردة، مقتحمة، وجريئة، كسرت نمط الذكورة والأنوثة بتجسيدها لشخصية ترانزجندر على الشاشة في رائعة رأفت الميهي "السادة الرجال". "فوزية أم رجلين حلوة" التي تحولت رجلاً، فوقعت في غرام صديقتها الأنتيم -في إحالة شبه لطيفة لتنميط العلاقات النسائية خاصة تلك التي تقع في حيز الصداقة إلى علاقات تحمل صبغة ضمنية سحاقية- وأقامت علاقة مع عاهرة، ووقفت عارية أمام لفيف من الأطباء، لتشعر بمهانة امرأة حبيسة داخل جسد رجل بينما ينبهر الجميع بالقضيب الذي منحه لها الطبيب (في محاولة لكسر التابو الديني ولو من بعيد، فالطبيب أصبح يحل محل الرب، ويعيد صناعة البشر طبقاً لاختياراتهم). أي جرأة تلك التي اجتاحت معالي لتمثل هذا الدور، وتكسر أنماطاً نسائية عدة، ربما لم يكسرها حتى الآن غيرها؟
هل هناك من قام بدور مثل فوزية التي أصبحت فوزي، بصورة غير مهينة أو ساخرة من الشخصية، أو بصورة غير كاريكاتورية فظة مثيرة للنفور؟ ليس هناك سوى معالي. من أدوارها المميزة أيضاً الدكتورة نعيمة الغريب في "كتيبة الإعدام"، المرأة القوية الوطنية والتي تنتظر الثأر لأبيها وتقف نداً لند مع الرجال الذين يشكلون معها أفراد الكتيبة، ودور عزة الممثلة المجنونة المغرورة في مسلسل "الحاوي" والتي تقتفي أثر الرجل الذي تشتهيه، غير عابئة بالعواقب، ولا حتى برغبته هو فيها. ودورها في "الصرخة" كامرأة تستغل ضعف رجل أبكم أصم واحتياجه للعلاج لديها، فتحاول إغواءه وعندما يرفضها، تنتقم منه بترجمة ما يقول بصورة خاطئة في المحكمة.

مشهد المحاكمة بينما نور الشريف –في دور عمر- يصرخ ومعالي –في دور الدكتورة تيسير – تترجم إشاراته بالخطأ يظهر مدى براعتها في تأدية الدور. هذه امرأة تستغل علمها وجنسانيتها للإيقاع برجل أكثر ضعفاً منها، هذا الافتراس يذكرنا باستيفان روستي وفريد شوقي عندما كانا يستغلان ماجدة وفاتن حمامة ويوقعان بهما لحاجتهما إليهما، فقد خرجت هنا معالي من سجن المرأة الفيللينة الضيق إلى رحابة دور مركب شديد التعقيد، كان يمكن لرجل القيام ببطولته بمنتهى السهولة –في حالة أن المريض امرأة. لكن الفيلم للأسف ينتهي بعقاب للنساء الثلاث، في إحالة شديدة الـ anti-feminism، خاصة وأن كل الشخصيات النسائية المتكلمة تم شيطنتهن وتصويرهن على أنهن عاهرات، شريرات، منتقمات.

من أدوارها المميزة أيضاً دور دولت، الأم المسيطرة في مسلسل "موجة حارة"، والتي تجمع بين تسلط الأم المصرية وحنانها، ورغبتها في تسيير أمور أبنائها طبقاً لما تراه صحيحاً، وفي نفس الوقت هي امرأة مصرية متدينة التدين الفطري، المغموس في حب الأولياء وآل البيت ونبذ التعصب والتطرف، ودور نوارة في مسلسل "امرأة من الصعيد الجواني"، والذي يحاول ولو من على السطح إلقاء الضوء على معاناة المرأة الصعيدية سواء في الزواج أو امتلاك الإرث في عالم تحكمه إرادة الرجل، وعلى الرغم من أن المسلسل كليشيهي جداً في تناول الشخصية الصعيدية مع كثير من الـ "إييييه" والـ "خبر إييييه عاد"، إلا أنه نقطة مضيئة في أدوار معالي التي تنحاز للمرأة القوية المقاتلة.

من الواضح كون معالي ملهمة الميهي الكبرى، فهي اضطلعت ببطولة أربعة من أهم وأروع أفلامه: "السادة الرجال"، "سمك..لبن..تمر هندي"، "للحب قصة أخيرة"، و"سيداتي أنساتي" والأخير كعادة الميهي يلعب على ميزان القوة في العلاقة بين الرجل والمرأة بصورة في غاية الذكاء والتمرد على هذا الميزان، فالأربع نساء رغم أنهن يخضعن للنظام المجتمعي الديني في اكتفاءهن برجل واحد يقسمنه على أنفسهن للتغلب على أزمة السكن، إلا أن الـ power reversal تتجلى في كيفية معالجة الفيلم لهذه الزيجة الرباعية، والتي يتضح كون الرجل فيها ماهو إلا مفعول به، يستخدم من قبل هاته النسوة لمتعتهن ومصلحتهن الشخصية حتى يفقدن احتياجهن له.

وبشخصية درية، تتصدر معالي "سيداتي أنساتي" بكاريزمتها المصرية الأصيلة، وإثارة بنت البلد الخالصة، والتي كانت دائماً كارت عبورها إلى قلوب المشاهدين، وكما قال نبيل الحلفاوي في رثاءها في تغريدة على تويتر: "بنت البلد القاهرية.. مهما كان رداؤها لا أراه عليها إلا (الملاية اللف)، جمعت بين دموع المصرية وضحكاتها وإن مالت للثانية، رحم الله معالي زايد".

بروفايل إضافي
شيرين رضا

ليست شيرين رضا بأكثر الفنانات قدرة تمثيلية أو تاريخ فني عريق، هي امرأة تتكلم عن نفسها بأريحية تامة وتعبر عما بداخلها دون أن تحسب حساباً للعواقب، لكنها في هذه المرحلة من مشوارها الفني، شديدة الجرأة، تحاول فرض نفسها على الخارطة الفنية، لا تخشى تمثيل الأدوار النسائية الكريهة أو المنفرة أو الفيللينية. هذه الشجاعة النابعة من كونها –كما اعترفت في برنامج صاحبة السعادة- كسولة وغير مثابرة، أو بمعنى أصح غير مبالية بصورتها الذهنية لدى الجمهور، هي التي دفعتها دفعاً للنجاح في مشوارها الفني في الثلاث سنوات الأخيرة.

بدايتها كانت مع مسلسل "بدون ذكر أسماء" والذي قامت فيه بدور رئيسة التحرير، التي تعشق رجلاً أصغر منها، وتقيم معه علاقة جنسية معقدة، تتشابك فيها رغبتها فيه باحتقارها له ولمنشأه. نجوى كمال، المرأة التي تعيش على صناعة الفضائح، وإبتزاز الأغنياء بها، هي الشخصية التي رسمت ملامح شيرين رضا الممثلة حالياً، البعيدة كل البعد حتى عن الصورة الذهنية للمرأة كبيرة السن التي تنسحق تحت شباب الرجل الذي تحاول افتراسه. واهتمت شيرين –مع مصمم الملابس- برسم تفاصيل الشخصية الشكلية وإضافة التفصيلات التي تميزها.

في مسلسل "العهد"، أدت شيرين دور جومر، التي تقتل زوجها مع عشيقها، وتلبس ابنة كبير الحرس ملابس الرجال لتحكم الكفر -منتحلة شخصية ابن حاكم الكفر مهاب- غير مراعية لأي حسابات أخلاقية، وطامحة فقط للسلطة والنفوذ. جومر بشرها المستطير وقسوتها والأمومة المنزوعة من قلبها، بنظراتها التي أجادت شيرين توجيهها بحيث لا تثير في نفس المشاهد ذرة تعاطف، هي شهادة نجاح لشيرين في عالم التمثيل، خاصة وأنها تصدت لتلك النوعية من الأدوار التي تخشى معظم الممثلات حتى الاقتراب منها بعد تاريخ طويل من أدوار الباربي والسنوهوايت.

ولعملها السينمائي قبل الأخير "خارج الخدمة" شهادة أخرى تضاف لرصيدها الفني. تتخلى عن إثارتها الشكلية، في دور هدى ربة المنزل الغامضة، التي تقضي حياتها في إدمان المخدرات و برامج التوك شو، وتتغير حياتها بدخول سعيد المتشرد فيها. الفيلم إعادة استثمار للكيمياء التي بين شيرين وأحمد الفيشاوي من "بدون ذكر أسماء"، وهما في هذه العلاقة المريضة مزدوجة الاحتياج سواء الجنسي أو "المزاجي"، يمثلان تناغم نفسي وشعوري رغم تنافرهما مجتمعياً. شكل الاحتكاك بينهما ذروة صراع لفيلم –على عيوبه الفنية- شديد التميز والجرأة في كونه يعرض علاقة يتلاشى فيها الخط الفاصل بين القاهر والمقهور، وتختفي من وراءها الدوافع.

وفي النهاية...
فكرة تلخيص الفن في قوائم أشبه بتلخيص الحياة ذاتها، واختيارات الناقد أو الكاتب مهما تنوعت ستظل حبيسة هواه الشخصي، وذائقته التي تختلف قد تتفق أو تتطرف عن ذائقة القارئ. لكنها محاولات لتأريخ ما أحببناه ورأينا أنه يستحق التقدير والتغزل، ولعلنا نوفق طالما حيينا في أن ندخل التاريخ على يد من أحببنا وما أحببنا.


طالع أيضا
٢٥ رداءً تركوا تأثيرًا في الدراما والسينما المصرية
١٠ أعمال مصرية مخيفة وليست مرعبة
#عودة_سميرة- ١٠ أغنيات أثبتت بها سميرة سعيد أن قوة المرأة في مشاعرها
#الصبوحة- ١٠ إطلالات جريئة ومغامرة وغير مألوفة لصباح
فيروز.. صوت يبقى بعد أن يفنى الوجود