تراجيديا الاقتصاد وكوميديا النجوم في The Big Short

تاريخ النشر: الثلاثاء، 19 يناير، 2016 | آخر تحديث:
The Big Short

عالمنا مترابط ومتشابك بشكل أكبر من كل القرون السابقة، ولأن الاقتصاد عماد هذا الترابط، يكفي أى تغيير اقتصادي كبير في مركز ثقله، لترك أثار وتوابع أبدية على كل البشر.

المثال الأعظم لذلك خلال العقد الأخير، هو انهيار سوق الرهن العقاري في الولايات المتحدة في الفترة بين ٢٠٠٧ و٢٠٠٨ وما نتج عن ذلك من أزمات بنكية، تركت تأثير قوي على الاقتصاد الأمريكي بالأخص، وعلى العالم عامة.

رغم عظمة الحدث وتأثيره على ملايين البشر بشكل مباشر وقتها (خسارة ثروات ومنازل - فقدان وظائف.. الخ)، وعلى مليارات غيرهم بشكل غير مباشر، لم تحظى الكارثة بمعالجات تفصيلية سينمائية كثيرة، وظلت مجرد حدث هامشي يتم توظيفه مثلا، لتفسير خسارة شخصية لوظيفتها، في قصص لا تتعلق بالأزمة وتفاصيلها اقتصاديا كأساس.

السبب الرئيسي لهذا التجاوز السينمائي في هوليوود، يعود لتعقيد الاقتصاد ومصطلحاته. من الصعب أن تلخص في سلسلة مقالات، أسباب وجذور الأزمة اقتصاديا لقارىء غير ملم باقتصاديات البنوك، فما بالك بشحن ذلك ضمن سيناريو فيلم روائي يسرد قصة عن شخصيات بالأساس؟

شاهد- الإعلان الدعائي لفيلم The Big Short

صناع فيلم The Big Short يذهبون في الاتجاة العكسي. وخلال أحداثه يقتبس المخرج والسيناريست آدم مكاي، قصة حقيقية من كتاب مايكل لويس الذي حمل نفس العنوان، عن ٤ أشخاص في المجالات البنكية والاقتصادية، قرأوا اشارات هذة الأزمة مبكرا قبل وقوعها، وقرروا الرهان بثرواتهم ومستقبلهم المهني عليها. أو بطريقة أخرى: عن ٤ أشخاص ضاعفوا ثرواتهم بفضل أزمة عصفت بملايين.

اسم الفيلم يتم ترجمته أحيانا الى "الصفقة الضخمة"، وهى ترجمة غير دقيقة. في الاقتصاد تشير Short الى نوع معين من العجز في سداد الديون. ومع وصف Big تصبح أقرب ترجمة مُبسطة للمعنى المقصود (عجز حاد - نقص حاد).

هذة النقطة الخاصة بدلالة الاسم اقتصاديا، تعيدنا الى اللغز الصعب المطلوب حله سينمائيا طوال الفيلم: كيف يمكن تبسيط عشرات المنظومات والمعلومات الاقتصادية الخاصة بالأزمة، لتصبح مفهومة للمتفرج العادي؟

اختار آدم مكاي وتشارلز راندولف شريكه في السيناريو، صياغة القصة دراميا بشكل أقرب للكوميديا السوداء. ما يحدث كئيب وسوداوي وفاضح، وأشبة بطعنة يتم توجيهها للمتفرج. ولحل اللغز الخاص بعرض المعلومات، قرروا اللجوء أحيانا الى (كسر الحائط الرابع).

الحائط الرابع مصطلح متوارث من عالم المسرح. وفيه من المفترض أن الشخصية لا ترى الجمهور ولا الجمهور يراها. وبالتالي يتخيل الممثل وجود حائط رابع وهمي أمامه بدلا من الجمهور، يماثل حائط موقع الأحداث (منزل - مكتب - شارع.. الخ).

عندما تتعامل الشخصية مع الجمهور وتعترف بحضوره وتواجده أمامها، أو تُحدثه مثلا مباشرة، يوصف المشهد بـ(كسر للحائط الرابع)، وهو ما يحدث كثيرا مع الشخصيات الرئيسية في فيلمنا هنا. بل ويذهب الفيلم أحيانا الى مرحلة أعلى، يتم فيها الاستعانة بمشاهير مثل مارجو روبي وسيلينا جوميز بشخصياتهم الحقيقية كضيوف شرف، لتقديم فقرات شرح للمصطلحات الاقتصادية.

بعض هذة المشاهد نجحت فعلا في تبسيط الفكرة المرادة للجمهور، خاصة عندما يجتهد السيناريو في تقديم معادل بصري فعال خاص بها، بالاضافة للحوار. أخص بالذكر مثلا مصطلح تم شرحه في مشهد يدور داخل صالة قمار، وأخر يتم شرحه على لسان طباخ في مطعم، باستخدام الأسماك التي يحضرها للطهو كدلالة.

رغم هذة اللمسات والاشروحات الذكية من وقت لأخر، أتخيل أن غالبية المتفرجين ستغرق اجمالا في بحر من الطلاسم الاقتصادية طوال الفيلم. لم أجد أزمة كبيرة في المتابعة لأن دراستي الجامعية متعلقة بالاقتصاد والبنوك، لكن لا أعتقد أن آدم مكاي نجح في تبسيط الصورة اقتصاديا للجمهور العادي، بالشكل الفعال الذي استهدفه.

في المقابل فاز كمخرج بطاقم تمثيلي جيد جدا، يتضمن ٤ نجوم هم كريستيان بيل، ريان جوسلينج، ستيف كارل، وبراد بيت، وان كانت مساحة دور الأخير متواضعة جدا، وعلى الأغلب شارك في الفيلم لمنحه دفعة تسويقية، باعتباره المُنتج.

كريستان بيل بالأخص يتفوق هنا على زملائه بدور استحق عنه الترشيح للأوسكار. الشىء المميز دائما في اختياراته ومسيرته، هو أنه لا يقدم نهائيا دور البطل المحبوب الذي لا خلاف عليه، ويميل باستمرار للشخصيات الرمادية محور التحفظات. دوره هنا امتداد لنفس الخط. الشخص المعزول اجتماعيا منذ الطفولة، الذي لا يجد نفسه نهائيا مع الأخرين، ويستغرق أغلب الوقت في عمله كمُحلل اقتصادي ورئيس شركة، أو كمدمن موسيقي يرفض حتى التواجد في مكتبه مرتديا حذائه!

باقي الشخصيات يتم تقديم أغلبها أيضا بطريقة (اللا منتمي). كلهم بشكل ما بعيدا حتى عن النقاط الاقتصادية موضع الأزمة، وعلى المستوى السلوكي والانساني، غير منسجمون مع النظام الأمريكي ككل. ولأنهم كذلك وجدوا الثقة في أنفسهم للرهان على عكس ما يراهن عليه كل الخبراء، وتراهن عليه المنظومة.

ريان جوسلينج ربح خطوة للأمام هنا أيضا، بفضل دور لا يعتمد فيه على نقطة الحضور الذكوري المعتادة. وعلى العكس منه لم يستفد ستيف كاريل من الفيلم بنفس درجة. أزمة كاريل هنا لا تتعلق بقدراته كممثل، بقدر ما تتعلق بالسيناريو والاخراج، الذي يجعل الشخصية تكرر عشرات المرات، وبشكل لا يخلو من ملل، مقطع واحد بمعنى (يا إلهي لا أصدق هذا الهراء).

آدم مكاي عامة كمخرج لم يجيد هنا فن الاختزال. وفي كل مرة يبتكر لعبة ما بصرية، يفرط في استخدامها بشكل مزعج كالطفل. عشرات اللقطات هنا يميل فيها مثلا الى استخدام الزووم العنيف، أو تحريك الكاميرا بشكل متواصل اهتزازي. وهى لعبة يستخدمها البعض لمنح الصورة طابع موتر، أقرب ما يكون لمشاهد كاميرات قنوات الأخبار المحمولة.

على الأغلب اختار باري أكرويد مدير التصوير الذي يعمل عادة مع المخرج بول جرينجراس لهذا السبب. أعمال باري مع جرينجراس تشمل United 93 و Captain Phillips. ستلمح في الفيلمين كاميرا مهتزة لا تهدأ عن الحركة، لخدمة قصص موترة تتعلق أحداثها بوقائع ارهابية حقيقية.

هنا لا تبدو ألاعيب الكاميرا التي لا تكف عن الحركة، منسجمة بنفس الدرجة مع الأجواء. افراط مكاي في استخدامها أغلب الوقت بشكل مصطنع، يقاطع أحيانا عشرات المشاهد التمثيلية الجيدة، ويفصل المتفرج عن الاحساس بالمشهد.

اجمالا يمكن القول أن جهد آدم مكاي كسيناريست، تم اهدار بعضه بسبب جهده كمخرج. ولولا الأداء التمثيلي الجيد من الطاقم، والمونتاج المتقن الذي عالج بعض العيوب، لخسر الفيلم أكثر وأكثر بسبب افراطه في بعض النقاط بصريا. أرى عمله كمخرج غير جدير بالمرة للمنافسة على أوسكار أفضل اخراج.

رغم هذا يظل الفيلم قفزة قوية في مسيرته كمخرج، بالنظر لقائمة أفلامه السابقة التي تنحصر في أفلام كوميدية متوسطة مع النجم ويل فاريل، وغالبا سيمنحه فرص أخرى مهمة مستقبلا. الفيلم مرشح لـ 5 جوائز أوسكار هذا الموسم (فيلم - مخرج - ممثل مساعد/كريستان بيل - سيناريو مقتبس - مونتاج).

اقرأ أيضا- قراءة في قائمة ترشيحات ومفاجآت الأوسكار ٢٠١٦

أيا كانت العيوب يظل The Big Short عمل يستحق الحفاوة، لأنه يشهد محاولة شجاعة لزيارة مساحة معلوماتية واقتصادية صعبة، بالنسبة للأعمال الروائية.

وللمهتمين بمشاهدة أعمال سينمائية أخرى عن أزمة ٢٠٠٨ الاقتصادية، أنصح بـ Margin Call (٢٠١١) كعمل روائي أخر جيد، وبـ Inside Job (٢٠١٠) كفيلم تسجيلي يشرح أبعاد وجذور المشكلة اقتصاديا بشكل أفضل. الأخير بالمناسبة فاز وقتها بأوسكار أفضل فيلم تسجيلي.

باختصار:
سيناريو مبتكر الى حد كبير لفك شفرة الأزمة الاقتصادية عام ٢٠٠٨ وأسبابها، ضمن عمل روائي. رغم عدم النجاح في فك أغلب الطلاسم، يظل العمل جدير بالمشاهدة، بفضل المونتاج الحاد والمتوازن وأداء الطاقم التمثيلي. خصوصا كريستان بيل، الذي يضيف لرصيده دور أخر مهم ومختلف.

تابع حاتم منصور عبر Facebook