"فيلم كتير كبير".. المخدرات والسينما على الطريقة اللبنانية

تاريخ النشر: الأربعاء، 2 ديسمبر، 2015 | آخر تحديث:
مشهد من "فيلم كتير كبير" (٢٠١٥)

بعض الأفلام مهمة تطرح أفكاراً تستحق التوقف والتأمل، وبعض الأفلام ممتعة تستهدف إمتاع المشاهد دون أن تُثقل على عقله بالكثير، بعض الأفلام بالطبع تفتقر للصفتين، أما المجموعة المحدودة التي يفتش عنها كل محب للسينما بلا توقف فهي الأعمال التي تجمع الحُسنيين: تحمل فكرة ذكية وموضوعاً قابلاً للنقاش، وتصيغه في قالب ممتع يحقق الشرط الأول للفيلم السينمائي وهو أن السينما مكان لقضاء وقت طيب لا لتعذيب الذات.

ضمن هذه القائمة يمكن أن نضع الفيلم اللبناني "فيلم كتير كبير" للمخرج ميرجان بو شعيا، والمعروض ضمن مهرجان "أجيال" الجاري حالياً في الدوحة.

وبالرغم من أن "أجيال" هو حدث ثقافي وفني موجه بالأساس للأطفال والناشئة، إلا أن مؤسسة الدوحة للأفلام ـ الجهة المنظمة للمهرجان ـ قد سعت أن يتضمن برنامج دورة المهرجان الثالثة عدد من الأفلام المناسبة للبالغين، والتي يُعرض بعضها للمرة الأولى في الشرق الأوسط، ومن ضمنها هذا الفيلم الذي سبق وأن شارك رسميا في مهرجاني تورنتو ولندن، ولم يُعرض في المنطقة إلا عرضاً محلياً في لبنان.

طالع أيضا- ٨ أفلام تُنير سماء "أجيال" الدوحة

الفيلم هو تطوير لفيلم قصير صنعه ميرجان بوشعيا كمشروع تخرج بعنوان "فيلم كبير"، لينال نجاحاً كبيراً ويحصد الكثير من الجوائز حول العالم، الأمر الذي دفع المخرج إلى تحويله إلى فيلم طويل، بمساعدة شقيقيه لوسيان وكرستيان اللذان أصبحا منتجين سينمائيين للمرة الأولى، تماماً مثلما يحدث للشخصية الرئيسية في الفيلم زياد حداد، والتي يجسدها آلان سعادة المشارك في كتابة سيناريو الفيلم مع المخرج.

في حب السينما.. حبكة وتحية
حكاية الفيلم عن ثلاثة أشقاء، يعملون في تجارة المخدرات من خلال متجر المخبوزات الذي يمتلكونه، يجد أكبرهم زياد نفسه وفي حوزته شحنة ضخمة من الأقراص المخدرة، يريد أن يهربها سراً خارج لبنان كي تصير ضربة العمر بالنسبة للأسرة، وهو غرض صعب التحقق في ظل الكمية الكبيرة وأعين العصابات المنافسة الموضوعة عليه بشكل دائم. ليأتي الحل عندما يستمع بالمصادفة لحوار تلفزيوني سجله شربل، المخرج ضعيف الشخصية الذي يشتري المخدرات من الأخوة حداد.

في الحوار يتحدث جورج نصر، الأب المؤسس للسينما اللبنانية والذي كان فيلمه "إلى أين" أول فيلم لبناني يشارك في مهرجان كان عام 1957، عن محاولة قام بها إيطاليون قديماً بادعاء تصوير فيلم سينمائي في لبنان، كي يستخدموا علب خام السينما التي لا تمر على أجهزة الفحص في تهريب المخدرات. الفكرة تغري زياد الذي يقرر إعادتها، ولكن مع تفادي خطأ الإيطاليين الذين لم يصورون فيلماً حقيقياً فتم كشفهم، أما زياد فسيصير منتجاً حقيقياً لفيلم قليل التكلفة يخرجه شربل نفسه.

هذه الحبكة بالغة الطرافة تضرب ثلاثة عصافير بحجر، فمن جهة هي مصدر الجذب الرئيسي للحكاية التي يصعب أن تسمعه ولا تصير راغباً في معرفة كيف سار الأمر، ومن جهة ثانية يحمل تحية لفن السينما وروادها وعلى رأسهم جورج نصر الذي يظهر بالفعل في الفيلم. أما الهدف الثالث والأهم، فهو التمهيد لموضوع الفيلم الأساسي: العلاقة بين البشر والسينما، وقوة الصورة وتأثيرها البالغ، القادر على إحداث تغييرات جذرية ليس فقط على نفوس الأشخاص، بل على المنظومة الاجتماعية بشكل عام.

من مجرم إلى منتج
قبل اكتشاف الخطة علاقة زياد وشقيقيه وأتباعهما بالسينما تقتصر على ما يمكن توقعه من أشخاص مثلهم: المثل الأعلى هو سلفستر ستالون، والسخرية قائمة من الأفلام الفنية التي "تحتاج لشهادة دكتوراة حتى تتمكن من فهمها" كما يقولون لشربل قبل أن يتحولوا منتجين لفيلمه الطويل. عندما تبدأ الخطة لا يكون في ذهن زياد أكثر من إنجاز المهمة بأقل تكاليف ممكنة، وبالتالي لا يسأل مخرجه إلا عن الحد الأدنى لميزانية الإنتاج. لكن ومع بدأ خطوات التحضير الفعلي للفيلم المزعوم، يبدأ زياد شيئاً فشيئاً يدرك أن الأمر أكبر بكثير من مجرد خطة للتهريب.

السينما تجذب الأضواء، وفي بلد مضطرب مثل لبنان تزداد المتابعة كلما ارتبط العمل بأحداث أكثر سخونة، لعبة يكتشفها زياد الذي يريد استغلال كل أداة تمنح فيلمه شهرة وشرعية تضمن للعملية النجاح، بمحض مصادفة يجيد السيناريو رسمها من رحم التخبط في صناعة الفيلم والتخبط الأكبر في القيم الحاكمة لمجتمع ترقد فيه الفتنة الطائفية تحت الرماد منتظرة للحظة اشتعال.

لحظة يمسكها زياد بذكاءه الفطري ويحوّلها متوالية تصاعدية، تغير مساره من مجرم يختلق فيلماً إلى منتج مفوه تستضيفه الفضائيات للحديث عن أزمة السينما اللبنانية، إلى المزيد من المفاجآت التي تكشفها نهاية العمل، المفاجئة وإن كان يمكن تصورها إذ ما مددنا الخطوط على استقامتها، انطلاقا من قوة الصورة القادرة على خلق وهم أقوى من الواقع، تنقلب فيه الآيات دون أن يمتلك أحد القدرة على التشكيك في كذب جعلته الصورة حقيقة دامغة.

واقعية وأداء وموسيقى
ما سبق من أفكار لا يتعارض مع كون "فيلم كتير كبير" قبل كل شيء فيلم نوع Genre film، فيلم جريمة كوميدية لم يغض المخرج لحظة الطرف عن ضرورة كونها ممتعة ومضحكة، الأمر الذي ضمنه عبر ثلاثة أدوات هي الأسلوب والأداء التمثيلي والموسيقى.

ميرجان بو شعيا اختار أسلوب الواقعية الخشنة Harsh Realism في تصوير مشاهده، بحيث يقل القطع داخل المشهد للحد الأدنى، مع محاكاة الواقع في شكل الشخصيات وطريقة حركتها ولغة حديثها، فالأحاديث ـ على عبثيتها ـ قابلة جداً لأن تجري على أرض الواقع، خاصة ما يتعلق منها بالسينما وآراء العامة فيها. الأسلوب المذكور يرسم علاقة المشاهد بما يراه، ويمنح الممثلين مساحة كافية للتمكن من الأداء، ليظهرون جميعاً في صورة جيدة إجمالاً، مع تفوق ملحوظ لآلان سعادة في دور زياد وفؤاد يمين في دور شربل، بالإضافة للممثل الممتاز الذي لعب دور "أبو الزوز"، مساعد زياد الذي يصمم أن يدلي برأيه عن السينما في كل المواقف.

كل ما سبق تدعمه موسيقى تصويرية ديناميكية وضعها الملحن والموزع الشهير ميشال ألفترياديس، تتسارع إيقاعاتها أحياناً لتصبح أقرب للموسيقى الراقصة، وتشكل في مجملها صوتاً مصاحباً ساخراً، يزيد من حس العبث المسيطر على الفيلم بشكل عام، والذي كان أحد الأسباب الرئيسية لما يمتلكه "فيلم كتير كبير" من ذكاء وخفة ظل، أمتعت معظم من شاهدوا الفيلم خلال مهرجان أجيال السينمائي.

شاهد- الإعلان الدعائي لـ"فيلم كتير كبير"