"البحث عن سيد مرزوق".. في وصف السلطة وسطوتها

تاريخ النشر: السبت، 15 أغسطس، 2015 | آخر تحديث:
الملصق الدعائي لفيلم "البحث عن سيد مرزوق"

على الرغم من أن فيلم "البحث عن سيد مرزوق" تأليف وإخراج داوود عبد السيد قد عرض في عام 1991 بعد عرض فيلم "الكيت كات"، لذلك تعتبره عدد من الموسوعات السينمائية العمل الثالث لداوود عبد السيد، إلا أنه في الحقيقة هو ثاني أفلامه بعد فيلمه الأول "الصعاليك" والذي عرض عام 1985، وهذا ما ذكره داوود عبد السيد في المحاورات التي جرت بينه وبين الناقد السينمائي أحمد شوقي والتي تم نشرها في كتاب "داوود عبد السيد.. محاورات أحمد شوقي"، والصادر عن مهرجان الإسكندرية السينمائي لدول البحر المتوسط في دورته الثلاثين.

فلنكسر هذه التقليدية ونكف عن الهرولة
"الحكاية أبتدت لما صحيت غلط.. ورحت الشغل لقيت النهاردة إجازة" في بداية الفيلم يلفت الانتباه أنه لا توجد موسيقي في شارة البداية، مجرد صمت وأسماء تعرض بالون الأبيض على خلفية سوداء بمنتهى الرتابة، تلك الرتابة التي تجعلك تتساءل بعد ثواني معدودة "وبعدين؟!" وإجابة هذا السؤال ينفذها داوود بحرفية شديدة حينما يقطع هذا الصمت الرتيب صوت عقارب الساعة ثم ظهور يوسف الذي يستنكر أن المنبة لم يوقظه، "ماضربش برضو"، وكأنه أمر اعتيادي أن ينهض على أخر لحظة حتى يسير بأقصى سرعته ليصل إلى عمله حتى أنه لا يكلف نفسه عناء الوقوف أو الرد على جارته العجوز، في رحلة من الهرولة على السلم للحاق بميعاد عمله، مشهدين فقط قد لا يبدو لهما أي تأثير بل لا تظهر أهميتهما إلا بالمشهد الثالث حينما نجد يوسف "نور الشريف" يسير شبه فرحا شبه مرتبكا في حديقة عامة ينظر هنا وهناك كأنة يستكشف عالما جديدا لنعلم أن اليوم هو الجمعة وأنه ذهب إلى عمله على سبيل العادة ليجده مغلقا وليجد أمامه فرصة ذهبية لمشاهدة عالم لا يراه وهو في رحلة الهرولة اليومية بسبب منبهه التالف.

واستمرارا في الارتباك، يحاول يوسف الخروج من عالمه والتنزه ليصدم وعلى وجهه ابتسامة طفولية سرعان ما تنتهي حينما يخرج له هؤلاء الغامضون القادمون من ماء النيل بذلك الجسد البشري الذي قاموا بانتشاله، و هي دلالة ستفسر نفسها في بداية الثلث الأخير من الفيلم، وبعدها يظهر "سيد مرزوق" على حسنين، الذي يستغل نظرة يوسف "للفتاة" أثار الحكيم، ليقحم نفسه في عقل يوسف استعدادا لاستقطابه إلى عالمه، فيعرفه علي الفتاة بطريقة مشوقة، ليتضح أنها كذبه، ويدخله معه عالمه الذي ينفر منه يوسف سريعا ويحاول الهرب ولكن سيد مرزوق ينجح في إبقائه بحكاياته، التي ربما لا نعرف متي كان يكذب سيد مرزوق ومتى كان صادقا، فهوى يروي الحكايات كلها بنفس نبرة الصدق في صوته.

"زمان كنت مهراجا وكان عندي فيل فيل صغير" بهذه الجملة يفتتح سيد مرزوق حكاياته التي ستستمر طيلة الفيلم، من هو "سيد مرزوق" وأين كان قبلما يقابل "يوسف" ولماذا يوسف تحديدا كلها أسئلة قد تدور برأسك وأنت تشاهد الفيلم ولكن سرعان ما تنجرف تحت وطئة حكايات سيد مرزوق ومغامرات يوسف في عالمه الغامض.

وربما الغموض الذي أحاط "سيد مرزوق" كان خطأ في الكتابة لأنه أعطى الكثير من الأبعاد لشخصية "سيد مرزوق" دفعت العديد من مشاهدي الفيلم على توصيف "سيد مرزوق" بأنه الإله وربما كانوا على حق و لكنني أعتقد أنهم تطرفوا في تأويل تلك الشخصية فما "سيد مرزوق" إلا نمط من السلطة ولكنها سلطة تستمد قوتها من المال وقوة الشخصية، فلا ينكر أحد أن "سيد مرزوق" كان شخصية قوية مسيطرة على "يوسف" و"يوسف" كان منبهرا بـ "سيد مرزوق" طيلة أحداث النصف الأول من الفيلم وربما كان هذا سببا في الهالة التي رأينا من خلالها سيد مرزوف، فنحن دائما ما نرى بعيني يوسف فحينما ينبهر ننبهر معه وحينما يغضب نغضب معه وهذا في رأيي أهم ما أبدعه داوود عبد السيد في فيلمه، إذ ربطنا بذلك "اليوسف" وتوحيدنا معه شعوريا بشكل سلسل، ففجأة نرى أنفسنا "يوسف"، أما "سيد مرزوق" فقد أبدع داوود في جعلنا لا نستطيع أن نكرهه، فحتى حينما قرر "يوسف" قتله كنا ننتظر من سيد تفسيرا لما فعله طوال الليلة حتى حينما لم يقدم تفسيرا مرضيا لم نمتلك إلا أن ننبهر بكل هذه السطوة والسلطة التي يملكها "سيد مرزوق".

في وصف السلطة وسطوتها
" أنت عارف إننا من المحظوظين اللي شوفنا سيد بيه وهو نايم" بهذه الجملة لا يوضح لنا "عمر"، شوقي شامخ، شخصية "سيد مرزوق" بل يقدم لنا شخصيته هو الأخر، ضابط المباحث الجريء السلطوي المتلاعب والشريف أيضا، لتكتمل بذلك الأضلاع الثلاثة للفيلم "سيد مرزوق" و"عمر" و"يوسف" بل يمكن القول أن شخصية "يوسف" هنا نموذج للبطل الذي يصارع جبهتين طيلة الوقت وأحيانا تكون جبهتين متناحرتين في الأساس ولكنها في الوقت نفسه تحاول سحق البطل "يوسف" بينهما.

"عمر" المستند على سلطته القانونية كضابط مباحث نموذج أخر للسلطة يقدمه لنا داوود عبد السيد في فيلمه، نموذج أخر يحاول تدجين يوسف كما نجح في تدجين عدد كبير من الناس وربما يظهر هذا جليا في مشهد مدرية الأمن والمجموعة الجالسة في الاستراحة، المتوتر الذي لا يستطيع أن يشعل سيجارته، والمذعور الذي يغرق الأرض تحته بماء خوفه، والمتلصص الذي يحاول أن يكون جزء من أهل المكان وربما كان بالفعل جزء منه.

يستمر يوسف في مغامرته مع سيد مرزوق في عالمه ولكنه لا يتعرف على عالم سيد مرزوق المليء بالنزوات والشبيه بالعوالم الأسطورية التي تستطيع فيها أن تحقق كل ما تتمناه بطرفه عين كأن توقف سفينة في عرض النيل مثلا لمجرد أنك تريد الحديث في التليفون، بل يكتشف يوسف نفسه ويتطور من شخص منقاد إلى شخص يقوم بفعل حتى لو كان الفعل هو محاولات فاشلة للهروب من السلطتين، و التي تتحول بعد ذلك وبمساعدة "سيد مرزوق" إلى محاولة لتحدي سلطة "عمر" ثم تحدي "سيد مرزوق" نفسه وسلطانه، يوسف يتطور سريعا، فلم يعد ذلك المستمع الجيد، بل أصبح يسأل والسؤال بداية التفكير ونضوجه أيضا، بل ويرفض أيضا.

أنت الآن حر.. في الهرب
في مشهد من أجمل مشاهد الفيلم رغم مباشرته، وبعد إصابة يوسف في معركة بين الشرطة كان هو إلى جانيهم فيها وأخرين من المجرمين المجهولين، وهو طيلة الوقت يسير مرتبكا بسبب الكرسي المربوط إليه يقوم "عمر" بتحرير يوسف بطريقة بسيطة تشير إلى أن يوسف كان بإمكانه تحرير نفسه من البداية لولا أن ما يقيد يوسف في الأصل ليس الأصفاد وإنما نفسه تقيده، في إشارة إلى أن ما يكبلك هي نفسك وما تحيط السلطة نفسها به من هالات، وبدء من هنا بدأ يوسف في التحول وكأن الجملة التي قالها له عمر كانت إذن من السلطة بالحرية "أنت حر" ليصول يوسف ويجول في عالم "سيد مرزوق" بل يبدأ في تكوين عالمه وخوض مغامرات خاصة يبدأها حينما يحاول البحث عن منى "أثار الحكيم" والتي أكتشف حقيقتها بعيدا عن أكاذيب "سيد مرزوق" المتتالية، ثم مغامرة الفتاة التي تعرف عليها في مقهى أحد الفنادق فأتضح أنها بائعة هوي ونصابة متمرسة بل قامت بالإبلاغ عنه أيضا بعدما رأت إصابته، وبعدها ساعدته في الهرب.

وتبدأ رحلة يوسف في الهرب من مطارديه التي جسد فيها داوود عبد السيد كل بشاعات فكرة المطاردة دون الخروج عن النص أو الخروج عن الجو العام للفيلم فمشاهد مطاردة العساكر ليوسف بالكلاب كان له أبلغ الأثر في توضيح شراسة وضراوة المطاردة، واستقتال السلطة على القبض على "يوسف" الذي كانت كل جريمته هي أنه "صحي غلط"، وبذلك فقد رأي يوسف ما لا يجب أن يراه وعاش ما لا يجب أن يعيشه وخرج من حدوده ومن قوقعته كما وصفتها شخصية "سليمان الحكيم" والتي أداها سامي مغاوري، والتي هي نقيض يوسف المواطن التي لم يخرجه الخطأ من حدوده ولم تدفعه المغامرة للتغير، وعلى الرغم من مسالمته وانصياعه للنظم والسلطة لم يسلم هو وابنته الوليدة حديثا أمل وزوجته من السلطة حيث اقتحموا عليه قوقعته، ليثبت داوود في نفس المشهد خطأ نظرية "سليمان الحكيم"، حتى وإن خضعت فلست بمأمن من السلطة.

على حافة الكمال
ولأن أحداث الفيلم تدور في مدى زمني مدته 24 ساعة فقط، بل إن داوود اختار أن تكون أغلب أحداث الفيلم ليلا، فكان هناك حمل ثقيلا يقع على عاتق مدير التصوير طارق التلمساني، الذي أجاد بكل ما تحمله الكلمة من معاني في إضاءة و تصوير كل مشاهد الفيلم بما فيها مشاهد المطاردات بين يوسف والسلطة أي كان نوعها، واستخدام الإضاءة بشكل أقرب إلى الطبيعية، فخرجت المشاهد في أفضل ما يكون.

وإضافة إلى التصوير جاءت موسيقى راجح داوود لتكمل الجو الغرائبي الذي أحاط داوود به فيلمه، وليس هذا فحسب بل جاءت موظفة ومكملة للحالة الدرامية للمشاهد، ولتتضافر مع التصوير والمونتاج والتمثيل والسيناريو المحكم والإخراج المتميز لتقترب بالفيلم من حافة الكمال.

أما سيناريو داوود عبد السيد فقد بدأ كما انتهى تماما، حيث تصاعد السيناريو في البداية بلقاء "يوسف" لـ "سليمان الحكيم" في الحديقة ثم لقائه بـ "شابلن" في أحد الشوارع والجلوس معه على المقهى ثم لقائه بـ "منى" ثم "سيد مرزوق" نفسه، وفي نهاية الفيلم، السلم الذي نزله يوسف في بداية الفيلم مهرولا سقط عليه ليستضيفه "سليمان الحكيم" في منزله و يداويه، وبعد هروبه يذهب إلى المقهى الذي جلس به مع "شابلن" ليجده ويساعده على الهرب ليقابل بعدها "مني" ومنه إلى مشهد النهاية مع "سيد مرزوق" وكأنما أراد داوود أن يبدأ دائرة جديدة ولكن يخوضها "يوسف" أخر غير يوسف المهرول الاعتيادي الذي شاهدناه في بداية الفيلم.

وربما أكثر ما يميز سينما داوود عبد السيد بعد السيناريو الجيد والإخراج المتميز هو اختياره الرائع للممثلين، فحينما شاهد داوود عبد السيد مسرحية "الملك هو الملك" في عرضها الأول في أواخر الثمانينات أستقر على علي حسنين لتقديم دور "السيد مرزوق" رغم أن علي حسنين وقتها كان ممثلا نصف معروف قدم عددا من الأدوار البسيطة في السينما والمسرح والتلفزيون، وروى داوود أنه كان يرى يحيى الفخراني في الدور إلا أنه لأسباب إنتاجية أسند الدور لنور الشريف الذي كان قد قرأ الفيلم وأعجبه وتحمس له، أما اختياره لشوقي شامخ فكان به من المغامرة ما يكفي إلا أن شوقي استطاع تقديم دور عمره في أفضل ما يكون، وربما يعد هذا الدور واحدا من أفضل أدواره، وبهذا يكتمل صراع أخر داخل الفيلم غير الصراع المكتوب في السيناريو، صراع بين ثلاثة ممثلين من أصحاب المواهب الكبيرة والحرفية العالية ليفوز المشاهد في نهاية الفيلم بهذا الصراع المستعر.