أسوأ ما في زمن المسخ الذي نعيشه حاليًا، أن المعركة لم تعد بين خير وشر، أو حق وباطل، كما عشتُ أنا وابناء الأجيال الكلاسيكية من التسعينات وأنت نازل، حين كانت مسميات الأمور والأشياء قديمًا واضحة وضوح الشمس، بلا التباس أو مواراة. من النظرة الأولى لأبطال الفيلم، كان يمكنك أن تُميّز الفارق الواضح بين الخيّر والشرير، الطاهر والعاهر، النبيل والقوّاد، اللص والشريف، الأبيض والأسود، في صراع كلاسيكي معروف فيه الحد الفاصل بين النقيض والنقيض، ثم أخذت الفروقات تتضاءل وتتضاءل حتى تلاشت، وصارت من آثار متحف الحياة، التي ننظر
إليها في شريط الذاكرة، ونحن نبكي على زمن الشر الجميل!
صرنا في زمن الـ"بلوت تويست" بامتياز، حيث من الممكن أن تطول الخدعة أو الصدمة، أي شخص بلا استثناء، مهما كان رصيده من الثقة والاحترام، وتحوَّل المشهد الشهير بين عادل إمام وضياء الميرغني في فيلم "مرجان أحمد مرجان"، من أيقونة كوميدية ضاحكة، إلى "بلاك كوميدي"، تماهى فيه الواقع مع ما حدث في الفيلم، حين شاهدنا شاعر الحلزونة والسَنَونَو، وهو يجلس في حضرة رجل الأعمال، مشتري الذمم والإبداع والمبدعين، ليبيع له 35 قصيدة بـ 500 جنيه، وما أن قال له (مرجان): "إحنا عايزينك تكرمنا، إنت كده بتربي زبون"، حتى حضر شيطان الوحي وأخذت الشاعر الجلالة وهو يصيح: "أبيعُ نفسي لأول مشترٍ آتِ.. أبيعُ مكروهًا حبيباتي وكلماتي"، لأبكي وأنا أشاهد هذا المشهد اليوم، بينما ضجت قاعة السينما بالضحك وقت عرضه لأول مرة منذ 18 سنة، تغير فيها كل شيء للأسوأ بعالم الفن، وخرج (مرجان) من شاشة العرض إلى أرض الحياة الحقيقية، وتحول من رجل أعمال فاسد، إلى كيانات متوحشة، ابتلعت الفن والعملية الإنتاجية، وسيطرت عليها بالعهر والشللية والمحسوبية، ولا سبيل للمبدعين الحقيقيين لتوصيل إبداعهم، إلا بالمرور عبر هذه الكيانات، وكل مبدع يُردد نفس كلمات الشاعر وهو يقول
لمرجان: "فليسقط الشعر ولتنهار أبياتي، فالشعرُ شِعري، والمأساةُ مأساتي".
تابعوا قناة FilFan.com على الواتساب لمعرفة أحدث أخبار النجوم وجديدهم في السينما والتليفزيون اضغط هنا
والآن أجب من فضلك على هذا السؤال: "كيف يصل إلينا الماء نظيفًا، إذا تلوث نبع النهر، وفسدت المواسير التي تنقله، وملأتها البكتيريا والطفيليات؟!
هل سيظل المبدع على طهره ونقائه بعد أن صافحت يده هؤلاء؟! هل لن يتأثر فكره ونظرته للأمور والقضايا التي قد تغضبهم؟! هل سيجروء أن يعبر عن رأيه، الذي كان يعلنه بالأمس بكل وضوح قبل أن ينضم لزمرتهم؟!
حتى وإن صمد واستمر، فمن سينتج له هذا الفكر؟!
وإذا ظل شخصه على طهارته، فهل كذلك سيظل إبداعه الخام، وهو يدخل في مصانعهم؛ ليعاد تشكيله وإنتاجه وتعبئته حاملًا أختامهم؟!
كيف تصل الفكرة والقيمة المُحمّلة بالنور، حين يأخذها ربائب وأصحاب البارات؟!
ماذا عن مدعيّ الإبداع الذين كان يحتقرهم، وصاروا زملائه في نفس الكيان؟! كيف سيتعامل معهم حين تجمعهم مائدة واحدة؟! ماذا لو سألوه عن رأيه في أعمالهم؟!
ماذا عن اسماء فنية لا يعترف بموهبتها، وتم فرضها لتقوم بدور البطولة أو حتى السنيد لعمل كتبه ليكافح الفساد والعوار والموبقات، وهو يعلم أن
من ينتجه أو يشارك في بطولته أو إخراجه، لا يختلف (بعضهم) في فساد حياتهم الشخصية والفنية عن فساد الشخصيات التي يجسدونها على الشاشة؟!
وبعد عرض العمل.. هل سيسعد المبدع بمديح الإعلامي المنافق الرخيص المنتفع لعمله، ويقوم بعمل "شير" لرأيه؟! هل سيتصل به ليشكره؟! هل سيلبي دعوته لو طلب استضافته في برنامجه؟!
هل سيتحول المبدع إلى فرد محسوب على شلة ما، عليه أن يدافع عن مصالحها المرتبطة بمصلحته، ويتهم من يهاجمون أعمال "الشلة" أنهم "لجنة"، و"قابضين"، و"جهلة" و"أعداء نجاح وحاقدين"، ويسير في ركب المادحين والمطبلاتية الذين يطبلون لكل عمل محسوب لصالح "الشلة" ومن إنتاج سيدهم؟!
وفوق كل ذلك، امتلك أصحاب هذه الكيانات الجوائز والمسابقات والمحافل التي يدور في فلك أجنداتها الإبداع، ولا أمل للمبدع في الحصول على صك الاعتراف بموهبته، والتكسب منها بعيدًا عن زيف هذه الأضواء!
باختصار، كيف لمن يرتدي جلبابًا أبيض، أن يحافظ على طهر ونقاء جلبابه من الدنس، إذا ما حتّمَت عليه الظروف أن يعمل في منجم من الفحم؟!
ومن سيلتفت إليه ويكون له ظهرًا وعونًا، ويمنحه الحل البديل، لو اعتزل ما يؤذيه ويؤذي مجالا بأكمله وجمهوره ومتابعيه؟!
بالأمس البعيد – نوعًا ما – كانت هناك سجالات وجولات بين الفنانين والمثقفين وغيرهم من أرباب الإبداع، الذين لا يجدون حرجًا في انتقاد أعمال بعضهم البعض، والمجاهرة بهذه الآراء، التي قد تتحول إلى مناظرات، وسلاسل مقالات وكتب، وغيرها من أطر وأشكال تبادل الرأي ووجهات النظر، ومقارعة الحجة بالحجة، حين كان المبدع يملك شيء من الحرية، والشرف، والكرامة، ولقمة العيش التي لا يخشى أن يفقدها، وإن فقدها، فلديه بعض البدائل، دون أن يرهبه أن يغلق أحدهم الحنفية وسكينة الكهرباء، ليقطع عنه "الميا والنور" للأبد.
رأينا على سبيل المثال لا الحصر، المخرج الكبير حسين كمال خلال لقائه مع الفنانة صفاء أبو السعود ببرنامجها ساعة صفا، وهو يتحدث عن رفضه لما جاء في سينما الثمانينيات، ومخرجيها أمثال محمد خان وعاطف الطيب وغيرهما من المنتمين لتيار الواقعية، قائلا: "هاجمتهم عن حب، وقولت لازم تعملوا أفلام للناس، مش عشان تتعرض في المهرجانات، وتبقى السينمات فاضية"، وسخر من أن بعض أفلامهم بها مواسير وصراصير وصرف صحي، فقاموا بالرد على هجومه وتصريحاته قائلين أن عليه الاعتزال!
شاهدنا في لقاء تليفزيوني، هجوم عميد الأدب العربي طه حسين على الجيل الجديد من الكُتَّاب – وقتها - وكان هذا الجيل يضم اسماءً صارت فيما بعد من القامات والفطاحل، مثل نجيب محفوظ ويوسف السباعي وعبدالرحمن الشرقاوي وغيرهم، وقال نصًا في لقائه مع الإعلامية ليلى رستم في حضور بعض من هاجمهم، مثل نجيب محفوظ ويوسف السباعي: "ما يكتبوه لا يدل على ثقافة واسعة ولا عميقة" وحين عقّبت المذيعة على كلماته ووصفت حكمه بأنه "قاسي شوية"، رد قائلا: "ليس قاسيا، لأن حبي لهولاء، هو الذي يدفعني إلى أن أتمنى لهم أن يكونوا خيرا مما هم فيه"والأمثلة الفنية والثقافية الأكثر حدة وشراسة لا حصر لها، ومتاحة في كتب ومقالات ولقاءات متلفزة لمن يريد أن يستزيد..
أما اليوم، فقد صارت (أغلب) العملية الإبداعية في أيادي أشباه الآلهة، ممن يملكون منظومة بأكملها من مجاميعه، أو كما قال (شمس الزناتي) لـ(المارشال برعي): "بتعرف تعد لغاية كام؟!" شركة إنتاج، منصة، دور عرض، صحف ومجلات ومواقع إلكترونية، وجحافل من الذباب الإلكتروني المأجور المستعد للخوض في شرفك وعرضك، واغتيالك المعنوي لو تجرأت وخرجت عن المسار المرسوم للقطيع، أو التطبيل للفسيخ حتى يتحول إلى شربات، ويتصدر الـ"ترند"، في مولد "أنا الأفضل، والأعلى أجرًا، والأكثر مشاهدة، واللي عايز يعاركني يعاركني".
وبعد أن هاجم الكاتب الروائي، والفيلسوف الإيطالي الشهير أمبرتو إيكو السوشيال ميديا قبل رحيله قائلًا عنها أنها: "تمنح حق الكلام لفيالق من الحمقى، ممن كانوا يتكلمون في البارات فقط بعد تناول كأس من النبيذ، دون أن يتسببوا بأي ضرر للمجتمع، وكان يتم إسكاتهم فوراً. أما الآن فلهم الحق بالكلام مثلهم مثل من يحمل جائزة نوبل. إنه غزو البلهاء"! إلا أن غزو البلهاء اليوم في عام 2025، صار بكل أسف رد فعل طبيعي، وحلًا وترياقًا – أحيانًا - للرد على سموم من نجحوا في إخراس وكتم أصوات المبدعين الحقيقيين والأقلام الشريفة، ولم يعد في الأفق مفرًا من مواجهة الجبروت إلا بجبروت مماثل من أصوات العوام الآتية من كل اتجاه، وقد اختلط فيها الحابل بالنابل، المثقف والجاهل، المتطرف والمستنير، الناقد والحاقد.. تمامًا كما اختلطت على الشاشات والمنصات ورفوف المكتبات، أعمال ذات قيمة من قريحة إبداع الموهوبين الحقيقيين، وأصحاب العُهر والقوادين، وفي الخلفية لا تزال تتردد أبيات أبو القاسم الشابي الخالدة:لا عَدلَ إلَّا إنْ تَعادَلَتِ القُوى، وتَصادَمَ الإرهابُ بالإرهابِ
والسر، كل السر، حين أوكل الأمر لغير أهله، فأصبح الفن أجندة وسبوبة، وأصبح الرخيص هو الرائج والمطلوب، وأصبح المبدع (مؤلف، وفنان، ومخرج) أحيانًا كعذراءٍ شريفة، اضطرت أن تبيع جسدها لحل أزمات تفوق في صعوبتها طاقة الاحتمال، أو ربما في أحيان أخرى إلى عاهرة محترفة، تمارس البغاء الفكري والإبداعي بأجر، عن قناعة واحتراف، من منطلق "أصلي حبيشت الموضشوع أوي"، وأصبح الناقد مرتزقًا، يوزع مديحه على من يمنحه سرة من الدنانير كشعراء الملوك، وتوارى المنتج الفنان بعد أن أشهر إفلاسه، ليحل محله المنتج الجهول أو القواد.. فلا عجب بعد كل ذلك أن يظهر الجمهور الكاره والحاقد، الذي يلعن الفن والفنانين، وهو يتمنى داخله لو أتيحت له الفرصة وصار واحدًا منهم، لينال مكاسبهم، ويحيا حياتهم!
وعجبي!
اقرأ أيضا:
أول تعليق لمحمد رمضان على حكم حبسه عامين
تقرير الطب الشرعي يكشف سبب وفاة نيفين مندور ... اختناق ما بعد الحريق
من كتر الدخان محدش كان شايف حاجة.. اللحظات الأخيرة في حياة نيفين مندور
أحمد السعدني وكريم محمود عبد العزيز وعلي ربيع وشيرين وأحمد السبكي في عزاء شقيقة عادل إمام
لو فاتك: فن ولا فنكوش - 16 سؤال كل واحد هيجاوب لوحده ... عرفت كام سؤال منهم؟
حمل آبلكيشن FilFan ... و(عيش وسط النجوم)
جوجل بلاي| https://bit.ly/36husBt
آب ستور|https://apple.co/3sZI7oJ
هواوي آب جاليري| https://bit.ly/3LRWFz5