FilFan
FilFan تاريخ النشر: الأحد، 21 يناير، 2024 | آخر تحديث:
نجيب الريحاني

نبدأ سلسلتنا "كل يوم حكاية وفصل من كتاب عن عملاق من عمالقة الفن" بكتاب (فيلسوف الضحك والبكاء ... سيرة درامية) للكاتب ماهر زهدي، الذي كتب عن تأليفه سيرة للفنان العملاق نجيب الريحاني قائلا: من الصعوبة التي قد تصِل إلى حدِّ المستحيل، أن تكتب عن عملاق الكوميديا وفيلسوفها نجيب الريحاني، باعتباره "كان" أو جزءًا من الماضي؛ لأكثر من سبب، قد يكون أهمها أنه لا يزال عَلامةً فارِقة، والمحطة الأهم في تاريخ الكوميديا المصرية والعربية، ويُعَد حدًّا فاصلًا لِما كان قبله وما جاءَ بعده، فربما اختارَ طريقَه في الحياة ممثلًا، غير أنه أبدًا لم يختَرِ الشكل الذي قدَّم به نفسه لجماهيره.

فقد سلك الطريق التقليدي لأغلب فناني عصره، ودخل من الباب الأشهر والأكثر اتِّساعًا، والأكثر قَبُولًا عند جماهير زمانه، وهو باب "التراجيديا"، وحاول، بل واجتهد، أن يكون أحد فناني هذا الفن الأصيل، غير أن الجماهير التي وقف أمامها رأت فيه ما لم يرَه في نفسه، وجدت فيه ضالَّتها في رحلة البحث عن نموذج لكوميديان العصر، واختارته لهذه المهمة الشاقة، بل الأكثر صعوبة، لأنها مع شعب لا يتذوَّق النكتة فقط، بل ينتجها في كل لحظة.

فاكتشف الريحاني ذلك، وكان من الشجاعة أن يرضخ لاختيار الجمهور، غير أنه أبَى أن يكتفي بأن يكون كوميديانَ عصره، وعمل على أن يكون كوميديان العصور التالية له كلها، فعمل على تطوير الكوميديا المصرية لأكثر من ثلاثين عامًا، منذ أن بدأ عمله الاحترافي في الفن في العام 1908، ابتداءً من الفصل المُضحك الأقرب إلى الكوميديا المرْتَجَلة، ثم الاستعراض والأوبريت، مرورًا بالكوميديا الهزْلية التي خصَّها بمغزىً أخلاقي واجتماعي جادٍّ، حتى وصل بها إلى الشكل الأكثر نضجًا من خلال "كوميديا الموقف" التي لا تزال معتمَدة إلى يومنا هذا.

غلاف كتاب فيلسوف الضحك والبكاء ... سيرة درامية

الفصل الأول من كتاب (فيلسوف الضحك والبكاء ... سيرة درامية) لـ ماهر زهدي

ممثل.. والذي منه!

لم يعتد نجيب إلياس أن يطأطئ هامته أمام أي خطْب مهما كان قاسيًا أو صعبًا، فلم يناقش والدته في أمر بقائه في المنزل، خرج منه لأول مرة في حياته مطرودًا، لا يعرف إلى أين سيذهب، أو ماذا سيفعل؟ فقد تعود منذ طفولته أن يظهر أمام أقرانه بمظهر المستغني، حتى إن كان لا يملك قوتَ يومه، الأهم عنده هو مظهره، لذا فقد حرص قبل أن يغادر بيت والدته على أن يأخذ معه حقيبة ملابسه التي كانت لا تزال كما هي منذ عودته من نجع حمادي، وقروشًا بسيطة كانت كل ما تبقى معه من راتبه، لم تكن تكفي لاستئجار حجرة في أحد فنادق منطقة "العتبة الخضرا" أو شارع "باب البحر"، أو حتى حجرة فوق أحد أسطح المنازل القديمة في المنطقة لمدة يوم، وسرعان ما أنفقها ليصبح خاليَ الوفاض، بلا مأوى، بلا مال، وبلا مستقبل ينتظره، ومع ذلك لم يحنِ رأسه ولم تذل نفسه، وبقيَ كما هو، ولكن كيف يقضي نهاره؟ وأين يبيت لياليه؟

لو كان الأمر مقصورًا على الجوع وحده لهان الأمر، لكنه لم يجد مكانًا يأوي إليه كُلَّما جَنَّ عليه الليل، فما إن تقترب عقارب الساعة من الثانية عشرة عند منتصف الليل، حتى يبدأ قلقه وتوتره، حيث تخلو الشوارع من المارة، ثم يتسرب زبائن مقهى الفن أو إسكندر فرح واحدًا تلو الآخر، حتى إذا جاءت الثانية بعد منتصف الليل يكون المقهى قد خلَا تمامًا إلا منه:

ـ يا نجيب أفندي.. نجيب أفندي!
* هه.. أيوه يا سيكا.. فيه حاجة؟
ـ بعد إذنك!
* إذنك معاك يا سيدي.. اتفضل مع السلامة
ـ اتحرك يا نجيب أفندي من ع الكرسي.
* إيه فيه إيه.. أنت محسسني إني دايس على ديلك.
ـ أنا ليا ديل.. الله يسامحك يا سي نجيب.. بعد إذنك بقى الكرسي علشان هنشطب..
* يعني إيه مش فاهم؟
ــ هو إيه اللي مش فاهمه؟ بقول لك خلاص تشطيب.
* طب قول كده يا أخي من الصبح.. يا نجيب أفندي وعن إذنك.. وحاسب ديلي.. اتفضل يا سيدي الكرسي.. زي ما يكون كرسي العرش جاتك البلا.

غادر نجيب المقهى، ليبدأ رحلته اليومية، من شارع عبد العزيز متجهًا إلى ميدان الإسماعيلية (ميدان التحرير حاليًا) ومنه إلى كوبري قصر النيل، سائرًا في اتجاه الجيزة على قدميه، حتى إذا أعياه التعب اتخذ من "حشائش" إحدى الحدائق سريرًا، وتوسد حجرًا من أحجار الطريق يضع عليه رأسه، ويروح في نوم عميق إلى أن ترسل الشمس أشعتها، فيستيقظ من نومه ليعود أدراجه إلى المقر الرسمي حيث "مقهى الفن" في شارع عبد العزيز.

نجيب الريحاني

قضى نجيب ثماني وأربعين ساعة لم يذق خلالها للأكل طعمًا، ليس زهدًا فيه، ولا أسفًا على شيء، فلم يعتد نجيب أن يأسف على شيء ضاع، لكن لأنه لم يجد وسيلة يكتسب بها ثمن "لقمة العيش" بما يكفي لسد جوعه، فلم يكن يهنأ بنومه قط، ليس فقط لأنه ينام في العراء يلتحف السماء، لكن لسبب أهم، وهو شدة الجوع.

استيقظ نجيب من نومه كعادته وقد قرص الجوع بطنه، ليلتفت بجواره تحت وسادته -الحجر الذي يضع رأسه عليه- فإذ به يجد كنزًا، كنزًا ثمينًا قد لا يعرف قيمته إلا المُفلِسون!!

وجد نجيب "قرشَ تعريفة" خمسة مليمات -جزءًا من مائتي جزء من الجنية- يا لها من بُشرى:
* يا فرج الله.. تعريفة.. خمس مليمات حتة واحدة!! يا ما أنت كريم يا رب.. جت في وقتها.

لأول مرة منذ ثلاثة أيام ينزل طعام في جوف نجيب، فكان لا بد أن يستغل الكنز الذي عثر عليه أفضل استغلال، فطلب وجبة دسمة عمادها "الفول المدمس والسلاطة والفلافل"، أما الشاي فكان كالعادة.. حين ميسرة.

راح نجيب يقطعُ رحلته اليومية من مقهى الفن إلى منطقة الجزيرة في نهاية كوبري قصر النيل، وفيما راحَ يتلمَّس في الظلام، مكانه اليومي الذي ينام فيه، في إحدى حدائق الجزيزة، تعثَّرت قدمه بشيء تحسَّسه فإذا برجل آخر قد سبقه إلى المكان نفسه، فقرر أن ينام إلى جواره دون أن يوقظه، غير أنه ما إن استيقظ في الصباح ونظر بجواره ليتبين النائم، فإذا به يجد أحد أقرب أصدقائه، الكاتب محمود صادق سيف:

* يادي الداهية السودة.. محمود صادق؟
ــ ايوا يا سيدي محمود صادق.. إيه شوفت عفريت؟
* والله كان أهون!
ــ إيه؟!
* مش القصدي.. أنا بدي بس أسألك إيه اللي جابك هنا؟
ـ اللي جابني هو السبب نفسه اللي جابك يا سي نجيب!
* عال.. عال قوي.. آدي إحنا بقينا في الهوا سوا.
ــ تقصد إيه؟
* قصدي بقينا في لوكاندة واحدة.. ومحلاها من لوكاندة.
ــ نعمة.
* الحمد لله يا حبيبي على نعمة الهوا والشمس..

وجد نجيب رفيقًا للرحلة اليومية، بل وأنيسًا يقضي معه الليل في هذا العراء، يومًا بعد يوم، وراح كل منهما يشكو حاله وسوء طالعه للآخر، يلتقيان معًا عند منتصف الليل في المقهى، يسيران معًا إلى "اللوكاندة"، إحدى حدائق الجزيرة حيث ينامان، ليقضِيَا الليل في السمر والضحك والحديث حول الفن والتمثيل والكتب والأعمال العالمية، حتى يغلبهما النعاس، ويفترقان في الصباح، كل إلى طريق، إلى أن التقاه صادق ليلةً مبتهجًا متهلِّلًا:

= أما أنا عندي لك حتة موضوع يا نجيب.. هيطيَّر عقلك.
* اسم الله يعني هو ناقص.. دا يا حبيبي البرج اللي كان فاضل طار من النوم على الرصيف.. وعلى كُلٍّ قول يا سيدي.. خير آدي إحنا بنتسلَّى؟!
= الراجل صاحب "مكتبة المعارف" يعرفني كويس أوي.. وكنت بتردد عليه من وقت للتاني.. لأنه كان ساعات بيكلفني أكتب له حاجات كده..
* القصد يا سيدي.. زهق منك يعني وكرشك؟
= لا يا أخي اصبر بس.. النهاردة فاتحني في موضوع قلت له سبني أدوره في دماغي وأرد عليك..
* خير يا فيلسوف المعارف؟
= جاب لي رواية بتصدر في سلسلة اسمها "نيكولا كارتر" مكتوبة بالفرنسية.. وطلب مني أترجمها.
* عال.. كده ضمنا إن "مكتبة المعارف" هتقفل.
= اسمع بس يا أخي بلاش تريقة.. أنت عارف إني مليش في الفرنساوي..
* ما أنا برضه بقول كده.. ولا العربي وحياتك.
= ما هو علشان كده أنا فكرت.. إن إنت تترجم.. وأنا أصيغها بشكل أدبي، كل أسبوع جزء من السلسلة.. وهو هيدفع في الجزء ميه وعشرين قرش.. أنت ستين قرش وأنا ستين قرش.. إيه رأيك يا أبو الأنجاب؟!
* ودي بدها رأي.. أنت تستاهل ستين بوسة.. لايمني ع الجزء الأول لايم..

نجيب الريحاني‎

في الحال نفَّذ نجيب وصادق الفكرة، التي لم تنقذهما فقط من الموت جوعًا، بل أيضًا من النوم في الشوارع والحدائق العامة، فقد كان صاحب مكتبة المعارف يمتلك فندقًا صغيرًا أعلى المكتبة، فاتفق معه نجيب وصادق على استئجار غرفة في الفندق، بحجة التفرغ للترجمة والكتابة، على أن يخصم أجرة الغرفة من أجرهما عن الترجمة والكتابة، فوافق الرجل على إتمام هذه الصفقة التي خرج منها رابحًا مرتين، الأولى ترجمة الرواية وكتابتها بأسلوب أدبي شيق لنشرها في مكتبته، والثانية أنه ضمن إشغال حجرة في فندقه بشكل دائم، وقبض الأجر مقدمًا.
كان نجيب يعرف أنه دخل صفقة خاسرة، فقد كان يعمل مقابل الأكل والنوم فقط، وفي أغلب الأحيان يكون مدانًا لأسابيع مقبلة مضطرًّا لأن يعملها مقابل سداد أجرة الحجرة، ولم ينقذه من هذه الصفقة سوى الصدفة التي قادته لمقابلة صديقه الفنان مصطفى سامي في مقهى إسكندر فرح:

ـ نجيب.. ابن حلال كنت لسه بفكر فيك!
* معذور.. ما هو أصل أنا حليوة وأستاهل تفكر فيا.
ـ بلاش هزار وخلينا في الجد.
* يا سيدي هزر محدش واخد منها حاجة..
ـ لا اسمع بجد.. أنت عارف إن أخويا الشيخ أحمد الشامي عنده فرقة.
* أنعم وأكرم..
ـ هو دلوقت بيدور على مترجم يترجم له روايات من الفرنسية للعربية علشان الفرقة.
* أي روايات والسلام؟
ـ لا طبعًا، روايات كوميديا فودفيل.
* زي اللى كان بيعربها عزيز عيد لفرقته؟
ـ بالظبط كده.. وأنت هتترجم رواية في الشهر.
* مفيش مانع.. بس يعني، كده أُردِيحِي؟
ـ لا طبعًا، هتاخد أجر.
* يا سيدي مش القصد.. أنا قصدي يعني إن طباخ السم بيدوقه.
ـ مش فاهم تقصد إيه؟
* يعني نترجم الروايات ماشي.. بس مفيش مانع ناخد دور فيها؟ أنا مش طماع مش لازم البطولة.
ـ أوي أوي.. هو هيلاقي أحسن منك فين يا نجيب.. ويا سيدي أجرك عن الترجمة والتشخيص أربعة جنيه في الشهر.
* عال.. عال قوي.

التحق نجيب من فوره بفرقة "أحمد الشامي"، وسرعان ما أصبح أحد أعضائها البارزين، وبدأ ترجمة رواية "الابن الخارق للطبيعة"، ولأن الفرقة جوالة راحت تجوب مدن القطر المصري من أقصاه إلى أقصاه، وكانت بطبيعة الحال إذا نزلت بلدةً اضطرَّت إلى البقاء فيها عدة أيام، وإن صادفها النجاح في هذه البلدة فقد تستمر لأكثر من أسبوع فيها، وبالتالي فإن نزول أفراد الفرقة في فنادق كان سيكلِّف الفرقة مصاريف باهظة، ومن ثم كانت الإدارة تعمد إلى استئجار أحد منازل البلدة ينزل فيه الجميع ويطلق عليه اسم "بيت الإدارة"، غير أن هذه المنازل لم يكن بها سوى الأثاث فقط، وبالتالي كان لِزامًا على كل فرد من أفراد الفرقة أن يقوم بتجهيز ما يلزم من "فرشٍ وغطاء" في رحلته، وهو ما قام به نجيب حيث وقف يحمل مَتَاعَه مثل بقية أعضاء الفرقة في محطة سكك حديد مصر:

* هنفضل ملطوعين كدا كتير يا سي أمين أفندي؟ مش نعرف رايحين على فين
ـ أنا سمعت غبريال أفندي بيقول إننا طالعين على بني سويف.
* طالعين ولا نازلين.. المهم نمشي من هنا بدل ما الرايح والجاي بيتفرج علينا.
ـ يتفرجوا علينا ليه؟ إحنا فُرجة؟
* طبعًا.. كل واحد فينا شايل بقجة على راسه فيها لحاف ومرتبة ومخدة.. عاملين زي المهجرين اللي ملهمش متوى.
ـ على قولك يا سي نجيب أنت برضه مرحتش بعيد.. ما هو الأرتيست اللي زينا ملهمش متوى.. مطرح ما يحطوا ويقدموا فنهم تبقى بلدهم.
* أحسنت الوصف يا فيلسوف الغبرة.

قضت الفرقة ثلاثة أسابيع في بني سويف، انتقلت بعدها إلى المنيا، ومن بعدها إلى أسيوط ومنها إلى سوهاج، وهناك انتهى نجيب من ترجمة الرواية الثانية "عشرين يوم في السجن"، التي لاقَتْ نجاحًا كبيرًا في سوهاج، لدرجة أن الفرقة استمرت في تقديم عروضها هناك ما يزيد عن الشهرين، حتى ضاقَت بنجيب حياة التقشف، وتأخر دفع الرواتب، على الرغم من الأرباح الكبيرة التي تحصدها الإدارة، ما جعل نجيب يصب جام غضبه عليها، ليس بسبب نقص في الطعام أو عدم توافر المأوى، لكن حتى "مصروف الجيب"، ما حرم نجيب من ميزة غاية في الأهمية بالنسبة له، وهي "كي ملابسه" فلم يعْتَد نجيب أن يرتدي ملابسه دون "كيِّها" ما كان يسبب له مشكلة يومية حقيقية، فهو يرى أن أهم ما في الفنان هندامه ونظافة ملابسه، على عكسِ أغلب المحيطين به الذين يرون في ذلك تكلُّفًا زائدًا لا طائلَ منه، حتى اهتدى نجيب يومًا إلى حيلة تؤدي الغرض، وهي أن يضع "بنطاله" أسفل "المرتبة" التي ينام عليها، من المساء حتى الصباح، فتفعل فيه فعل "المكواة".

أتت الفرقة على أغلب محافظات الوجه البحري خلال أشهر الشتاء والربيع، وكان عليها العودة إلى القاهرة، ليس للراحة، لكن لأن الموسم الصيفي على الأبواب، وبالتالي فلا بد من الانتقال إلى محافظات الوجه البحري والإسكندرية، وبالفعل كانت البداية من مدينة "طنطا" التي انتقلت إليها الفرقة وبدأت إعادة رواية "عشرين يوم في السجن" لشدة نجاحها مع جمهور الوجه القبلي، وفي الوقت نفسه لحين انتهاء نجيب من ترجمة الرواية الجديدة، حتى كان صباح يوم الثامن من شهر إبريل في العام 1911، وبينما كان نجيب لا يزال يتمدد على "المرتبة الجوالة" التي يصطحبها معه من محافظة إلى أخرى ومن بلدة إلى أخرى للنوم عليها، وإذ بمن يطرق باب الحجرة:

* افتح يا غبريال
ـ يا عالم حرام عليكم.. أنا مانمتش طول الليل!
* أنت برضه اللي مانمتش؟ لك حق.. منمتش طول الليل من "السيمافور" اللي بيصفر طول الليل في مناخيرك.
= خلي عنك منك له.. هافتح أنا..
* واجب عليك برضه يا أمين أفندي..

قام أمين وفتح الباب، ويا لهول المفاجأة، إنها السيدة لطيفة، والدة نجيب الريحاني، انتفض الريحاني من فراشه، وهو يحاول أن يداري نفسه، بل ويتمنى أن تنشق الأرض وتبتلعه، تسمرت عيناه مكانهما بينما راحت عينا والدته تتجولان في الحجرة التي يعيش فيها ابنها الفنان.. حجرة فقيرة أتت عليها الرطوبة من كل جدرانها، وعدد من المراتب مفروشة على الأرض، وملابس وأغطية مبعثرة، مكان لا يرقى إلى عيش الآدميين.
استقرت عينا السيدة لطيفة على عيني نجيب.. الذي لم يقوَ على النظر فيهما، فطأطأ رأسه خجلًا مما رأته والدته، وهو من كان يتحدَّاها من أجل العمل بالفن، فهل تحدَّاها من أجل هذا المنظر الذي يبعث على الحزن والأسى؟! هل تحداها وخرج من بيته غاضبًا لأنها رفضت أن يكون ابنها مجرد "مشخصاتي" أقرب إلى المشردين في الشوارع؟!

نجيب الريحاني

فقد اجتهد من أجل أن يُدخل في رَوْعِها أنه على أحسن حال في عمله من الفن، وأنه ليس محتاجًا لخير يأتيه على يد أهله، لكن أين ما كان يتحدث عنه؟ فقد انكشف أمره وظهر جليًّا ما فعله به حبه للفن والتشخيص، وبدورها لم تدخر والدته جهدًا في إظهار نظرات من العتاب هي أقرب إلى الشماتة منها إلى أي شيء آخر، ولم تنطق سوى جملة واحدة تلقاها نجيب وهو ينظر في الأرض ثم هز رأسه بالموافقة دون أن ينطق ببنت شفة:
ـ البس هدوم.. وإذا لك حاجة هنا هاتها معاك.. أنا مستنياك بره.

فقد وصلَ خطابٌ مسجلٌ بعلم الوصول إلى نجيب إلياس ريحاني على عنوان منزله "في القاهرة" من شركة السكر "بنجع حمادي" تدعوه فيه للعودة إلى استئناف عمله بها، بعد تدخل بعض الأقارب وأصدقاء العائلة، بإيعاز من والدته، ليُعادَ إلى عمله، وما إن وصل خطاب العودة، حتى حملته السيدة لطيفة وهي تطير فرحًا، وبعد أن أضْنَاها البحث عن مقرِّ الفرقة التي يعمل معها ابنها، والسؤال هنا وهناك، والتنقيب عن أُسَر الممثلين، تسألهم عن أخبار أبنائهم، وأين يحطُّون الرحال، وأخيرًا، اهتدت إلى أنهم يقيمون في طنطا.. فلم تتردَّد وهبَّت من فورها لاستعادة ابنها.

عاد نجيب ومعه متاعُه، بصحبة والدته إلى بيته في حي باب الشعرية في القاهرة، فلم تذهبِ السيدة لطيفة لمصالحة ابنها وإعادته بعد أن رقَّ قلبها لحاله أو إنها عرفتِ الظروف القاسية التي يمر بها، بل ذهبت لإحضاره لسبب آخر أهم، فهي لا يهمها كيف يعيش بعيدًا عنها، ولا كيف يأكل أو يشرب، فما دام أنه بلا وظيفة، فليس له مكان في بيتها، لكن عندما تصبح له وظيفة فإنها تبحث عنه بنفسها وتعيده إلى بيته، فقد حدثت المعجزة وأرسلت له شركة السكر بنجع حمادي خطابًا تخبره بأن الشركة قد أعادت تعيينه بها مرة أخرى، وتطلب منه سرعة الحضور.. حقًّا إنها معجزة.. لكن كيف حدثت؟!

حدث خلافٌ حادٌّ بين بعض موظفي الشركة وبين توفيق ميخائل، غير أن الرجل بما له من خبرة طويلة في مجال عمله، لم يترك خلفه خطأً يمكنهم الوقوف عليه واستخدامه لفصله، بل إن رؤساءه وزملاءه أعياهم تصرفاته الصحيحة الملتزمة، غير أنهم لم يطيقوه بينهم، ولا بد من البحث عن حيلة ليبعدوه، فلم يجدوا سوى إعادة غريمه المفصول "نجيب إلياس ريحاني"، خاصة بعد تدخل بعض الأصدقاء والأقارب، فمن المؤكد أن عودة نجيب ستجعل توفيق أفندي يقول: "حقي برقبتي" ويفر من الشركة مهما كانت الإغراءات أو الأسباب التي تجعله يتمسك بها.. لذا كان هذا سبب الخطاب الذي وصل نجيب لإعادته للشركة.

لم يبِتْ نجيب ليلته في القاهرة، بل استبدل ملابسه الرثَّة بأخرى نظيفة مكواة، وتناول وجبة ساخنة حُرِمَ منها لأشهر طوال، وفي المساء كان جاهزًا بحقيبة ملابسه، اتجه إلى محطة سكك حديد مصر، حيث وصل القطار إلى نجح حمادي مع أول ضوء للنهار.

ما أن تسلم نجيب مهام عمله من جديد، حتى جلس إلى مكتبه ونظر إلى جدران الحجرة، وأقسم إنه لن يعود إلى التمثيل من جديد مهما حدث، ومهما كانت الأسباب، ويكفي الليالي الطوال التي عاش فيها في الشوارع ونام فوق الأرصفة بلا مأوى وبلا طعام!

تسلم نجيب عمله في شركة السكر، لكن ليس كسابق عهده، فعلى الرغم من أنه خرج من الشركة مطرودًا بفضيحة مدوية، فإنه عاد إليها مديرًا للحسابات، فقد رأى رؤساؤه إمعانًا في التضييق على توفيق أفندي، أن يكون نجيب هو رئيسه في العمل وأن يكون من اختصاصه مراقبة أعمال توفيق، على عكس ما كان، كما لم يدَّخر الرؤساء توصية قدموها لنجيب من أجل "تطفيش" توفيق أفندي.

وجد نجيب الفرصة سانحة أمامه، ليس فقط للانتقام من توفيق أفندي، بل لينال رضا رؤسائه وتثبيت قدميه في هذه الوظيفة التي لم تكن تخطر له على بال، ولو في الأحلام.. وبدأ على الفور تنفيذ مخطط قيادات الشركة، وبدأ أحداث مسلسل "تطفيش" توفيق أفندي.. غير أنه لم يتوقع ما رآه.

اقرأ أيضا:

ظهور نادر لنجاة الصغيرة في حفل Joy Awards

joy Awards تمنح عادل إمام جائزة زعيم الفن العربي ... ورسالة صوتية خاصة من الفنان بعد غياب

أول رد من مجلس نقابة الموسيقيين بعد تلويح مصطفى كامل بالاستقالة

قضى ليلة بالحبس ... تفاصيل مشاجرة حمو بيكا في كافيه شهير بـ 6 أكتوبر

كاميرا في الفن في العرض الخاص لفيلم ليه تعيشها لوحدك ... شاهد ماذا قال النجوم

حمل آبلكيشن FilFan ... و(عيش وسط النجوم)

جوجل بلاي| https://bit.ly/36husBt

آب ستور|https://apple.co/3sZI7oJ

هواوي آب جاليري| https://bit.ly/3LRWFz5