في وداع فانجيليس الموسيقار اليوناني قائد "عربات النار"

تاريخ النشر: الاثنين، 23 مايو، 2022 | آخر تحديث:
الموسيقار اليوناني فانجيليس

مازلتُ أذكر حتى هذه اللحظة أول مرة أستمع فيها إلى فانجيليس أسطورة الموسيقى اليوناني الذي رحل عن عمر 79 عاماً.

أتت بي أمي من يدي وشغلت الكاسيت، لنستمع وقتها إلى مقطوعة Chariots of Fire، أتذكر جيداً كيف أغمضت أمي عينيها ولم تشعر بوجودي، انغمست في الموسيقى بكل كيانها ورغم صغر سني حاولتُ تقليدها، أن أكون هي ولو لحظة.

بيتادين ... عن الراب وكسرة القلب وأغاني تسمعها في المترو وحيداً

كانت أمي قد استمعت للمقطوعة كتتر لبداية إحدى المسلسلات، ورغم صعوبة تقفي أثر مقطوعة موسيقية أو أغنية تحبها في التسعينات بدون -زمن طفولتي- إلا أن أمي كانت تشغل بالها بهذه التفاصيل، فتتبع أثر الموسيقى وتحاول الاستماع إلى برامج الموسيقى على إذاعات (إف إم) وإذاعة الموسيقى الكلاسيكية حتى تصل إلى مبتغاها، فالأغاني دائماً -كذا قالت لي- تتكرر، يجب فقط أن نكون مستعدين لاستقبالها حينما تحضر.

كانت المقطوعة ملحمية، تسمو بالمشاعر، إذا ترك المستمع نفسه لها، صممها فانجيليس بعد أن لعب جميع الآلات بنفسه من بيانو ودرامز وإيقاع ومزجها جميعاً باستخدام جهاز المركّب (جهاز المزج الإلكتروني) والذي برع هو في أن يصبح أحد أساطيره الموسيقية، كما أحدثت هذه المقطوعة ثورة في صناعة الموسيقى التصويرية للأفلام، إذ كانت غير مألوفة خاصةً أنها كانت الموسيقى التصويرية لفيلم بريطاني ملحمي بعنوان "عربات النار" وكان من الطبيعي لهذه المقطوعة الثائرة الخارجة على النمط أن تعتلي سلم المجد، ويحصل بسببها فانجيليس على أوسكار أفضل موسيقى تصويرية عام 1981.

لم أتابع فانجيليس منذ هذه المرة التي عرفتني فيها أمي على المقطوعة، لكنني في ليلة شتاء باردة، وأثناء مشاهدتي لفيلم السَيْبَرْبنك الرائع Blade Runner نسخة الثمانينات الشهيرة التي أخرجها ريدلي سكوت، جاءت الفتنة، كان مشهد بالتصوير البطيء لمقتل إحدى الروبوتات الحيوية على يد البطل الهوليوودي جداً هاريسون فورد، وانطلقت المقطوعة بليد رانر بلوز، قطعة من السحر، منحت مشهداً عادياً سمة ملحمية تحرك شغاف المتفرج، شعرتُ بألفة لحظية مع صانعها، وعندما بحثتُ وأنار لي الاسم تلك الذكرى من طفولتي.

الموسيقار اليوناني فانجيليس

أخذ فانجيليس تلك المكانة المستحقة كأحد صناع الحكايات والأساطير في خيالي، إذ كيف يمكن لمقطوعة أن تتحول لحياة قائمة بذاتها، تصنع مشهداً أو تهبط به إلى قعر الجحيم، مقطوعة بليد رانر بلوز تشبه عازف بلوز قرر العمل في أحد بارات هذا العالم المستقبلي المظلم، ليصبح جزءاً من التفاصيل، مُعشقاً فيها، مختفياً وراء الأمطار المتآمرة، ومرسلاً موسيقاه كمرثية لعالم سفلي يتآكل حتى يصعد على أكتافه عالم فوقي منمق، يتم فيه تصفية الروبوتات القديمة المهمشة لمصلحة استقرار عالم البشر على كوكب الأرض.

يوناني كان، قادم من عالم الميثولوجيا الإغريقية، حيث يتصارع آلهة الأوليمب مع البشر، أتى من رحم الإله أبولو راعي الفنون، اصطفت حوله الميوزات وأبولو يمنحه الهبة واللعنة في آنٍ واحد، أتخيله يشتعل بجذوة الفن والنار في استوديو نيمو الذي أسسه في لندن والذي سجّل فيه معظم إبداعاته الموسيقية العظيمة.

في مشاهدته يعزف ملحمته الأيقونية "عربات النار" من الحفلات، يُلاحظ أنه لا يبتسم، وجهه المنحوت يختلف تماماً عم ملامح ابن موطنه ياني عازف البيانو الشهير والذي يبدو في كل مقطوعة مستمتعاً مغمضاً عينيه وكأنما يتلقى الوحي من الآلهة. بعكسه يبدو فانجيليس بملامحه اليونانية الوحشية والتي تذكرنا بالمطرب الأيقوني ديميس روسوس؛ شعر هيبي ولحية طويلة، وكأنما يستحضر سحراً داخلياً، معزوفة لا يسمعها سواه ولا حتى الميوزات الموحيات. ينصب جل تركيزه على البيانو أمامه، ويبدو غارقاً في اللحن بذهن حاضر متيقظ لا لنا، بل للحن.

في تلك اللحظة التي قرأتُ فيها خبر وفاته، هربتُ إلى أحد فيديوهات تسجيلات عزفه في إحدى الحفلات بأثينا، تأملته يرفع رأسه مغمضاً عينيه، ثم منزلاً إياها منهكماً في العزف، ترى فيم يفكر، أتخيل حالنا غارقين في الموسيقى، مستمعين مستمتعين بها، فماذا عنه هو الصانع؟ ترى إلام يصل؟ هل يحلم كالروبوتات في بليد رانر أم يركب عربة من عربات النار نحو المجهول، أم يقرع الطبول في طريقه لأمريكا مشيداً بهذا مقطوعته الرائعة 1492: فتح الجنة؟ لم يكن مهماً الوصول مع فانجيليس إلى سر الفن، هذا السحر الذي يصيبنا برجفة فيحرك كياناتنا الجامدة، ينسينا أعباء الحياة ولو لحظة، وهكذا الموسيقى، قد تعيدنا إلى لحظة من الطفولة كتلك التي نسيت فيها أمي وجودي إلى جانبها ورحلت مع موسيقى فانجيليس إلى مكان بعيد ربما أبعد كثيراً من حدودها وحدوده الجغرافية.


اقرأ أيضا:

بليغ أبو الهنا وأسطورة الطفل البالغ

"اليوم السادس" ... عن "صدّيقة" و"عوكّا" وحكايات المهمشين

لا يفوتك- حلقة خاصة لتحليل أغنية أنغام "لوحة باهتة" في "تحليل النغمات مع عمك البات

حمل آبلكيشن FilFan ... و(عيش وسط النجوم)

جوجل بلاي| https://bit.ly/36husBt

آب ستور|https://apple.co/3sZI7oJ

هواوي آب جاليري| https://bit.ly/3LRWFz5