"اليوم السادس" ... عن "صدّيقة" و"عوكّا" وحكايات المهمشين

تاريخ النشر: السبت، 26 مارس، 2022 | آخر تحديث:
داليدا ومحسن محيي الدين في مشهد من فيلم اليوم السادس

لا أعلم لماذا أحب جيلنا أفلام السيرة الذاتية ليوسف شاهين دوناً عن غيرها؟

أتساءل عن حبنا لأفلام السيرة الذاتية، بعكس الجيل الذي سبقنا مثلاً والذي فضل أفلام شاهين الملحمية المضبوطة بالمازورة؛ الناصر صلاح الدين وجميلة والعصفور، حتى باب الحديد ملحمة الهوس والعجز والأوديبية، كان للملحمة أقرب من الحميمية التي تحدث بها شاهين في أفلام مرحلة السيرة، والتي بدا فيها وكأنما يهمس لكل واحد فينا بسر مستغلق من أسرار الكون، ولكل واحد منا طريقته في تأويل أو تفسير هذا السر على هواه.

يوسف شاهين مع داليدا من كواليس فيلم اليوم السادس

من بين أفلام الديو الرائع محسن محيى الدين ويوسف شاهين، شاهدتُ فيلم "اليوم السادس" في مرحلة متأخرة من مشاهداتي السينمائية، بينما الحظر المترتب على انتشار وباء كورونا في العالم على أشده، خلال استراحة بين ساعات يوم عمل رسمي على اللاب توب الشخصي الخاص بي في أحد المقاهي القريبة من مقر عملي، لم يخرج أي مخلوق من منزله وقتها لكن عملنا لم يكن يسمح لنا بالعمل من المنزل كبقية البشر. كانت أجواء مدينة الإسكندرية الشبحية تؤثر علي، بالطبع أثّرت وإلا لما انزلقت قدمي إلى هذه المركب البعيدة، محبوسة مع صديقة وعوكّا، والشد الجنسي بينهما على أشده، الموت داخل صديقة يهتز للشباب والحيوية داخل عوكّا، وروح الحياة داخله تغالب شهوته لامتلاكها، واحتياجه لذلك الحنان المتدفق والذي يمنحها وهجاً وتألقاً لا تخفيه طرحتها السوداء ولا نظرتها الميتة ولا ملامحها الجامدة التي نحتها الزمن بقسوته. سحرني "اليوم السادس"، ندهتني نداهة شاهين لأصبح أسيرة هذا الفيلم، أشاهده وحيدة في هذا المقهى الوحيد والشارع بالخارج لا يمر به مخلوق رغم أنها الظهيرة.

رشح لي الصديق السينيفيلي الموهوب أحمد طارق الفيلم، وشاهدته في لحظة انغلق فيها العالم عليا، أحكم قبضته حتى وجدتني غير قادرة على التنفس، ورغم كآبة القصة، وحزن الفقد الذي أحاط بصديقة من أمل مفقود لآخر، أحببتها، وشغفت بها وإن تأكدت أن قصتها مأزومة لكنها بعيدة كل البُعد عن الصورة القبيحة التي تظهر بها قصص الحب ذات فارق السن الكبير في أفلام أخرى.

داليدا في مشهد من فيلم اليوم السادس

منذ اللحظة الأولى، والكادر الذي تظهر فيه صديقة والتاجر رفحي يشاهدان عوكّا برغبة دفينة داخل كل منهما، والتناقض بين الحياة والموت واضح وصريح، فعوكّا يمثل الحياة والأمل، وصديقة تمثل الرغبة المدفونة أسفل أطنان الآلام وقسوة الحياة التي تعيشها كما أكوام الملابس التي تغسلها لتؤمن حياتها وحياة زوجها القعيد وحفيدها الوحيد الذي يحيي داخلها ما قتله شظف معيشتها، وكما اعتاد شاهين يمثل رفحي هذا العامل المؤثر في الأحداث دون أن يتأثر بها، هو ملاك الموسيقى الذي يظهر لكريستين في المرآة دون أن يصبح شبح الأوبرا نفسه، أما عوكّا فهو فتى مهووس بالسينما والرقص يحيا حياة غجرية بوهيمية ويترك في صديقة ورفحي ما يتركه من يشاهد الشباب بحسرة من يفقده رويداً.

جاءت اختيارات يوسف شاهين للممثلين عبقرية. حتى وإن طالتها عيوبه المعتادة، لكنها بدت في هذا الفيلم شديدة الروعة والملائمة، لم يكن هناك من يمكن أن يجسد حفرة الموت داخل صديقة مثل داليدا، والتي كانت تتآكل بدورها، تنسحب منها روح الحياة ببطء حتى تتركها هزيلة، لون جلدها يفتقر للنضارة، في عينيها نظرة لا باردة ولا حارة، لا مبالية حتى أمام أقوى الغوايات وأشدها تأثيراً، عوكّا هو محسن محيى الدين في أنضج حالاته بملامحه الوسيمة الماكرة، وما يمثله من حلم استعادة الشباب ولو لليلة مع هذا القرداتي المشحون بالعبث والحياة.

في طريقها تقابل صديقة كثير من الرجال الذين ينجذبون إليها، لا لملامحها ولا لآثار سحر غابر ولكن للدفء الذي تحمله بين قلبها ولم تتسلل إليه برودة حياتها وحدة الصدمات التي واجهتها، تغمر صديقة حفيدها حسن بذلك الحنان والحب الحقيقيين فينجذب الرجال إلى هذه الطاقة الحنونة المشبعة فيها، يودون لو امتصوها للأبد، ولأن عوكّا هو الأكثر جدارة بهذا، تطول حكايته معها بعكس رفحي والأستاذ اللذين يبتلعهما النسيان، لا يصمدان أمام طوفان الموت وشوطة الوباء. الشباب الكامن في عيني عوكّا هو ذلك التحدي الشاهيني الذي طالما تمسك به في مواجهة كل القيود التي كرهها؛ قيود السرد، الوسيط السينمائي، الرقابة، والمجتمع، كأنما تجسدت كل هذه الهواجس والمخاوف في شخص عوكّا ومن وراءه محسن محيى الدين أفضل من استطاع تجسيد الشخصية الشاهينية بشهادته وشهادة الجميع.

لجيلنا تلك العلاقة الخاصة بمحسن، فنحن نحبه ونمقته، نفتتن به ونعيد تشكيله وفقاً لحكاياتنا، هناك من يرون في حريته منطقية، وآخرين أرادوا له أن يكون ذلك الصلصال الذي يشكله شاهين كيفما شاء، تجرد محسن من كونه إنساناً ليصبح رمزاً لشباب ولّى وأحلام قُمعت وحكايات لم تروَ بعد، مثله في ذلك مثل الفنانين الغربيين الذين رحلوا مبكراً من أول جيمس دين وإلفيس بريسلي وحتى كيرت كوباين وريفر فينكس، هؤلاء الفتية الحائرون الذين يحدقون فينا من وراء الشاشات بعيون شابة لن تشيخ أبداً، محبوسين دوماً في قفص الشباب الأبدي، وبسبب غربة محسن عن الفن وابتعاده ثم عودته بشكل مغاير تماماً لما تصورناه في أحلامنا ظل محسن منقسماً إلى اثنين؛ محسن شاهين ومحسن الحقيقي.

وبالعودة لعوكّا وصديقة، يعود شاهين للعلاقات الأوديبية المفضلة له في توصيف علاقة الرجل بالمرأة، فالرجل دوماً هش، ضعيف، قليل التجارب الجنسية والإنسانية، يفتقر للخبرة ويتعامل مع الحياة باستهتار الشاب المقبل عليها أما المرأة فخبرت من الدنيا أضعاف عمرها، لها تلك القوة الجنسانية الكاسحة، ولها تلك المرارة والثقة اللتين اكتسبتهما من اعتيادها تقلبات الحياة وفي هذا هي تتفوق عليه، لكنه يغلبها بجرأته واقتحامه، فيظل الشد والجذب بينهما حاضراً أبدياً، لا تغلبه ولا يغلبها، وبعكس الأفلام الأخرى التي تصور علاقة امرأة بشاب يصغرها لا يشيطن شاهين هذه المرأة، ولا يجعل أحدهما ضحية والآخر جلاد، يتعامل من منظوره المتحرر من قيود المغايرة الجنسية، فلا هو ملاك ولا هي شيطان، صديقة تصد عوكّا لا لأنها أفضل منه، لكنها تتمنع عنه وتصده بعنف امرأة فهمت الدنيا أكثر منه.

تعلم جيداً أن نهر الشباب ليس من حقها، وهذه الشربة لن ترويها، بل ستزيدها عطشاً، فيما يرى هو أنها انتصاراً لكيانه، لوجوده ذاته، يرى في الحصول عليها أرضية جديدة مكتسبة، وفي لقائهما المرتقب إطفاءً لظمأه، يريد أن ينهل من نهر حنانها المتدفق على جسد حفيدها الذي يذوى فتذوى معه أحلامها، يراها تولول وتلطم خوفاً على فقدان الطفل فيدهش من كون هذا الحب والعطاء ممكناً في ظل وباء يفر فيه الجميع بجلده من الموت، فلا يهتم بمن مازال يقف إلى جانبه، إلا صديقة الحنونة المعطاءة القاسية، المتمنعة الراغبة، القديسة على مذبح مدينة مسحوقة تحت وطأة الفقر والمرض. في المقابل، يمثل عوكّا هذا التخبط الذي ينبع من الشباب، الخفة التي تحملها قلة التجارب والرغبة في الاندفاع نحو حياة غامضة تعد بالكثير، في نظر صدّيقة ورفحي عوكّا هو شاب طائش يضج بالرغبة والمجون لكنهما سراً يحسدانه على تلك الفطرة الحقيقية التي فقداها، ولكن فيما تزهد صدّيقة كل الزهد في اصطياد هذا الشباب أو احتوائه داخل نفسها المستسلمة لقسوة واقعها وظلمته، تتسلل روح عوكّا القلقة لأمانها الداخلي لتهشمه في أكثر من موضع، لكنها لا تتحطم.

فعوكّا هو المهووس بحلوة الحتة، وهي للمفارقة صدّيقة التي يكتشف مصادفة أنها شقراء، لكنها في نظره حلوة الحِتة نظراً لغموضها وحنانها وعنفها في تعاملها معه، تناقضاتها في عالم بائس تثيره فتمنحها حياة أكبر من الحياة، كالسينما بالضبط، أما عوكّا نفسه فهو العاشق الخائف من العشق لكنه أيضاً عطش له، يمكنه مضاجعة فتاة شابة أخرى لكنه يتعلق بتلك المرأة العجوز الغامضة، يريدها أن تذهب معه لألذ مكان، وتلك الحلوة لا تريد الذهاب لإسكندرية إلا لغرض محدد وهو التبرك، الاستشفاء لحفيدها الكائن الوحيد الذي ينير حياتها المقفرة، وفيما هذا الصراع يحتدم، يرقص عوكّا، يحاول إغواء صدّيقة بكل الطرق، يرى أنها تتمنع عنه رغم أنها تتحرق لممارسة الحب معه، ويظل قلبه معلقاً بها، مما يمنح الفيلم الغرائبي مسحة رومانسية يفهمها كل من اختبر العزلة والوحشة في ظل الحياة تحت رحمة وباء غامض، لا يمكن توقع مدى توغله في حياة البشر، أو من سيحصد منهم.

ببراعته واهتمامه بالشخصيات النسائية، استطاع شاهين أن يمنح صدّيقة أكثر من رجل، طوال مسيرتها البائسة من امرأة ظهرها محني أمام طشت الغسيل، أو تمسح الأراضي من آثار القيء، كانت صدّيقة تقابل رجالاً يتركون بصمات في روحها، وتترك هي بمشاعرها الفياضة رغم صلابتها في قلوبهم أثراً لا يمحيه الزمن، فالأستاذ مثل لصدّيقة كل شيء جميل ونظيف ونقي، التعليم والحلم المتعلق بحفيدها والأصالة والأخلاق، تجسدت فيه كل المعاني المختفية من حياتها المنسحقة، ومع هذا رحل، وزوجها لم يكن أكثر من حائط تستطيع الاستناد إليه أو الإشارة إليه في حال ازدادت مضايقات الآخرين عليها، لم تتعامل معه سوى لرمز ذكورة رحلت واندثرت، كصورة أب معلقة على حائط يستند إليها الأبناء في حال اشتدت عليهم مصائب القدر. ورفحي كان رضوان حارس الجنة أو السينما في "اليوم السادس"، ولهذا تعاملت معه صدّيقة كرمز لا كرجل تشتهيه أو تتطلع إليه بحب عذري كالأستاذ، أما عوكّا فكان ما هدم كل الأسوار التي بنتها، اقتحم ذلك الحصن المنيع الذي شيدته لتحمي نفسها من أن تتعلق بدنيا كان فيها مصيرها أبداً على الهامش.

لم تكن صدّيقة هذه المرأة التي تليق بالحكايات التقليدية، ليست الفنانة زينات أو صاحبة القهوة، لكن في عالم شاهين الخصب الساحر كانت هي أصل الحكاية، الربة المعشوقة التي يفتتن بها الرجال دون أن يدرون سبباً لذلك، هي الأم المضحية والحبيبة الغادرة والجدة الحنونة والزوجة التي تعلي من شأن كرامتها على الحب، ربما رأوها جميعهم قديسة لإصرارها على العطاء دون أن تفهم سبباً لذلك، وفي هذا ربط شاهين بين حقيقة داليدا المرأة العاشقة الفنانة التي لم تأخذ حظاً من الدنيا، فتسرب الفناء إلى روحها حتى جعل منها أيقونة شهيدة، رمزاً لكل جمال اندثر وبقيت آثاره لتذكر الناس به، ابتسامة غامضة، أغاني مسكونة بالهواجس، وفيلم غامض عن حلوة حتتنا وحبيبها الملعون بهذا الحب.


اقرأ أيضا:

هالة صدقي: رغدة حذرتني من أحمد زكي وبكيت بعد مشهد ضربه لي في "الهروب" (فيديو)

منى زكي ودرة وتامر حسني من بينهم ... النجوم في حفل زفاف شام الذهبي

تامر حسني يمازح ليلى وملك أحمد زاهر: بقيتوا أكبر مني هنعمل الجزء الرابع من "عمر وسلمى" إزاي؟ (فيديو)

دنيا سمير غانم وأشرف زكي ونهال عنبر في جنازة الراحل أحمد حلاوة

لا يفوتك: أحمد نادر يحدثكم عن مشروع محمد عدوية الغنائي ويحلل أحدث أعماله "استضعفوني" وعلاقتها بـ "تقدر تطير"


حمل آبلكيشن FilFan ... و(عيش وسط النجوم)

جوجل بلاي| https://bit.ly/36husBt

آب ستور|https://apple.co/3sZI7oJ

هواوي آب جاليري| https://bit.ly/3LRWFz5