مصطفى حمدي
مصطفى حمدي تاريخ النشر: الأربعاء، 9 يونيو، 2021 | آخر تحديث:
الملصق الدعائي الرسمي للحفل

لم يمر وقت طويل على عاصمة النور "باريس" كي تشهد حدثًا فريدًا آخر بعد فوز فرنسا بكأس العالم في قلب ضاحية "سان دوني".

يعيش الفرنسيون حالة من الإنتشاء منذ شهرين، الشوارع مازالت مزينة بألوان العلم الفرنسي، وصورة زين الدين زيدان تستقبل السياح في شارع الشانزيليزيه، البهجة تسير على قدمين فوق أرصفة العاصمة ، لقد دبت السعادة في روح وطن امتزجت فيه ألوان البشر من أوروبا وإفريقيا، أصبح الجيل الثاني من أبناء المهاجرين العرب جزءا من نسيج المجتمع، ولهذا لم يكن غريبًا أن يحتشد اكثر من 60 ألف عربي وفرنسي في "قصر بيرسي" لمتابعة أول حفل موسيقي يجمع ثلاثة من ملوك موسيقى الراي، الشاب خالد، رشيد طه، وفضيل .

من منا لم يرقص على إيقاعات أغنية "بعد القادر" العلامة الأبرز والأهم في حفل "الشموس الثلاثة" أو كما هو معروف بالفرنسية "1, 2, 3 Soleils " ؟

في شتاء 1999 وقفت أمام "كشك الكاسيت" المجاور لمنزلي أبحث عن "شريط" أغنية عبد القادر ، عرفت قبلها من برنامج "بانوراما فرنسية" الذي كان يذاع على شاشة القناة الثانية بالتليفزيون المصري أن الأغنية ظهرت في حفل ضخم أقيم في فرنسا، حضرته كل الجاليات العربية هناك تقريبًا ومعها الالاف من الفرنسين الغارقين في غرام الراي.

يملك الشاب خالد ومعه رشيد طه شعبية جارفة في فرنسا، خالد كان أول من فتح الطريق عندما رَقّص أوروبا على أنغام "دي دي" ثم عاد بعدها بسنوات ليقدم رائعته "عايشة"، ومع الأغنيتين نال جائزة "وورلد ميوزيك أوورد"، الأهم عالميًا في هذا الزمن، أما رشيد طه فعرفناه وقتها بأغنيته الشهيرة "يارايح" التي غناها في الأصل دحمان الحراشي قبل عقود .

خالد ورشيد وفضيل في كواليس الحفل

ثورة موسيقية بأصوات أبناء المهاجرين

نعود إلى الحفل المهم .. من فكر في صناعة هذا الحدث ولماذا ؟

تمثل حقبة التسعينات فترة هامة في علاقة المهاجرين العرب بالمجتمعات الأوروبية، بينما يمثل خالد وفضيل وطه ثلاثة نماذج مختلفة لتلك العلاقة ، خالد الذي ولد في وهران بالجزائر، وعاش فيها طفولته وشبابه سافر إلى فرنسا نجمًا يمثل موضة غنائية جديدة تقتحم الأذن الغربية، أما رشيد فولد في الجزائر وهاجر خلال مراهقته إلى فرنسا وتشكلت شخصيته هناك، وبدأ مشواره الفني بفرقة روك تدعى "بطاقة إقامة" كانت تطور أغاني التراث الجزائري وبعض الأغاني التي تتناول معاناة المهاجرين، حتى أغاني أم كلثوم قدموها بصبغة "الروك"!

ثالثهما كان فضيل وهو نموذج حي للجيل الثاني من المهاجرين العرب بفرنسا، حيث ولد ونشأ هناك وتشكلت ثقافته داخل هذا المجتمع، إذن نحن أمام ثلاثة نماذج تجسد ثورة موسيقية وثقافية ارتفع صوتها في المجتمع الفرنسي، وحان الوقت لتعلن عن نفسها بوضوح في قلب العاصمة.

في هذه الفترة كان الشاب خالد متعاقدا مع شركة "باركلي" للانتاج الموسيقي، وهي بالمناسبة كانت المنافس الأهم لشركة "سوني" في السوق الأوروبية.

حاولت "سوني" أن تتعاقد مع رشيد طه وخالد، ولكن "باركلي" كانت صاحبة السبق في تبني مشروع موسيقى الراي عالميًا، التقطت الشركة صوت رشيد بعد نجاحها مع خالد، وحان الدور على فضيل الذي كان مشروعها الأحدث، ولكي تستعرض قوتها في السوق الأوروبية قررت أن تقدم حفلًا هو الأضخم لتعلن تربع الراي على عرش الموسيقى المتداولة في القارة .

يقول الشاب خالد في لقاء مع التليفزيون الفرنسي: هذا الحفل لم يكن ليخرج إلى النور لو تعاقدت "سوني" مع رشيد ، هم لديهم مشاريع مختلفة ثقافيا وفنيًا عن طموحاتنا.

تم الاتفاق على إقامة الحفل في سرية تامة، مفاوضات استغرقت أشهر طويلة، تفاصيل كثيرة بداية من الأغاني التي ستقدم، مرورا بإخراج الحفل موسيقيا، كثير من الأسئلة طرحت نفسها على طاولة المفاوضات، ما الالات التي ستُستخدم؟ ومن الموسيقار الذي سيقود الفرقة؟ هل سيغني الثلاثة أغاني تراثية أم سيتبادلون غناء أغانيهم الشهيرة؟ وهنا كان دور العقل المدبر لكل ذلك وهو المنتج "ستيف هيلاج".

المصريون مروا من هنا

استعانت شركة "باركلي" بمطرب الروك الشهير "ستينج" صاحب الـ 16 جائزة جرامي، والمسيرة الفنية الحافلة بما يقرب من 100 مليون أسطوانة بيعت على مستوى العالم، يملك "ستينج" خبرة موسيقية تتخطى الحدود والثقافات، الرجل الذي يعد واحدًا من أيقونات الروك وتأثر كثيرًا بالموسيقات الشرقية والإفريقية، هو الشخص الأنسب لخلق مزيج فريد بين التراث والموسيقى المعاصرة في أوركسترا الحفل.

ستينج خلال لقائه بملوك الراي في تحضيرات الحفل


هنا سنكتشف المفاجأة الأكبر والأهم، الإيقاعات الشرقية والمغاربية تحديدًا تتطلب عازفين يملكون تلك الثقافة، لدينا مزامير ودربكة وبندير وآلات مغربية تحتاج إلى وتريات شرقية على رأسها الكمان لتكتمل الصورة إلى جوار الايقاعات الغربية ، إذن من هم ملوك تلك اللعبة في المشرق؟ لا أحد أفضل من المصريين!

لا شك أن "ستيف هيلاج" صاحب شركة باركلي ومنتج الحفل كان البطل في صياغة هذا المشروع ، حيث استعان بالموسيقار المصري هاني فرحات، أحد أبرز عازفي الكمان في العالم العربي، وقائد لأوركسترا تضم عددا كبيرا من عازفي الكمان الموهوبين أغلبهم من خريجي كلية التربية الموسيقية والمعهد العالي للموسيقى، بالمناسبة أحد العازفين الذين شاركوا في الحفل كان محمد نور الذي أصبح فيما بعد أحد نجوم فريق "واما" ، حيث ظهر في فيلم وثائقي انتجته القناة الثانية بالتليفزيون الفرنسي حول كواليس الحفل.

مقطع من تقرير التليفزيون الفرنسي يضم لقاء مع هاني فرحات ومشاهد لمحمد نور

من مصر شارك أيضًا عازف البركشن حسام رمزي، وكان حضوره مؤثرًا، وأجرت الفرقة العديد من البروفات للوصول للشكل الموسيقي المطلوب ، خاصة وأن "الوتريات المصرية" لعبت دور البطولة في مزج التراث الجزائري وإيقاعاته بالموسيقى المعاصرة التي تشمل الروك والجاز والفانك، ولكي تكتمل الصبغة العالمية للمشروع جاء صناع بعازفة "الباص جيتار" الأمريكية جايلان دورسي، وشارك نجم الراي الجزائري الشاب مامي ببعض إسهاماته الموسيقية وآرائه، وبدأت البروفات التي استمرت 60 يومًا بحضور جميع العازفين، حيث يقال أن تكلفة الحفل بلغت 6 ملايين فرنك فرنسي في زمن ماقبل اليورو.

ملوك الراي يحكمون باريس الآن

في ليلة السادس والعشرين من سبتمبر عام 1998، وفي تمام الثامنة مساء بتوقيت باريس أنطلق الحفل، بمقدمة موسيقية من أغنية "خلوني خلوني" للراحل دحمان الحراشي، كانت من أروع ما عُزف فوق مسارح أوروبا.

بعدها بثواني ظهر خالد ورشيد طه وفُضيل، وبرفقتهم أكثر من مئة موسيقي من مختلف قارات العالم في الحفل الذي استحق لقب ملحمة "الشموس الثلاثة".

قدم الثلاثة 23 أغنية من تراث الجزائر ومن أعمالهم الخاصة، خالد يبدو منتشيًا، ورشيد يحيي الجمهور بصرخاته المعتادة، دقائق ويتشبث الثلاثة بالميكروفون وهم يغنون أولى أغاني الحفل "يامنفي" الأغنية المحفورة في ذاكرة كل جزائري، كلماتها كتبها أحد الأسرى في سجون الاستعمار الفرنسي يحكي قصة معاناته بداية من المحكمة العسكرية، حتى نقله إلى معتقل خارج الجزائر وهو يردد : "قولوا لأمي ما تبكيش ولد ربي ما يخليش".
أنتهى الحفل بأغنية "يارايح" التي أعاد رشيد طه غنائها لدحمان الحراشي، وبين الأغنيتين – يامنفي ويارايح- قدم الثلاثة فاصلًا من أجمل أغانيهم، ومعها أغنية عبد القادر التي ظلت أيقونة حية حتى الآن.

طرحت شركة "باركلي" أغاني الحفل في ألبوم مكون من اسطوانتين، وحقق نجاحا كبيرًا حيث تجاوزت مبيعاته 5 ملايين نسخة ، ونال جائزة "وورلد ميوزيك أوورد" كأكثر ألبوم مبيعًا في أوروبا عام 1999.

غلاف ألبوم الحفل

"ملحمة الشموس الثلاثة" مازالت حية في الذاكرة، يداهمنا حنين جارف لأغانيها ونحن نترحم على رشيد طه الذي رحل عن عالمنا فجأة منذ عامين، أو نبحث عن فُضيل الذي حاول الانتحار ودخل مصحة لعلاج الإدمان وعاد للساحة بمحاولات لم يكتب لها النجاح، أما خالد فظل ثابتًا في موقعه وحيدًا يرفع راية الراي في مقاومة كل الأمواج التي تضرب الموسيقي من حين لآخر.

يمكنك مشاهدة الحفل كاملًا من هنا :