ليوناردو دي كابريو .. أيهما أفضل أن تعيش كوحش أو تموت كرجل صالح؟

تاريخ النشر: الثلاثاء، 29 ديسمبر، 2020 | آخر تحديث:
ليوناردو دي كابريو في مشهد من الفيلم

فى الماء البدء والمنتهي، من مشهد النهاية لجاك الحبيب المخلص الذي ضحي بحياته حتي تعيش حبيبته روز، هذا المشهد الذي أحيا أيقونة قصة الحب، وجعلها مثار إلهام للعديد سواء فى حياتهم الشخصية أو حتي المبدعين منهم، يمكن ملاحظة ذلك من أعداد الصور التي التقطها ناس عادية مقلدين جاك وروز فوق سطح المركب، والذي وجد عشاق السينما العربية مشهد مماثل له فى فيلم أمير الانتقام، حيث سبق أنور وجدي وسامية جمال فى مشهدهما ليوناردو دي كابريو وكيت وينسلت.

فى مشهد النهاية تتهادي المياه، ويتحول الباب للوح نجاة، فالباب برمزيته كمعادل للخصوصية والآمان يُصبح معامل نجاة.

أفلام عِدة قدمها الممثل ليوناردو دي كابريو، أعتقد أن لعنة تيتانك ظلت تلاحقه لفترة ليست قصيرة، لكنه فى Shutter island – 2010 قدم دورًا لا يمكن تمريره دون إمعان النظر في أداء الممثل الوسيم.

فى المشهد التأسيسي فى Shutter island يواجه البطل تيدي دوار البحر في سفينة تهتز بقوة وأجواء ضبابية، غيم وسحاب يحجب شكل السماء، وألوان رمادية، يبدو دي كابريو/تيد مهتزًا بعنف، غير متزن، يُصارع ليستقيم جسده، ويسعي بجهد واضح ليقف دون سقوط.

فى السينما لا شيء للمصادفة

هل كان اهتزاز المركب وسقوط شارة تنبيه من مخرج الفيلم مارتن سكورسيزي إلي أننا أمام شخصية مهتزة تُعاني فى الوصول إلي شاطئ الوعي؟

كثيرون ممن شاهدوا الفيلم لم يلتفتوا للإشارات، للضباب وحالات الظلام، للشمس التي عزّ ظهورها، والمطر الذي يهطل بغزراة، لفكرة الجزيرة المنعزلة فى إشارة إلي روح سجينة، وعقل بعيد عن الحقيقة.

يقول دي كابريو فى إحدي مقابلاته عقب عرض الفيلم أنه كان يعود كل يوم بعد التصوير فى مزاج سيء، ومود اكتئابي، فقد كان يعيش كل لحظة بلحظة أثناء التصوير.

تكشف جملة دي كابريو إلي أنه من أنصار مدرسة التمثيل التي يعيش الممثل الشخصية التي يقدمها، تقول ماري إلين أوبرين في كتابها عن التمثيل السينمائي والذي ترجمه رياض عصمت وصدر عن مؤسسة السينما بسوريا -2012، تقول ماري "إذا انشغل كامل الجسم في الفعل والنضال العاطفي، سوف يغدو رسم الشخصية سلسًا كاملًا ومحرضًا، تستطيع الكاميرا أن تُساعد الممثل في هذا التحليل الذاتي".

يبدو دي كابريو من هؤلاء الممثلين الذين يعيشون الشخصية، فبينما المدرسة الأشهر هي تطوير الصوت والأداء الجسماني بمعزل عن دخول الشخصية إلي روح الممثل، فهي طريقة تلائم إلي حد كبير الأجواء المسرحية، تبقي طريقة الاندماج تميز عددًا لا بأس به من مؤديها، ولدينا مثال هو الراحل أحمد زكي حيث كان يعيش الشخصية التي يلعبها.

عاش دي كابريو داخل شخصية تيد المارشال الأمريكي الذي أتي إلي مشفي لأمراض العقلية يضم المسجونين المصابين بأمراض عقلية، نري تنوع المشاعر بين تيد المحقق الذي يبحث عن المريضة المختفية، تذكر ماري أوبرين أن انشغال كامل الجسم فى الفعل والنضال العاطفي يُسّهل من رسم الشخصية، وهو ما نراه فى أداء ليوناردو/تيد حيث يقوم بتسلق جبل، ويصل إلي كهف وسوف نلحظ اللقطات الواسعة والتي يمكن أن توحي للمشاهد بأن دوبلير هو من يقوم بأداء المشهد، في حين تأتي اللقطات القريبة كاشفة عن وجه دي كابريو، لنجده منخرطًا تمامًا فى جهد بدني، فهو دومًا فى طرفي العاطفة إما مفرط فى القسوة والعنف أو أنه في حالة فقد وحنين إلي زوجته، فيأتي ظهور الزوجة بين خيالات وأحلام، حيث الأحلام تلعب دورًا بالغ الأهمية فى كشف ظلال الروح، وجوانبها المريضة، وبرغم أن القصة المعلنة فى أحداث الفيلم قبل اكتشاف الحقيقة، تقدم تيد بلا مسئولية نحو وفاة زوجته إلا أننا نجد دومًا شعور الذنب كلما ظهرت دولوريس الزوجة التي ماتت في حريق.

لا يتوقف الذنب عند موت الزوجة بل أن مشاهد تأتي كفلاش باك لنري المارشال تيد أحد المحاربين فى منطقة ويقوم بقتل النازيين، في حين أنه يري عشرات الجثث التي قُتلت أو تجمدت.

تعكس ملامح دي كابريو معاناة الشخصية بشكل واضح، فهو المارشال المحمل بالذنوب والفقد والشفقة تجاه من قُتلوا، وتجاه الزوجة يعكس ذلك فى عنف وقسوة فى التعامل مع المرضي لحظة استجوابهم، أوحالة الشك فى كل شيء حوله، خاصة مع الصداع الذي يُصيبه، حتي أن شكه يصل للدرجة التي يرفض فيها أن يُدخن سجائر يعطيها له الدكتور كاولي مدير المستشفي.

تلعب كل عناصر الفيلم في صالح دي كابريو الذي يُمسك بالشخصية فى كامل تفاصيلها، فملامحه القاسية تتبدل عندما تكون طرف المشهد زوجته.

المطر والظلام شريكا التألق

وحدات تجسيد المرض النفسي علي الشاشة تنعكس فى عدة موتيفات منها الظلام، أو الليل حيث يختلط الواقع بالأحلام، كما أن سوء الأحوال الجوية يعكس اضطراب واضح لكل ما يحيط بالمريض النفسي، هو تجل ظاهري واضح، فنجد أن الكهرباء تتعطل، وعاصفة تهب، والمرضي الخطيرين يهربون، ويُصبح تيد برفقة شريكه فى مواجهة كل ذلك، لكن المعطيات تتطلب الوحدةن وهو ما يتحقق في فقدان الشريك ومقابلة مرضي خطيرين مثل جورج نويس الذي يستميت فى غرس الشك فى روح تيد، نحو شريكه والمكان.

الجبال العالية والكهف الذي يلتقي فيه بسولاند التي يتعرف أنها طبيبة نفسية وتدفعه للشك فى كل شيء وتؤكد له أنه لن يُغادر المكان، أما لقطة الجرذان التي تعكس مخاوف الشخص والتي تملأ المكان، ويُصبح عليه أن يدوسها حتي يصل إلي هدفه.

يتزايد عنف تيد مع كل خطوة مدفوعًا بالشك، ونلاحظ أن ظهور دولوريس قد أخذ شكل الجسد المحترق والذي يذوب بين يديه، فهل هي إشارة لكونه يسترد شخصيته الحقيقية؟

يذوب دي كابريو تمامًا فى الشخصية فلا يمكن للمشاهد فى لحظة أن يشك فى حقيقة الشخصية التي يقدمها دي كابريو بل يُصبح مشهد الفنار وكشف دكتور كولي حقيقة تيد بكونه مريض وأن تشاك شريكه ليس إلا الطبيب المعالج دكتور شيهان، وأن تيد ليس إلا أندرو ليديس الضابط الذي قتل زوجته عندما اكتشف أنها قتلت أطفالهم.

حتي تلك اللحظة التي يقوم فيه دكتور كولي بسؤال تيد عن ما حدث في شكل تحقيقي أكثر من كونه كشف، نري تيد وهو ينهار، وتظهر اللقطات الكاشفة للواقعة، تتجلي لحظات الانهيار في حركة الجسد والعين والنظرات، فكل شيء يكشف عن مريض نفسي حقيقي فى لحظة مواجهة مع مرضه ومشكلته، وليس ممثل يؤدي دور حد الاتقان.

ولا ينتهي الفيلم عند هذه المكاشفة، بل أن لقطة أخيرة تضم دكتور شيهان وأندرو يجلسون علي سلالم المستشفي فى جو صحو، ودي كابريو يستعيد نظرة عين المارشال تيد وثقته واصراره الذي عرفناهم أول الفيلم ويسأل شريكه بثقة هل الأفضل أن تعيش كوحش أم تموت كرجل طيب؟
تنازع هذه الثقة حد القين خيبة الأمل التي تظهر علي وجه تشاك/دكتور شيهان فمريضه أندرو حدثت له انتكاسة أخرى ومازال يعيش شخصية المرشال تيد.

قدم دي كابريو واحدًا من أهم أدوراه علي الاطلاق، وحظي الفيلم باحتفاء نقدي فور عرضه، فالمشاهد الذي أذهله الفصل الأخير وحالة الكشف كان قد صدق تمامًا المارشال المحمل بالذنب والقسوة والقادم من مكان بعيد لجزيرة معزولة ليحل قضية، وليس مجرد مريض نفسي يهرب من ذاته ويخترع شخصيات توائم حالات الهروب فهو لا يرغب فى العودة لروحه، ومن ثم تفشل تجربة جديدة في علاجه.

اقرأ أيضًا للكاتبة :

الوقوع في غرام آكل لحوم بشر