أنا وحميد الشاعري .. قصة "أوتوجراف" على قميص زائر الفجر

تاريخ النشر: الأحد، 29 نوفمبر، 2020 | آخر تحديث:
حميد الشاعري

(1)
لا تثق دائمًا في أصدقائك المجانين ، ولا تفوت فرصة مشاركتهم بعضًا من جنونهم ، في الثالثة فجرًا اتصل بي صديقي الملحن الشاب . أيقظني بجملة واحدة : "إلبس وانزل انا مستنيك تحت بيتك !".

بعد دقائق كنت في سيارته الفيات 128 نقطع الطريق من المهندسين نحو كوبري أكتوبر ، البرد في شتاء سنة 2001 أشبة بموجات كهربية تضرب أعصاب أطرافك ، ولكن هذا الصقيع لم يكفي لإطفاء فضول مشتعل في النفس ، وحماس في صوت صديقي الباحث عن فرصة التلحين لأي صوت شاب ، فما بالك لو فاز بموعد مع حميد الشاعري؟

قال بتوتر واضح : أنا مصدقتش انه لسه فاكرني ، كلمته من كام ساعة فقالي أروحله على الاستوديو الساعة 3 ونص!

يعرف صديقي كم أحب حميد ، كنت أسعى للقاء الرجل الذي نَحَت ذوقي الموسيقى وشَكَّله بألحانة وتوزيعاته وأغنياته عامًا بعد الآخر، في مراهقتي لم أملك عرابًا، أو بمعنى أسهل صديقًا أكبر مني سنًا ، عادة مايلعب هذا الدور واحدًا من أبناء العائلة الأقرب سنًا ، الخال الأصغر أو العم ، وربما معلمًا في المدرسة، على النقيض كنت أرى في حميد أبا روحيًا لمراهقتي ، لم أمتلك في مرحلة ماقبل الإنترنت سبيلًا للإقتراب منه سوى شرائط فيديو مصورة لحفلات الجامعات ، كنا نؤجرها من نوادي الفيديو بالساعة ، فيما كنا نرى حميد زعيمًا لحركة تعيد صياغة تفاصيل حياة الشاب المصري بداية من الموسيقى التي يسمعها وصولًا الى الظهور ب"التريننج سوت" الذي أصبح زيًا رسميا لشباب المرحلة.


نرشح لك : تفاصيل 30 دقيقة مع ميادة الحناوي: زوجة "عبد الوهاب" تآمرت عليها وبليغ جعلها "كوبري" رسائله لوردة

وصلنا في الموعد المحدد ، على باب الاستوديو عرفنا من الأمن أن حميد في انتظارنا ، كانت بداية مبشرة لاستقبال لائق ، هؤلاء المشاهير لايهتمون عادة بمواعيد هامشية يمنحونها لأصوات باحثة عن فرصة أو ملحن مبتديء يبحث عن شهادة ميلاد فنية ، فقط حميد كان ومازال حريصًا على احترام تلك النعمة ، نعمة الأخذ بيد الآخرين ، بينما يراها هو دين يسدده للقدر الذي جعل أحد أصدقائه يفتح له باب النجاح.

عام 1980 تقريبا كان حميد قد عاد من لندن إلى القاهرة لاستكمال دراسة الطيران ، رحلة لندن في الحقيقة لم تكن فرصة لمنح عبد الحميد علي الشاعري شهادة لقيادة الطائرات بقدر ما منحته مساحة للتعرف على أحدث التطورات في مجال الموسيقى ، وهناك سجل عددًا من الأغاني التي كانت ورقة اعتماد له امام المنتجين في مصر ، أحد أصدقائه وهو الموسيقي وحيد حمدي – عازف بفرقة أبناء افريقيا - تبرع وأعطى المنتج هاني ثابت شريطًا يضم بعض الأغنيات لحميد ، أعجبت ثابت التجربة وتعاقد مع الشاعري على ألبومه الأول "عيونها" والذي كان عملًا عائليًا تقريبا شارك في تلحينه وغنائه مجدي وحسين وفهمي الشاعري ، بمساعدة ناصر المزداوي ، وغلبت اللهجة الليبية على الألبوم خاصة وأن أغلب أغنياته كانت من الفلكلور الليبي ، ولهذا فشل الألبوم فشلًا ذريعا ، قال عنه حميد ساخرًا : "ان عدد النسخ المرتجعة منه فاق ما تم طباعته من نسخ أصلية !".

حميد الشاعري مع مصطفى قمر وإيهاب توفيق

(2)
في استراحة الاستوديو تناولنا كوبين من الشاي، وجلس صديقي يدندن على الجيتار حتى خرج لنا "الكابو" ، بدى عليه الإرهاق ، عينان حمراوتان ولحية كستها شعيرات بيضاء ، ولكن ابتسامته الواسعة ظلت حاضرة وهو يرحب بنا : "يا هلا ياشباب .. اعذروني أنا مطبق بقالي يومين".

فهمنا رغبته في سماعنا دون أن نطيل عليه ، عزف صديقي لحنًا أعجب حميد الذي نصحه أن يغير الكلمات بأخرى أكثر بهجة : "انت عامل جملة موسيقية حلوة .. عايزة كلام يعبر عنها" ، ثم عزف لحنًا آخر فصفق له وأشعل سيجارة ثم قال : سمعني تاني .

نرشح لك : أنا الهضبة – 35 سنة فوق القمة .. روشتة "عم الطبيب" عمرو دياب

سلطن اللحن حميد وقرر أن يرشحه لأحد الأصوات الشابة التي يتبناها ، وعرفنا ليلتها أنه قارب على الانتهاء من تسجيل ألبوم جديد لمجموعة من الأصوات الشابة ، قال له : لولا أننا قفلنا الشريط كنت خدته وغنيته ، بس تتعوض انت ملحن شاطر جدا " ، بعد عام صدر الألبوم يحمل اسم "ميوزيك ناو" وقدم من خلاله حسام حبيب ، وهيثم شاكر باغنيته الشهير "أحلف بالله.

امتدت الجلسة وغنى صديقي وعزف وشاركه حميد غناء أقرب أغنياته إلى قلبي "عودة" ، أو كما يسميها الكثيرون "في سكوت" ، استند بظهره وعاد معي بالزمن لسنوات بعيدة ، وفجأة شاركنا الغناء وصديقي يعزف على الجيتار.

حميد الشاعري مع عمرو دياب وحكيم وأصوات موسيقى الجيل

"عودة" أحد أهم أغنيات الكابو ، أجدها حتى الأن تتصدر قائمة تفضيلاتي في "ساوند كلاود" ، سمعتها لأول مرة في صيف 1992 ضمن أغنيات ألبوم "كواحل" آخر ألبومات حميد قبل إيقافة من نقابة الموسيقيين برئاسة الموسيقار صلاح عرام لثلاث سنوات ، وهذه قصة أخرى لاتقل غرابة عن الخدعة التي فعلها حميد ليفوز بالأغنية من ملحنها مصطفى قمر .
يحكي كاتب الأغنية الشاعر سامح العجمي : " كنا في الاستوديو نتابع تحضيرات ألبوم مصطفى قمر الجديد "لياليكي" ، وكالعادة كان حميد مشرفًا موسيقيا على الألبوم وموزعًا لأغنياته ، سمع حميد الكلمات فأعجبته جدًا ، وبعد قليل دخل مصطفى وقال له أنه لحنها وسيضمها لألبومه " .. هل انتهت القصة ؟

(3)
هنا في نفس الاستوديو قبل سنوات بعيدة ، راهن حميد مصطفى قمر على دور كوتشينة مقابل الأغنية ، يضحك مدير الإنتاج فايز عزيز أحد شركاء النجاح في شركة "سونار" صانعة نجوم التسعينات وهو يقول : "حقيقي حميد تمسك بالأغنية جدًا ، وأمام رفض مصطفى راهنة على دور كوتشينه ومن يكسبه سيغني "عودة" ، وكالعادة فعلها حميد وفاز بالدور والأغنية ، أما مصطفى قمر فقدمها له بنفس راضية فعلًا ، ربما كان امتنانًا لحميد ، ولكن مصطفى قدم الكثير من الألحان لأصدقاء المرحلة بمحبة حقيقية ".


صدر ألبوم كواحل في مطلع 92 ، وصور حميد الكليب مع المخرج طارق الكاشف ، وانتجته قناة mbc الوليدة في هذه الفترة ، كليب بسيط يجلس فيه مرتديا تي شيرت أسود ويعزف بالجيتار في مقهى خالي ، ولكن حميد حرص على ظهور رجاله معه في الأغنية ، كل الأصوات الشابة التي قدمها كانوا إلى جواره في مقدمتهم مصطفى قمر وإيهاب توفيق وأمين سامي الذي يعد أجمل أصوات هذه الدفعة ولكنه لم يملك عنادًا وحظًا يكمل بهما الطريق .

وطريق العودة لمنزلي سأقطعة صباحًا قبل استيقاظ القاهرة البائسة ، وسيارة صديقي الملحن تعطلت في الخارج وبعد زقتين تحركت بنا ، خرجت من الاستوديو على وعد بلقاء آخر مع حميد ، فقط وعد يوثق في ذاكرتي اللقاء الأول ، لم تدخل تقنية الكاميرات على الهواتف المحمولة وقتها كي نوثق كل لحظة ، في زمن ماقبل انستجرام وفيس بوك وصور السيلفي كان الأوتوجراف هو الحل لمن لايملك كاميرا فوتوغرافية ، الاوتوجراف توثيق معتاد لذكرى وحيدة بين النجم والمعجب حتى لو اضطر الأخير لمنحه كُم قميصه ليوقع عليه ، كدت أن أفعلها ولكنني تراجعت حفاظًا على قميص كنت أعتز به ، مرت سنوات قليلة قبل أن يتخلى صديقي عن حلم التلحين ويسافر للعمل مهندسًا في الإمارات ، أما أنا فقابلت حميد مرة أخرى بعد عشر سنوات في ميدان التحرير قبل التنحي بأيام ، كان بصحبة بعض الأصدقاء المشتركين ، أخذنا صخب حديث السياسة من التحرير حتى ميدان طلعت حرب ، قبل أن يتذكرني قائلأ : "أحنا اتقابلنا قبل كده ؟".

اقرأ أيضًا للكاتب :

أنا الملك – أسرار السنوات المجهولة ... "الرماح" و"القديس" في شوارع وسط البلد

المرأة في أغاني سعد لمجرد .. تضحكيلي وتاخدي كام ؟!