FilFan.com
FilFan.com تاريخ النشر: السبت، 27 أغسطس، 2005 | آخر تحديث: السبت، 27 أغسطس، 2005
"ماذا يفعل رواد بيت العود إذا استيقظوا يوماً على رحيل نصير؟" - تصوير : دينا توفيق

في بيت من بيوت القاهرة القديمة ، جلس طفل مصري في الخامسة عشر من عمره إلى جانب رجل من أكراد سوريا ، يستمعان لعزف شاب سكندري ، جمعهم جميعاً منهج وضعه العراقي نصير شمة ، ليحققوا حلماً قوامه الوحيد العود ، وإيمان كبير في قلوبهم ، يحتمون ببعضهم في ذلك البيت العتيق ، وأسواره التي تفصلهم بعشرات الأمتار فقط عن صخب البائعين ، وأغاني الألبومات المقلدة ، وعقود شركات الإنتاج الموسيقية.

قبل خمسة أعوام وفي حجرة بالمكتبة الموسيقية بدار الأوبرا تحدث عازف العود العراقي نصير شمة عن حلمه الأكبر بيت العود العربي ، قائلاً "إنها فكرة تراودني بشدة منذ أن كنت في الكوت ، أحلم بهذا المكان الذي يجد فيه العازف والمؤلف نفسه وتوحده مع العود" ، يبدو أن حلم نصير قد تحقق على نحو ملهم ، بعد مساهمته في إنشاء أول مركز متخصص لتدريس كل ما يخص آلة العود ، و تخريج دفعة أولى ، حصل أحد طلابها "نهاد السيد" على جائزة مهرجان الأردن العالمي للعود.

ورغم ما يمثله وجود المركز داخل أسوار دار الأوبرا من دعاية مجانية ، وقوة مستمدة من الخلفية الثقافية للمكان ذي الأهمية الحكومي والثقافي ، إلا أن شمة لم يهدأ باله حول مشروعه ، إلا بعدما أخذ قبيلته إلى بيت الهراوي ، بين جوامع الأزهر والحسين ، رغم أنه لم يسكنه يوماً عالمٌ خلد التاريخ اسمه ، أو عازفٌ للعود حلت روحه في البيت ، إلا أنه كان كافياً لاجتذاب مريدي نصير.

"أهم ما يميز المكان هنا أنه بيت" هذا هو أكثر ما جذب دينا عبد الحميد أستاذة التدريس بالبيت ، وواحدة من أوائل المتخرجين فيه. "نحن هنا أخوة نجلس في بيتنا تجمعنا أخلاقيات واحدة ، هي ما تتلاشى معها مسميات طالب وأستاذ".

الشعور "البيتي" الذي وصفته دينا تستشعره في دخولك إلى بيت الهراوي ، من موظف وزارة الثقافة الجالس على بابه يتحدث في ود مع أصدقاء له تحسبهم جيرانه ، تلقي عليه التحية وتدخل في سلام الله ، لتجد باحة البيت وفي أركانها توزعت بعشوائية ثنائيات من طلبة البيت ، تسير بينهم ، لا أحد يسألك إلى أين أنت ذاهب ، تصعد السلالم الملتوية بفعل الزمن ، تفيض بك إلى حجرات تضيق وتتسع ، وأينما حللت يناديك صوت النقر على الأوتار.

كيف وصل الأمر بهؤلاء العازفين إلى درجة نسيان العالم الخارجي ، والاكتفاء ببعضهم إلى الحد الذي يدفعك للشك في حقيقة ما تراه أمامك؟ أنت تريد أن تسألهم "هل أنتم معنا في نفس الزمن الذي نحياه؟" يجيبك أيمن حامد أستاذ بيت العود "حينما بدأنا مشروع بيت العود كنا ستة طلاب نجلس معاً ، يسمع منا نصير ، كل على حدة ، ونأخذ كفايتنا من كل شيء ، التدريس وتبادل الإطلاع والثقافة الفردية ، والمشاعر الإنسانية" ، بدأ الأمر مع نصير وتلاميذه الأوائل حسب وصف حامد بطريقة "شيخ العامود" كما كان في الجامع الأزهر القديم ، وهذا الأمر وفر لهم إطار إنساني ، ظهرت نتائجه في تلك "اللمحة القبلية" التي تلف البيت إلى الآن.

تحدث حامد عن تلك المشاعر الآن بعد خمس سنوات من بدء المشروع ، وبعدما صار عدد المشاركين فيه 30 طالباً "بالتأكيد فقدنا بعضاً من المشاعر والترابط الذي بدأنا به ، فأنت كما أنت ، نفس الكم من الأحاسيس الإنسانية المتبادلة ، ولكنها تتوزع الآن على عدد أكبر ، اهتمامك يتشتت هو الآخر ، كل هذا بالتأكيد ضريبة لتطور المشروع".

من جانبه أكد شمة أنهم وضعوا هذا الأمر في الاعتبار منذ اللحظة الأولى لانطلاق المشروع "بيت العود ليس وحشاً شب عن طوقه للدرجة التي يلتهمنا فيها ، لكننا نسير بخطوات محددة ، ولعل وجودنا في البيت ، وتقسيم الطلبة إلى مجموعات صغيرة ، متبادلة فيما بين المدرسين الموجودين بالبيت وسيلة جيدة للحفاظ على تسلسل نفس الكم الذي نريده لكل طالب في البيت" ، وبينما يتحدث شمة تدخل طالبة مبتدئة مكتبه ، لكي تسمعه تدريب تعلمته من أستاذها الآخر.

حجرة نصير التي يدير من خلالها عالمه الخاص ، لا تختلف عن أي حجرة في البيت ، كل ما يميزها هو موقعها في أعلى البيت ، ينظر من خلال "مشربيتها" على كل نواحيه ، ينظر إلى أفراد بيته ، الذين لم يتركوه في كل صورة زينت جدار الحجرة ، لم يظهر وحده أبداً ، بل برفقة أعضاء فرقته وأعوادهم، دائماً شمة يقف في المنتصف ، تماماً كموقعه على المسرح.

يحكي نصير عن بيته الآخر في الكوت العراقية التي وصفها وكأنها أجمل بقاع الأرض ، "خضرتها ، وسدها الشهير أعظم سدود العراق ، وفوق كل هذا ناسها ، الذين يمثلون كافة التيارات الفكرية". فهل وجد نصير في هذا البيت العتيق كوتاً أخرى ؟ عوضاً عن مدينته التي لم يزرها منذ 1993 ، والتي يسأل عن أخبار أهلها كل يوم صباحاً ومساءً ، وكله خوف من أن يسمع خبر وفاة صديق في تفجير ، أو اختطاف عزيز "لم أعد أسأل عن الأسماء عندما أتصل ، تخاف أن يأتيك خبر الوفاة ، لم أعد أعرف أخبار كثير من أصدقائي ،<