برليناله 70 - "المرأة التي هربت".. أحدث لوحات هونج سانج سو المتشابهة

تاريخ النشر: السبت، 29 فبراير، 2020 | آخر تحديث: السبت، 29 فبراير، 2020
من فيلم "المرأة التي هربت"

أقصى ما يحلم به أي صانع أفلام أن يصير اسمه علامة أسلوبية معتمدة، يكفي أن تسمعه حتى يمكنك تخيل سمات مميزة تتضمنها كل أفلامه. لا نتحدث هنا عن التكرار والتشابه، بل عن امتلاك بصمة يصعب أن تخطئها: "فيلم لكوينتن تارانتينو"، مثلًا، وصف يستدعي تلقائيًا أسلوب اعتدناه ولم نمل منه. في هوليوود لديهم تارانتينو وفي كوريا الجنوبية لديهم هونج سانج سو.

"المرأة التي هربت The Woman Who Ran" هو عنوان فيلمه الجديد، الذي يشارك في مسابقة مهرجان برلين السينمائي الدولية، ليكون أول فيلم كوري يظهر في المهرجانات الكبرى بعد النجاح المدوى لـ"طفيلي" بونج جون هو المتوّج بالأوسكار. في ظروف أخرى كنا لنقول أن الجمهور ذهب بتوقعات صاغها الفيلم الأوسكري، لكن سانج سو هو أحد الأعضاء الدائمين لنادي برليناله، وجمهور المهرجان على دراية كافية بالسينما بالغة الخصوصية التي يُقدمها المخرج الكبير بدأب يستحق التحية.

الفيلم رقم 24 في آخر 24 سنة، منها خمسة أفلام طويلة أنجزها فقط خلال عامي 2017 و2018، من بينها "وحيدة على الشاطئ ليلًا" الذي شارك في برليناله قبل ثلاث سنوات، ونالت بطلته (وبطلة الفيلم الجديد، وحبيبة المخرج في الواقع) مين هي كيم جائزة أحسن ممثلة في المهرجان. بعد هدنة لمدة عام يعود سانج سو بفيلم مصنوع بنفس الأدوات: كاميرا وطاولة ووجبة وزجاجة خمر، ممثلين جيدين، وعقل حاذق يحول ما سبق فيلمًا كبيرًا!

عن البساطة والزخم

جام هي امرأة متزوجة، يسافر زوجها في رحلة عمل لأول مرة بعد خمس سنوات لم يفترقا خلالها يومًا، "يقول أن العشاق يجب أن يظلوا متلازمين"، تكررها أكثر من مرة واصفة سر تمكنها أخيرًا من القيام بزيارات مؤجلة. جام هي تزور ثلاث صديقات في ثلاثة أيام متتالية، تأكل وتشرب وتتحدث معهم، أحاديث صغيرة ليس لها موضوع محدد، لكنها أعمق كثيرًا مما تبدو عليه.

أسلوبيًا، سينما سانج سو مينيمالية بامتياز، تستخدم الحد الأدنى من الجماليات. لقطات متوسطة تجمع شخصيتين أو ثلاثة، اللقطة تمتد لتشمل المشهد كله في أغلب الأوقات، الألوان هادئة والإضاءة بدون تأثيرات درامية (يعود المخرج للتصوير بالألوان بعد عدة أفلام بالأبيض والأسود)، الموسيقى تظهر فقط في الانتقالات بين المشاهد، مع مفاجئتنا من حين لآخر باستخدام حركة الزووم إن التي يكاد جميع مخرجي العالم يكرهونها، بينما تمكن الكوري المخضرم من تحويلها ما يشبه التوقيع الذي يمهر به مشاهده المفضلة.

على الجانب الآخر يحمل هذا التبسيط الأسلوبي زخمًا كبيرًا على مستوى المحتوى الذي ينطلق من فكرة تكرسها سينما سانج سو بلا توقف، مفادها أن الأحاديث الصغيرة التي تملأ يومنا مع الأصدقاء والزملاء، والتي نظن عادةً أنها لا تهدف إلا لإزجاء الوقت، هي في حقيقة الأمر أحد أقدر الممارسات على التعبير عن حقيقة الإنسان ومواقفه من الحياة.

الفيلم الأكثر نسوية

خلال زيارتها الأولى لصديقتها التي تطلقت مؤخرًا وانتقلت لتعيش في الضواحي، تتحدث جام هي معها عن حب اللحوم والموقف مع النباتيين، عن الإسكان ومشاكله، عن الحب والعلاقات، وعن الديك العنيف الذي يتعمد نقر الدجاجات في مؤخرات رؤوسها بدون سبب.

لا يحتاج الأمر وقتًا لندرك أن لديناميات العلاقات العاطفية هنا قيمة كبيرة، وأن الفيلم ـ ورغم أن كاتبه ومخرجه ومونتيره ومؤلفه الموسيقي هو رجل واحد ـ أكثر أفلام مخرجه الحديثة نسوية، ليس بالمعنى النضالي للنسوية، ولكن بمعنى كونها محاولة للتعبير عن وضع المرأة وكسب المزيد من مساحات الفهم والحرية، والتضامن ربما.

هذا التوجه يمكن ملاحظته من الطريقة التي اختارها سانج سو لتصوير الرجال في فيلمه، والذين نراهم من الخلف أو الجانب، دون أن تظهر ملامح وجوههم على الشاشة بوضوح، وكأنهم ضيوف على هذا الفيلم، خارج بؤرة اهتمامه، ثقال على بطلاته وإن رغبن في بعضهم.

ولعل المشهد الأكثر تعبيرًا على ذلك ـ والأكثر نجاحًا في نيل إعجاب المشاهدين ـ فهو مواجهة إحدى الصديقات للجار الذي يشكو قيامها بإطعام قطط الشوارع. المشهد الذي تصاعدت معه الضحكات على ردود المرأة التي تلتزم أقصى صور التهذيب في الحديث، لكنها تقول للجار ما معناه أن يذهب إلى الجحيم، قبل أن يكافئ القدر المخرج بنهاية رائعة غير مرتبة للمشهد، ستبقى في ذاكرة كل من يشاهد الفيلم.

سؤال العنوان.. سؤال الإخلاص

مع الوصول للزيارة الثالثة تبدأ الأمور في الاتضاح فيما يتعلق بعنوان الفيلم، ويبدأ المشاهد في إدارك المرأة المقصودة التي يقول العنوان أنها قد هربت. الإدراك الذي يلقي بظلاله مجددًا على قيمة ما يمكن أن تستشفه من الأحاديث العابرة. البطلة لا تتوقف عن الحديث عن زواجها السعيد وزوجها العاشق الذي لا يفارقها، وسواء كانت تكذب أو هي مقتنعة بالفعل بالأمر، ففي كلا الحالتين تخبرنا شظايا حديثها وبعض تصرفاتها أن الاوضاع ليست بهذه المثالية.

خلال الزيارة الثالثة يُطرح سؤال حول الروائي الشهير وزوج الصديقة الذي تتشابه موضوعات رواياته، فيُقال: "لو كان كل ما يفعله هو تكرار نفسه؟ فكيف يمكن أن يكون مخلصًا؟". للسؤال علاقة باكتشاف الفصل الثالث، لكنه يحمل أيضًا تلميحًا واضحًا من صانع الفيلم عن نفسه، وكأنها مزحة أو مسائلة شخصية من هونج سانج سو حول تشابه أفلامه.

الإجابة عن سؤال الإخلاص ستكون بالنتائج، فصحيح أن المخرج الكوري الكبير يتمسك بنفس الأدوات التي يصنع بها أفلامه، لكنها تظل أعمالًا أصيلة، لا تشبه إلا صانعها، قادرة ـ على بساطتها ـ أن تقول الكثير، و"المرأة التي هربت" يمكن اعتباره مثالًا لكيف يمكن أن يحافظ الفنان على إخلاصه رغم تكرار الأسلوب، أو للدقة بفضل امتلاك الأسلوب، فكما قال المخرج الفرنسي كلود سوتيه يومًا أنه حاول طيلة حياته أن يصنع أفلامًا مختلفة تمام الاختلاف، لكنه اكتشف في النهاية أنه يقدم في كل مرة نفس الفيلم.