فيلم "Marriage Story".. كيف تحكي قصة حزينة ممتعة؟

تاريخ النشر: الاثنين، 16 ديسمبر، 2019 | آخر تحديث: الاثنين، 16 ديسمبر، 2019
صورة من الفيلم

2019 عام شديد الثراء سينمائيًا، سواء في السينما العالمية أو الأمريكية بوجه خاص، فهذه الأخيرة تشهد سنة ممتازة وشديدة التنوع، بعد انحصار المنافسة لعدة سنوات بين فيلمين أو ثلاثة في موسم الجوائز. في وسط هذه المنافسة القوية يأتي فيلم هادئ، عن موضوع قُدمت له العديد من المعالجات من قبل حتى يبدو أن لا جديد يمكن أن يقال فيه، لكنه يحصد إعجاب أغلب من شاهدوه، ويحجز مكانه بقوة في موسم الجوائز.

الفيلم هو "Marriage Story" (قصة زواج) لمخرجه ومؤلفه نواه بومباخ، وفي خلال السطور التالية سنحاول الوصول إلى ما جعل الفيلم أحد أفضل أفلام العام.

تحتوي السطور التالية على كشف لأحداث الفيلم

كيف تبدأ؟
في عام 2011 قدم أصغر فرهادي فيلمه الرائع "A Separation" (انفصال)، والذي تدور أحداثه أيضًا عن زوجين على وشك الانفصال. في ذلك العمل قدم المخرج الإيراني درسًا في كيفية تقديم الشخصيات ووضع المُشاهد داخل الأحداث مباشرة من خلال المشهد الافتتاحي فقط، إذ نشاهد رجلًا وزوجته يجلسان أمام القاضي لإجراء قضية الطلاق، فنتعرف على نظرة كل منهما للآخر وسبب اتجاههما للطلاق.

في "قصة زواج" يقدم بومباخ درسًا جديدًا، إذ يقرر هو الآخر تعريفنا بالشخصيتين الرئيسيتين تشارلي (آدم درايفر) ونيكول (سكارلت جواهنسون)، من خلال وجهة نظر كل منهما للآخر.

لقطات قصيرة لشخصية نيكول مع تعليق صوتي لتشارلي يتحدث عنها قبل أن يتبادلا الأدوار. يجد المشاهد نفسه سريعًا يتعرف على شخصيتين مميزتين، لنبدأ نلمس أولى خصائص الفيلم، وهي جعل الشخصيات حقيقية. لا يتحدث أي منهما عن مميزات خارقة بل تفاصيل شديدة البساطة حتى أنه من السهل أن يجد المشاهد نفسه في أي من هذه الصفات، مثل قدرة أحدهما على ذكر عيوب الآخر دون إزعاجه، أو عدم تقبل الآخر للهزيمة بسهولة، أو قدرته على البكاء، جميعها صفات ندركها في أنفسنا أو من حولنا، وهكذا يؤسس بومباخ لبطليه سريعًا ويجعل المشاهد يشعر أنه يعرفهما جيدًا، أو يشبهما وهو الأهم.

بعد هذه البداية الرومانسية الرقيقة، ننتقل مباشرة إلى العقدة الرئيسية للفيلم، ليصدمنا بومباخ بأن هذين الزوجين إنما كتبا ما كتباه من مميزات في الآخر تمهيدًا لانفصالهما الوشيك.
إن عدنا إلى فيلم "انفصال" فسنجد أن ما فعله الفيلم الأمريكي أكثر قسوة، إذ في الإيراني نُدرك منذ البداية وجود مشكلة ما بين الزوجين لكننا لا ندرك تفاصيلها، بينما في "قصة زواج" نبدأ في بناء صورة عن زواج يقترب من المثالية، تتحطم مباشرة في المشهد التالي. هكذا وبسهولة، يصنع المخرج بداية مكثفة وتحتوي على كل التفاصيل التي يودنا أن نعرفها خلال دقائق قليلة، وفوق هذا يحقق الصدمة لدى المشاهد الذي سيشعر في البداية أن هذا الزواج يجب أن يستمر، لكن شعوره هذا سيتغير تدريجيًا مع الوقت كما سنتابع.

كيف تحكي؟
واحدة من القواعد الشهيرة في السينما هي "Show don't tell" أو "اعرِض ولا تحكِ"، هذه القاعدة تعني أنه من الأفضل أن تقدم للمشاهد ما تود قوله من خلال الصورة والأحداث وليس من خلال الحوار مباشرة، وإن كان هناك خلاف بالتأكيد على هذه القاعدة إذ لا يعني هذا تقليل مساحة الحوار في الفيلم، بقدر ما يعني عدم تقديم المعلومات بالطريقة السهلة أو على حساب التعبير البصري، مثلما نشاهد في الكثير من الأعمال المصرية الشخصيات تخاطب بعضها بـ"يا أخويا" أو "يا ابن خالتي"، فبدلًا من بذل مجهود للتعريف بالعلاقة بين الشخصيات، يلجأ المؤلف لهذه الطريقة السهلة حتى وإن كانت غير مستخدمة في الواقع.

فيلم "قصة زواج" يعتمد في جانب كبير منه على الحوار بالتأكيد، لكن الفكرة هنا في كيفية توظيف الحوار، واستغلاله. ذكرنا أن بداية الفيلم تقدم لنا صدمة، ونضيف أنها تقدم تساؤلًا أيضًا، إذ بعد ما شاهدناه وسمعناه، لماذا يرغب هذان في الانفصال؟

نتعرف على هذا من خلال مشهد آخر طويل، تروي فيه نيكول أسباب رغبتها في الطلاق، وتسرد تاريخهما منذ التعارف وصولًا إلى رغبتها في الانفصال لأنه شخص متمركز حول ذاته ولا يعطيها مساحتها التي تليق بها. نتوقف في هذا المشهد عند تفصيلة صغيرة توضح سردية الفيلم. بعد أن تروي نيكول قصتها بالكامل، تذكر في جملة عابرة أن تشارلي خانها مع إحدى زميلاتها في الفرقة المسرحية، لا يود نواه بومباخ الوقوف عند تفصيلة تقليدية كهذه ترتكز عليها الكثير من حالات الطلاق، الأمر أكبر من هذا، الأمر أنه لا يحفظ رقم هاتفها! الخيانة الجسدية تتضاءل هنا أمام ما تراه نيكول في زوجها، كونه لا يستطيع أن يراها بمعزل عن ذاته.
كسيناريست متمكن، يعيد بومباخ توظيف الصفات التي يذكرها في البداية عن شخصياته في الحوار لاحقًا، حتى لو كانت صفة أو تفصيلة عابرة، فنيكول تذكر في البداية أنها لم تقابل أهل تشارلي سوى مرة واحدة وأنه أخبرها بأنهما كانا مدمنان للكحول وضرباه، تذكر هذا بشكل عابر ولا نتوقف عنده، لكن في مشهد المواجهة بينهما، يحتد تشارلي جدًا عندما تخبره بأنه يشبه أبيه، وينتقل غضبه إلى نقطة أعلى. لم يكن علينا أن نرى أبويه، أو نعرف المزيد من التفاصيل عن علاقته بهما، لكن من خلال جملة في البداية يمكن فهم انفعال كبير في أحد أهم مشاهد الفيلم.

تفصيلة أخرى مهمة في كتابة هذا الفيلم، هي أنه لا يخضع أبدًا لفكرة الميزان أو شيطنة أحد الطرفين التي توجد في الكثير من الأفلام التي تتناول نفس القضية، رغم أن تشارلي خائن وعرّض زوجته للتهميش بناء على روايتها، فإنه لا يخلو من المميزات التي تعددها هذه الزوجة بنفسها، وفي كثير من الأوقات نجد أنفسنا نتعاطف معه، إذ جعل الفيلم الضغط عليه هو أكبر في ما يخص القضية. كذلك لا نجد أننا ننتظر نفس المشاهد من الطرفين، بل نكتفي بمتابعة أحدهما ثم نستنتج ما حدث مع الآخر، مثلما يحدث في مشهد المقيّمة التي نشاهدها في بيت تشارلي ولا نشاهدها عند نيكول.

يمكن الحديث طويلًا عن سيناريو وحوار الفيلم، لكننا نفضل الانتقال للنقطة الأخيرة، وهي كيفية استغلال هذا السيناريو الرائع والتعبير عنه بصريًا.

كيف تصور؟

نعود للمشهد الافتتاحي مرة أخيرة، هذه المرة لنتابع المَشاهد التي قدمها المخرج مصاحبة للتعليق الصوتي للشخصيتين. يذكر تشارلي أن نيكول تحب أن تلعب مع طفلها وهنا نشاهدها وهي تلعب المونوبولي (بنك الحظ) وتعترض بهدوء على سوء حظها، لاحقًا تذكر نيكول عن تشارلي أنه تنافسي جدًا، ونشاهده يلعب نفس اللعبة وينفعل بشدة عندما يخسر. أمر آخر قبل أن نترك المشهد، تذكر نيكول عن تشارلي أنه يبكي بسهولة في السينما.

كيف يوظف المخرج هذه التفاصيل لاحقًا؟
نبدأ مع تفصيلة البكاء، نيكول هي التي ذكرت أن زوجها يبكي في السينما تحديدًا، وليس بوجه عام. خلال الفيلم نشاهد نيكول تبكي بسهولة في عدة مشاهد، بينما لم نشاهد تشارلي يبكي إلا في مشهدين، ربما تكون تفصيلة بكاؤه في السينما تعني أنه لا يبكي بسهولة خارجها وهو ما يتحقق بالفعل، لهذا عندما يبكي في مشهد المواجهة، نجده ينهار تمامًا، عكسها هي التي نشاهد دموعها قريبة دائمًا.

نستعيد التفصيلة الأخرى التي ذكرناها، عن التنافسية وتقبل الهزيمة، ونشاهد كيف يوظفها المخرج في مشهد المواجهة أيضًا، رغم انفعال كليهما على الآخر فإننا نجد نيكول تحاول حتى وقت طويل السيطرة على نفسها والخروج بحل، بينما نجد أن مستوى الغضب لدى تشارلي يتزايد تدريجيًا بلا حد أقصى حتى ينهار، وفي واحدة من النقط المرتفعة لهذا الغضب، بينما يلومها على ما وصلت له علاقتهما نجده يقول "وها أنتِ تفوزين" بعد أن يضرب يده بالحائط ويترك عليه علامة واضحة، رغم أن الأمر أكبر من حسابات المكسب والخسارة في اللعب، لكن شخصية تشارلي ترفض مفهوم الخسارة ككل، وهو ما يعبر عنه آدم درايفر في أداء رائع، لكن الأمر يجب أن يحسب للمخرج أيضًا الذي جعل الشخصية تتطور في حالة الغضب بهذه الطريقة حتى تصل إلى الذروة.

قد يكون الحوار المكتوب في هذا المشهد جميلًا وحده، لكن كيف التعبير عنه بصريًا؟ كيف تجعل ممثلين يتبادلان حوارًا غاضبًا ومحوريًا في الفيلم ويستمر لعدة دقائق دون أن تفقد المشاهد.
سنجد في البداية توظيفًا للحركة، فطوال المشهد ينتقل الممثلين من الجلوس إلى الوقوف إلى التحرك في أكثر من مكان داخل البيت، وسنجد أيضًا كيفية الحركة نفسها، تشارلي في وضع أكثر هجومًا، حتى أنها تخرج أمامه وهو شبه يدفعها من الغرفة، وأخيرًا سنجد المسافات الفاصلة بينهما، والتي يقدمها نواه بومباخ منذ بداية الفيلم، في أغلب المشاهد سنجد أن نيكول وتشارلي بينهما حاجز، وعندما يجعلهما يلتقيان في نهاية المشاهد، سيلتقيان وهما في وضع يعبر عن الهزيمة، هو على الأرض وهي منحنية، يحتضنان بعضهما، في لقطة بعيدة، تقدم لنا هذا البيت البارد وعلامة الكسر على الحائط والبطلان خاسران في المنتصف، فبعد أن استخدم المخرج اللقطات القريبة والمتوسطة في أغلب المشهد ليرصد الانفعالات، يستخدم هذه اللقطة الختامية لتلخص ما وصلت إليه علاقة بطليه.

بالتأكيد يحتاج الفيلم إلى المزيد من التأمل والكتابة للإحاطة بتفاصيل أخرى مميزة يمتلىء بها، وربما يُكتب عنه المزيد خلال السنوات القادمة كعلامة شديدة الأهمية خلال هذا العام، وأحد أفضل إنتاجاته، نواه بومباخ يقدم فيلمًا لا يمكن نسيانه بسهولة، تجربة ممتعة بقدر ما هي حزينة.