علي الشريف: "دياب" العبقري ... 100 فيلم في رحلة فنية قصيرة

تاريخ النشر: السبت، 7 ديسمبر، 2019 | آخر تحديث: السبت، 7 ديسمبر، 2019
الفنان علي الشريف

ممثل عبقري متفرد في أسلوبه، لم يقدم في رحلته القصيرة مع السينما إلا القليل القليل من كنوز موهبته. يبدأ متأخرا بعد أن يتجاوز الخامسة والثلاثين من عمره، ويزوره الموت مبكرا قبل أن يعانق عامه الثالث والخمسين. مصري قح لا يمكن إلا أن يكون مصريا، وملامحه الشكلية أقرب بغلظتها إلى القبح المنفر.

صوته الأجش بعيد عن الرقة والعذوبة، أما التكوين الجسدي فيوحي بالجفاف والقسوة. مثل كل المصريين البسطاء الشرفاء تعساء الحظ، في ظل أنظمة قمعية تضيق بالعدالة أكثر مما تكره الموت، لم ينل الفنان القدير ما يليق بموهبته. تفصله عن البطولة أميال، والأجر قليل محدود مقارنة بالنجوم أو من يُقال إنهم نجوم، لكنه في المشاهد القليلة التي يقدمها يخطف الأبصار ويسكن القلوب، متفوقا على من يتربعون فوق القمة مسلحين بالوسامة والأناقة والشعر المصفف وطوفان الدعاية. يفرض علي الشريف وجوده القوي فيطغى ويهيمن، ويتعاطف معه المشاهدون الذين يجدون فيه مظلوما مثلهم، ويشعرون أنه واحد منهم يمثلهم ولا يمثل عليهم.

..................

البداية في "الأرض"، 1970، حيث التجسيد العفوي الخلاب لشخصية الفلاح التقليدي دياب، عظيم الارتباط بأرضه التي هي وطنه والمعنى الوحيد لوجوده، والمسكون بأحلام بسيطة مستحيلة لا يمكن الوصول إليها في واقع كئيب متجهم.

بعد اعتقال قصير حافل بالقهر والمعاناة في سجن المركز، يُفرج عن الفلاح دياب ويعود إلى قريته، وإذا به يهرول ويلقي جسده المرهق في أحضان حقله، جوهر وسر حياته. يتمرغ في لهفة عاشق يحترق شوقا إلى حبيبة طال غيابه عنها، ولا يصدق أنه يعود.

ليس من المثقفين المتأنقين المتحذلقين مرددي العبارات البليغة المنمقة والمصطلحات المعقدة عسيرة الهضم، بل إنه واحد من ملح الأرض، الفقراء الهامشيين المهمشين الذين توجههم الفطرة ولا يحول جهلهم بالنظريات دون امتلاك الوعي الذي يعز الوصول إليه إلا لأولي العزم من عشاق الوطن والحياة.

قبل دقائق من المشهد الأسطوري، كان دياب يعدو حافي القدمين في نهار صيفي قائظ خلف أخيه محمد أفندي، حمدي أحمد، يحمل وجهه علامات التعب غير المحدود. عندما يصل إلى محطة السكة الحديد في المركز، تكشف عيناه عن حالة عشق جنوني وحرمان مرضيّ في مواجهة أقراص الطعمية، الطعام الشهي الذي يشبه الحلم.

لم يكن نجاحه في "الأرض" استثنائيا غير قابل للتكرار، ففي جل أعماله التالية، الجيد منها والردىء، يتميز بمهارته وجديته وعفويته، كأنه لم يُخلق إلا لكي يكون ممثلا.

..............

السجان الصعيدي حسنين عبد المولى في "ليل وقضبان"، 1973، دور تاريخي قصير لا يُنسى. يعبر الشريف عن أزمته الكارثية بالصمت والارتباك والخوف الذي يتجاوز الجسد المرتعش إلى الروح المنكسرة. مباراة صعبة في مواجهة العملاقين محمود مرسي وتوفيق الدقن، ونجاح لافت يحول المشاهد التي تجمعهم إلى قمة في الإبداع التمثيلي الجدير بأن يُحتذى، وكذلك الأمر عندما يقدم علي الشريف شخصية السجان التابع الضعيف الخانع كأنه السجين، أمام السجناء السادة الأقوياء المسلحين بالثراء والنفوذ في "الأفوكاتو"، 1983. الإبداع المتوهج المؤثر لا يُقاس بعدد المشاهد، لكنه في الصدى الذي لا يتبخر بفعل الصدق والسلاسة والبساطة والتلقائية. لا يبذل الكثير من الجهد حتى يصل لمثل هذا الأداء المذهل، ذلك أن الموهبة جزء من جيناته.

هل يختلف السجانون الفقراء قليلو الحيلة عن السجناء العاديين مسلوبي القوة؟. الإجابة بالنفي، ولا متسع عندئذ لإدانة النشالين والقتلة المحترفين، فهم انعكاس منطقي للخلل الاجتماعي الذي يتجاوز الأفراد، والوجه الآخر للمكانة الرفيعة التي يحتلها كبار اللصوص ممن يشكلون خريطة الواقع الاجتماعي الحافل بالمظالم والآثام.

من يشاهد "آخر الرجال المحترمين"، 1984، لابد أن يتوقف طويلا عند زعيم النشالين المعلم برغوت، صاحب منظومة القيم والمبادىء التي تراعي العدالة الاجتماعية والأبعاد الطبقية في الحياة المصرية. لص شريف طيب القلب، عادل حكيم في التفاعل مع صبيانه وأتباعه كأنه الفيلسوف أو عالم النفس، معبرا بسلوكه وأفكاره عن المدى الذي يصل إليه الانهيار في سنوات التدهور والاحتضار.

يرى برغوت أن النشل مهنة محكومة بالقيم والأعراف واجبة الاحترام، ومن هنا استنكاره لمن يمتهنون خطف الأطفال، ويقول في نبرة صادقة حارة :"احنا ربنا ساترها معانا عشان شغلنا نضيف.. احنا من يوم الموظف ما بقى حاله عدم.. أصدرت أوامري ممنوع نشل أي موظف"!.
إنه اللص الشعبي الشريف الظريف، الذي يجد فيه الفقراء بطلا، وقد يصنعون منه أسطورة. ليس مثل كلمات الأستاذ فرجاني، نور الشريف، في التعبير عن جوهر الشخصية ذات الحضور الطاغي، عندما يقول للطفلة المخطوفة المذعورة :"المعلم برغوت دا طيب قوي.. بس هو اللي شكله كده"!.

وما أروع ابتسامة علي الشريف عند استماعه إلى كلمات المديج هذه.

وجه آخر للمجرم المحبوب المرح نجده عند القاتل المحترف شمشون في "حب في الزنزانة"، 1983، أحد أعظم الأدوار في مسيرة الشريف السينمائية. براعة منقطعة النظير في الإمساك الواعي بمفاتيح شخصية القاتل الذي يرى في إزهاق الأرواح مهنة لا ينبغي أن تثير الدهشة أو تستدعي الإدانة. لا يخجل من عمله، بل إنه يباهي بتعاطفه مع محدودي الدخل، ويفخر بما كان يقدمه لهم من تخفيضات تصل إلى مرحلة القتل المجاني. مثل المعلم برغوت تماما، لا يرى في عمله ما يدعو إلى الخجل، ويقول عن نفسه في بساطة :"محسوبك بيقتل النفوس.. شغلتي كده اللي بأكل منها عيش"!.

يبدو شمشون قويا متماسكا لا مباليا، على الرغم من حكم الإعدام الذي ينتظره، لكنه معذب في أعماقه مسكون بالخوف والقلق والكوابيس، ذلك أنه إنسان قبل أن يكون قاتلا.

................

الموت ليس لعبة يُستهان بها، والتشبث بالحياة فريضة إنسانية. بكري،الصعيدي الهارب من لعنة الثأر الذي يطارده في "الإنسان يعيش مرة واحدة"، 1981، دور عظيم آخر في سجل الممثل الموهوب. لا ذرة من الافتعال في تعبيره المتمكن عن الخوف والذعر من الموت، ومعايشة الشخصية تغني عن الإسراف الانفعالي الصاخب الذي يتورط فيه أشباه الممثلين. إنه يخلص في تفهم سمات بكري ودوافع سلوكه وثيق الصلة بالبيئة الاجتماعية وتقاليدها الموروثة. الصعيدي الطيب ليس شريرا، والثمن الذي يدفعه فادح يستنزف العمر كله.

حياة بكري، المطارد المذعور المحروم من دفء الأسرة، ماسخة بلا مذاق، لكنها حياة في نهاية الأمر. رجل بسيط بقدر ما أنه فيلسوف ينثر الحكمة :"الدنيا يا ولدي فيها وشين.. أبيض واسود.. لما تبقى بيضا قدامك.. افتكر الاسود عشان تسلم.. ولما تبقى سودا.. افتكر الابيض.. عشان تقدر تعيش".

ما أعظم الفلاسفة المستمدة أعمدة فلسفتهم من التأمل بلا قيود.

في حضرة علي الشريف، يشعر المشاهد أن المجد للعاديين من الناس. ملامحهم بعيدة عن الجمال بالمفهوم التقليدي الشائع الزائف للكلمة، وقد تكون ملابسهم متهدلة مترهلة رخيصة الثمن، لا شيء فيها من الأناقة وتناغم الألوان، وربما تفوح منهم رائحة التعب والإرهاق، لكنهم هم البشر الحقيقيون الذين يعمرون الأرض، ويحلمون بساعات، لا أيام، من الراحة والسعادة؛ راحة وسعادة التقاط الأنفاس.

...................

مئة فيلم تقريبا في مسيرة تقل عن عشرين عاما، وإذا كانت بعض الأدوار هامشية بلا أعماق تتيح التحقق والإشباع، فإن الكثير منها شاهد على موهبة بلا ضفاف. إنه الشرير الطيب، والعملاق المخيف الذي يشبه الأطفال في الرقة والبراءة. لا تملك إلا أن تحبه وتنجذب إليه وتذوب في عالمه المغلف بالصدق والعفوية وما يتيسر من الشجن والألم النبيل.

لست على يقين من صحة ما يُقال عن تنبؤ الفنان الكبير بموته، ولا أستطيع أن أصدق أو أكذب الشائع عن آخر الكلمات التي ينطق بها: يا حسين مدد. تؤكد أسرته أنه ينتمي إلى آل البيت، ووفقا لما يقوله إبراهيم عبد القادر المازني ساخرا، فإن أكثر من نصف المسلمين المعاصرين له يفاخرون بأنهم من سلالة الحسين. مثل هذا الانتساب لا يضفي على أصحابه فضلا بطبيعة الحال، لكن علي الشريف وهو يحتضن الأرض في لهفة ويذوب عشقا فيها، يذكرني دائما بالإمام الحسين في محنة كربلاء، فلا غرابة أن يكون الفلاح دياب من أحفاده.

--------------
نقلا عن "البوابة نيوز"