FilFan.com
FilFan.com تاريخ النشر: الأربعاء، 27 نوفمبر، 2019 | آخر تحديث:
أنا فاوست

نقلا عن نشرة مهرجان القاهرة السينمائي 41

"لا داعي لوجودك، إذا لم تعثر على سعادتك هنا، ابحث عنها في مكان آخر"، هكذا تقول جيلدا والدة فاوست لابنها في الفيلم المكسيكي "أنا فاوست" سيناريو وإخراج خوليو برثيلي، تلك الكلمات التحذيرية، لكنه لم يفهمها في حينها، فقد استغرق منه الأمر وقتًا ليس بالهين لُيدرك عمق وحجم مأساته. فاوست الذي يترك وطنه المكسيك مُتجهًا إلى برشلونة بحثًا عن حياة جديدة بعيدًا عن سيطرة والده على حياته التي يتحكم فيها كآلة ويُسيّرها بشكل نمطي ووفق منوالٍ ثابت يكاد لا يتغير، يعود مُجدداً إلى المكسيك مدفوعًا برغبة وأمل في بناء حياة يسعى أن تكون مختلفة عن سابقتها، لكنه يسقط في الفخ ويقبع أسير رؤية ورغبات والده التي تقوده إلى حافة الجنون، ليبدو الفيلم مهمومًا بفكرة السيطرة الأبوية على الأبناء، وكيف تصبح هذه السيطرة قدر ما هي نابعة من عاطفة وحب بقدر ما تكون قاسية ومدمرة في آن.

يبدأ الفيلم بمشهد نرى فيه حجرة نوم بإضاءة مظلمة، ونلمح على الفراش كتلة مُتخثرة من الدماء، تتضح شيئًا فشيئًا مع دخول الخادمة وإزاحة الستائر لتسمح بدخول ضوء النهار، بدايةً قد تبدو مبهمةً ولا تكشف عن كنهها إلا مع نهاية الفيلم، فقد اختار السيناريو أن تدور الأحداث مثل السيمفونية الموسيقية، تتكون من مقدمة وأربع حركات، يتنوع أزمانها ما بين حاضر يجري فيه حصد وجني أفعال الماضي وماضٍ كاشف لملابسات ذلك الحاضر، كل منهما مرتبط بالآخر ويؤثر على كل حركة ويدفع السرد للأمام حتى نصل لخاتمة الأحداث.

مشهد البداية هو مقدمة السرد، ثم ننتقل للحركة الأولى، من الماضي حيث فاوست مع صديقته آن أثناء دراسته للطب في برشلونة، علاقته معها وتوافقهما معًا ثم نتنهي هذه الحركة بمشهد نرى فيه فاوست وهو يُخبر صديقته برغبته في إنهاء علاقتهما فجأة ودون أي مبررات مقنعة، وفي الحركة الثانية يترك فاوست كلية الطب ويحترف التصوير الفوتوغرافي، ثم يتعرف على الموديل كارمن ويقع في حبّها، ثم في الحركة الثالثة يتزوج فاوست من كارمن، وهنا يُقرر فاوست العودة إلى المكسيك تنفيذًا لرغبة والده وكشرط أساسيّ لدعمه ماليًّا، لتصبح هذه الحركة هي الأهم في مسار السرد، تتصاعد الأحداث ويتحول فاوست إلى نسخة مكررة من والده، يعمل لساعات طويلة مع والده في مجال الاستثمار ويهمل كارمن التي تُطالبه ببعض الاهتمام، لكنه يختبئ خلف مشاغله المزعومة ويتركها فريسة لوحدتها مثل أمه ومعاناتها مع والده، ونصل للحركة الرابعة تتعقد فيها العلاقة بين فاوست وكارمن خاصةً بعد تدهور الحالة العقلية لفاوست ويُصاب بنفس المرض العقلي الذي أصاب أمه، ليصبحا هما الاثنان ضحايا سيطرة الأب الذي لا يتأثر ولا يتزحزح عن قبضته، وأخيرًا مع الخاتمة المشهد الأخير من الفيلم الكاشف للبداية، فاوست يطلق النار على كارمن أثناء إحدى نوباته الفجائية وهو يبحث عن الدواء. لنجد أن السرد ينتهي من حيثما بدأ عائدًا للحاضر مرة أخرى كالدائرة تبدأ وتنتهي من نفس النقطة.

يدور السيناريو حول فاوست حيث هو المركز الذي تنطلق منه الأحداث في سرد متعرج متعدد الأزمنة، ينتقل بينها بسلاسة مونتاجية وقطعات ناعمة، كل مشهد يؤدي للذي يليه ولكنه يختلف عنه زمنيًا، فلكل مشهد طبيعته الزمنية، ليصبح السرد أشبه بالشذرات، قطعة من هنا مع مثيلتها من هناك، وكلما تقدم السرد، اتضحت معالم الصراع، ليبدو الصراع هنا ليس مع الأب بسطوته فقط بقدر ما هو صراع داخلي ذاتي، يتمحور حول البحث عن الذات، فاوست لا يجد نفسه بعد سنوات من الطمس والكبت الأبويّ، يبحث عن نفسه وكلما أوشك على الاقتراب من ذاته يعود للنقطة الأولى دون إحداث تغيير حقيقي في نفسه.

يُعاني فاوست ولا يجد لنفسه مخرجًا من حصار والده الموشك على خنقه، ففي أحد المشاهد نرى فاوست وهو يسبح في الماء، ويُهيأ له أن والده يحاول خنقه، فالصراع هنا يصل للذروة، في مشهد ملحميّ خاصة مع تصاعد الموسيقى الكلاسيكية التي لجأ إليها المخرج خاصة في المشاهد الملحمية مثل موسيقى هاندل بالإضافة لحركة الكاميرا التي تلتقط التفاصيل الصغيرة الموحية والدالة بزوايا تصوير طَعّمت الفيلم بلمحة تشكيلية وتُشير لمخرجٍ ذي حس فني رفيع. فاوست ووالده كلّ منهما في عالم منفصل عن الآخر، لذا جاءت إضاءة أغلب مشاهد فاوست بإضاءة خافتة مظلمة إشارة لنفسه المحاصرة في مقابل إضاءة مشاهد الأب باللون الأبيض الشاهق، في تضاد بليغ بين عالميهما غلف أغلب مشاهد الفيلم ومعبّرة عن صرخة فاوست التي ضلّت طريقها.

اقرأ أيضا:

مهرجان القاهرة السينمائي يكرم شرير "تيتانيك" بيلي زين

المخرجة الفلسطينية نجوى نجار: "بين الجنة والأرض" رحلة معاناة