FilFan.com
FilFan.com تاريخ النشر: الاثنين، 25 نوفمبر، 2019 | آخر تحديث:
إن شئت كما فى السماء

نقلا عن نشرة مهرجان القاهرة السينمائي 41

"أن أتساءل أحيانًا ما الذي يستطيع الفيلم فعله؟ الأكيد أن فكرة صناعة الفيلم تأتي من نوع من الأمل» هكذا يقول المخرج الفلسطيني إيليا سليمان عن جدوى صناعة الأفلام، وفي فيلمه الأخير «لابد أنها الجنة» من تأليفه وإخراجه يستكمل مصفوفة الأمل بدءًا من العنوان الموحي والدالّ على الأمل بوجود الجنة المُمثلة في الوطن، حتى السرد والأحداث التي تدور في نفس الفلك، وطن قريب رغم البعد والشتات وسنوات الهجرة الطويلة، ليبدو الفيلم مهمومًا كعادة أفلام صاحب “يد إلهية” بفلسطين الوطن الأول والأخير، منه وإليه يعود، رغم هجرته الاختيارية إلى نيويورك وباريس، لكن فلسطين تظل حاضرةً بقوة في أفلامه، حضور شجيّ عذب وإن كان لا يخلو من السخرية والنقد اللاذع والرثاء أيضًا، فأحداث الفيلم لا تدور من خلال قصة متخيلة بل عن إيليا نفسه، وكأنه يروي سيرته الذاتية أو بالأحرى يسجل رؤيته لما يجري حوله.

يبدأ الفيلم بداية صوتية بالترانيم المسيحية، ثم تظهر جموع من المصلين يتقدمهم قسّ يتجهون نحو إحدى كنائس الناصرة، ليُفاجأ القس برفض خادم الكنيسة فتح الأبواب للصلاة، لنصبح داخل مشهد هزليّ يتسم بالسخرية ستستمر طوال الفيلم، الذي لا يلتزم بسيناريو واضح له بناؤه التقليدي من بداية ووسط ونهاية، بضعة مشاهد متفرقة ذات لمحة تسجيلية، لكن في باطنها دراما متكاملة الأركان، نتابع إيليا طوال مدة الفيلم حيث يظهر في أغلب مشاهده وهو يتأمل، يعمل، أو يُمارس حياته الطبيعية، ومع تسلسل هذه المشاهد تتصاعد معها الدراما بشكل مستتر وتتضح معالم السرد وتتبلور الأفكار وتصبح جليّة بشكل لا يحتاج لتأويل.

يُقدم إيليا جرعة مكثفة من السخرية المبطّنة بالكوميديا، سخرية قد تصل لدرجة النقد الحاد أحيانًا، كل المواقف التي يمر عليها تقع تحت مجهر ساخر، فالفيلم يبدو وكأنه رحلة في حياة إيليا سليمان، نراه طوال الفيلم وهو يُراقِب ما يجري حوله، يلتقط بعينين مُندهشتين أشبه بدهشة طفل تنفتح عيناه على العالم للمرة الأولى، تفاصيل ورؤى قد لا نلحظها مع نظراتنا العابرة، فكل ما يراه يأخذ بُعدًا آخر مطعم ليس فقط بالسخرية بل وبالعبثية أيضًا، فالبداية من بلده الناصرة يُسجل حياة قد تبدو خارجة من الإطار الزمني المتعارف عليه، بشر يمارسون حياتهم وكأنهم شخصيات كرتونية، تصرفاتهم وأفعالهم لا يحكمها منطق محدد، وبالتالي ردود الأفعال تبدو هي الأخرى موسومة باللامعقولية، مثل مشهد ركض الشباب في الشارع دون سبب مفهوم أو تبوّل جاره المسنّ أمام بوابة منزل إيليا وغيرها من المشاهد التي ستزداد وطأتها مع مرور الحكي وتنقله بين عدة أماكن، فالموجة الثانية من السرد تنتقل إلى فرنسا، حيث يُقرر إيليا الهجرة إلى باريس.

يحزم أمتعته ويزرع شجرة أمام منزله مثل الفلسطينيين الأوائل قبل النكبة في إشارة بتمسكه بجذوره رغم سنوات الهجرة الطويلة، في باريس يرى عالمًا مُغايرًا عن ما رآه في وطنه، وبالتالي تتسع حدقة عينيه أكثر فأكثر، وتزداد جرعة السخرية، لكنها هنا تحوي مقارنة ما بين عالمين، عربي وغربي، نرى العناية بكافة التفاصيل التي قد تبدو مُهملة في سيميترية خانقة أحيانًا، مثل مساحة الرصيف المحسوبة بدقة مفرطة وإزالة فضلات الخيول من الشوارع والعناية الفائقة بالمشردين وغيرها من التفاصيل، التي تعكس الثقافة الفرنسية التي يحيا بينها وإن كان حَصر هذه الثقافة في عروض الأزياء التي تشتهر بها بيوت الأزياء الباريسية، ومع الانتقال للموجة الثالثة من السرد التي تجري أحداثها في نيويورك، تصل السخرية لأعلى درجاتها لتصبح مشوبة بلمحة سريالية وتضيف للفيلم بُعدًا جماليًا فريدًا سيصاحبه طوال الفيلم، فهو يرى المواطنين وحتى الأطفال منهم مسلحين بأحدث الأسلحة، ففي أحد المشاهد نرى إيليا وهو يتسوق في إحدى المتاجر والعاملون والزبائن مسلحون على السواء، وكأنه يُقدّم رؤيته للواقع الأميركي الذي يهتم بأعلى درجات الأمان، لكنه أمان مزيف، وتستمر هذه الرؤية في واحد من أجمل مشاهد الفيلم حينما تقف فتاة ترتدي أجنحة وتضع على صدرها علم فلسطين، ثم تطاردها الشرطة حتى ينقضّوا عليها لتختفي فجأة مثلما ظهرت فجأة، وكأنهم يروا في علم فلسطين إنذارًا يُهدد أمانهم الواهي.

اعتمد إيليا على مجموعة متنوعة وثرية من الأغاني العربية والغربية كبديل للموسيقى التصويرية، أضْفَت لمسة عذبة على إيقاع الفيلم وجعلته يبدو شاعريًا، فالبداية مع الترانيم وفي السفر يصحبنا صوت نجاة وهي تشدو بأغنية «بحلم معاك» وفي باريس ونيويورك مع الأغاني الكلاسيكية حتى نصل للذروة مع مشهد النهاية وهو الأجمل، نرى إيليا يحتسي الشراب في إحدى الملاهي الليلية في الناصرة بعد عودته من نيويورك والشباب يرقصون على أنغام أغنية «عربي أنا» للفنان اللبناني يوري مرقدي، وصيحاتهم تعلو تدريجيًا، ثم تنتقل الكاميرا لوجه إيليا ووجهه يعلوه مسحة من الحزن والأسى، وكأنه يسخر بكاميراته من حال العرب ونضالهم الذي يكون دومًا في المكان الخطأ.