"الفيل الأزرق 2".. ماذا فعل الجزء الثاني بفيلم غيّر صناعة السينما؟

تاريخ النشر: الأحد، 28 يوليو، 2019 | آخر تحديث:
الفيل الأزرق 2

في عام 2014 عُرض الجزء الأول من "الفيل الأزرق" لمروان حامد، عن رواية لأحمد مراد هائلة النجاح، مختلفٌ على مستواها، ليُمثل في وقتها خطوة كبيرة وضرورية في مسار صناعة كانت تعاني من تعثر تزامن من الأحداث السياسية وانعكس بوضوح على عدد وحجم الأفلام المُنتجة. كان الفيلم وقتها نغمة خارج السياق: عودة للأصول الأدبية، إنتاج ضخم وإخراج يهتم بأدق التفاصيل ولا يتنازل عن أعلى درجات الجودة، وفريق من كبار النجوم. باختصار، كانت "قُبلة حياة" التفت حولها أغلب الكتابات النقدية، فمهما كانت الملاحظات كان حدوث الفيلم ضرورة لإنقاذ الصناعة، وقد كان.

تعرف على أسعار تذاكر ودور عرض فيلم "الفيل الأزرق 2"

اليوم وبعد خمس سنوات يمكننا القول بأننا نعيش مرحلة "ما بعد الفيل الأزرق"، بعدما أصبح الإنتاج السينمائي الحقيقي في مصر يكاد ينحصر في خمسة أو ستة أفلام سنويًا، تُصنع كلها وفق النموذج نفسه وبالطموح عينه، مع اختلاف في درجة النجاح الفني والتجاري يحددها مستوى صناع الفيلم وجمهوره المستهدف. كل الشركات الكبرى تقريبًا صار هدفها السنوي هو صناعة فيلم نوع genre ضخم الميزانية بطاقم من النجوم ليجمع عشرات الملايين من شباك التذاكر، وقائمة الأفلام السنوية تكتمل بعدد كبير من الأفلام المغمورة، ضعيفة الحجم والمستوى والطموح، "أفلام بئر السلم" التي لا يكاد أحد ينتبه لطرحها في القاعات.

مراجعة "الفيل الأزرق 2"- نواة فيلم رعب لم تكتمل

الوضع السينمائي الراهن ذو شجون ويستحق المزيد من الدراسة والتحليل، لكن عرض "الفيل الأزرق 2" يأتي ليُجبرنا على استعادة ما بدأته التجربة، والنظر للفيلم الجديد وفقًا لحقائقه وعلى رأسها إنه لم يعد تجربة فريدة من نوعها، بل صار ـ بصورة ما ـ الشكل السائد في الصناعة. فبعد خمس سنوات من تجربة مروان حامد وأحمد مراد الفارقة في مسيرة السينما المصرية، لماذا يُقدمان على صناعة جزء ثاني من فيلمهما مكتوب خصيصًا للشاشة دون نجاح روائي يستند عليه؟ وهل كان الناتج النهائي للتجربة يستحق خوضها على المستوى الفني؟ أم إنها مجرد محاولة للاستفادة من النجاح الجماهيري السابق؟ وهو بالمناسبة طموح مشروع لأي صناعة سينمائية راسخة.

تحفظات الجزء الأول الممتدة

أفيش الفيلم يحمل الرقم اثنين بوضوح، دون حتى أن يُدرج عنوانًا فرعيًا؛ والدلالة هنا واضحة: هذا جزء جديد لنفس الحكاية والأبطال، والأهم بنفس شروط وقواعد اللعبة. ما نعنيه هنا يتعلق بنقطتين رئيسيتين يمكن اعتبارهما التحفظين الأكبر الذي كان يمكن لأي شخص أن يمتلكهما تجاه الجزء الأول: دعم الخرافة وخيانة النوع.

الجزء الأول ينتصر بوضوح للخرافة الخوارقية، لوجود جني ذي قدرات خاصة بإمكانه أنه يتلبس أجساد البشر فيغير من طباعهم وتصرفاتهم، وبإمكان البعض استدعائه باستخدام وشم. باختصار ما يكرسه الفيلم هو كابوس كل عقلاني يميل لاتباع وتصديق العلم، لا سيما وبطل الحكاية طبيب نفسي يبدأ المغامرة باحثًا عن تفسيرات علمية لحالة محتجزة بمستشفى الأمراض العقلية، وهو ما جعل البعض يتسائل عن المسؤولية الاجتماعية لصناع الأفلام وهل من المقبول أن يقدموا ما يدعم تصورات خرافية قد يتسبب بعضها في أذى لمريض نفسي؟

التحفظ الثاني كان متعلقًا بتفصيلة العنوان: الفيل الأزرق، حبة الهلوسة التي يكتشف البطل من خلالها حقيقة ما حدث، لأنه وإذا كان المألوف أن تأخذ المخدرات متعاطيها لمساحات بعيدة ومجهولة ومتطرفة من لا وعيه وخياله الشخصي، فإن تلك الحبة أخذت البطل إلي أماكن لا يعرفها وماضي لم يكن ليعرفه بأي صورة في الحياة الواقعية، باختصار هي "إله من الآلة deus ex machine" على طريقة المسرح اليوناني القديم الذي كان الآلهة ينزلون فيه من السماء في نهاية الرواية ليأخذوا قرارات تحل الأزمة في ثوان.

حبة تأخذك في رحلة ترى فيها الماضي وتفهم من خلالها حقيقة ما جرى وما أدى لظهور الحالة على الممسوس، هذا حل درامي يمثل بالنسبة لمحبي سينما التشويق خيانة صريحة للنوع، فالاتفاق الضمني في الحبكة العادلة fair plot أن يصل البطل لحل اللغز بعد تفكير وصراع وربط لتفاصيل يتابعها الجمهور معه، أما أن يوجد عقار يفعل المستحيل ويأخذ البطل للماضي ليعرف الحل بشكل مجاني، فهذا كان ـ ولا يزال ـ تقويضًا لهذا النوع من الحكايات.

الخطوط على استقامتها.. اقبلها أو اتركها

"الفيل الأزرق 2" بطبيعة الحال يلتزم بالقواعد الحاكمة للجزء الأول، بل يُمكن القول بأنه يمد الخطوط على استقامتها لإنه، وإن كانت احتمالات الجريمة والمرض النفسي وخداع حبوب الهلوسة قائمة في الفيلم السابق، فإن هذا الباب قد أُغلق بالتأكيد على الأمرين، وصار من المفروغ منه بالنسبة للمشاهد أن هناك مس وسحر وفيل أزرق يأخذ الدكتور يحيى للماضي ويخبره بما حدث فيه، لدرجة إنه عندما ينفي الطبيب أكرم العائد من بريطانيا (إياد نصار) الاحتمالية الخوارقية مؤكدًا التزامه بالعلم والقواعد الطبية، تكاد تجد نفسك تصرخ في وجهه ساخرًا: فقط لأنك لم تشاهد الجزء الأول!

الحقيقة أن نفس التحفظين على "الفيل الأزرق" يمكن اعتبارهما نقاط قوة في "الفيل الأزرق 2"، فوجود الخلفية عن الحكاية يُغلق الباب في وجه التأويلات. الجمهور ذاهب هذه المرة وهو يعلم أنه سيشاهد فيلمًا يؤمن بالجن والسحر ويُسلّم بوجودهما، وحكاية فيها حبة خارقة يمكنها أن تساعد البطل في حل اللغز. باختصار هو ذاهب لمشاهدة فيلم رعب تشويقي، وليس فيلم جريمة تشويقي، وهو فارق كبير يجعل المعادلة أبسط: القواعد معروفة، اقبلها أو اتركها، Take it or Leave it، فإذا كان يمكنك التصالح لمدة ساعتين مع ما ترفضه نظريًا بغرض الاستمتاع بفيلم أهلًا بك، وإن لم تقبل الصفقة مسبقًا فهو خطأك وحدك أن ذهبت للسينما منتظرًا تعديل قواعد جعلت حاملها أحد أنجح الأفلام المصرية على الإطلاق.

سؤال التطور البصري.. وحس اللقطة الواحدة

هل "الفيل الأزرق 2" محاولة لاستثمار نجاح الجزء الأول؟ بالقطع نعم، هل في ذلك ما يعيب؟ بالتأكيد لا، ما هو معيار نجاح التجربة أو فشلها؟ بعيدًا عن النجاح التجاري الذي لا يعني شيئًا على الصعيد الفني، فالمعيار هو قدرة صناع العمل على تقديم الجديد على المستويين البصري والدرامي.

نبدأ بالصعيد البصري لأنه الأوضح والأسهل؛ فهناك نجاح حرفي لم يعد مستغربًا من مروان حامد، وتطور كبير على مستوى تطويع صورة أحمد المرسي في رسم الجو العام الكابوسي المطلوب. ثنائية الأناقة/ الكابوس ذات السمت الباروكي الواضح (نسبة لفنون عصر الباروك) تحكم تقريبًا كل مواقع الأحداث، حتى من يبدو منها حداثيًا مثل منزل البطل، يظل الحس الكابوسي مسيطرًا على المشهد ومتماشيًا مع حالة بطل يحارب جسده كي يظل متيقظًا طيلة ليال ثلاث.

نجاح آخر لا يمكن الإمساك به دون مقارنة الفيلم بالعمل السابق للمخرج (وللمونتير أحمد حافظ معه)، "تراب الماس"، وبالتحديد فيما يتعلق بقيمة إيقاع اللقطة الواحدة في منح الفيلم شعوره العام. فإذا كان مروان حامد ارتكن في فيلمه السابق للقطات الطويلة ثقيلة الأثر والملائمة لجو الحكاية الخانق والمرتبط بالفساد السياسي والمجتمعي، فالحس المونتاجي هنا يسير كتفًا إلى كتف مع اختيارات الصورة. نحن نعيش كابوسًا، أو للدقة نسير مع البطل في برزخ يفصل واقع كابوسي عن كابوس واقعي، يسير عليه بنصف وعي ونصف عقل، لذا فالقطع المفاجئ، السريع، الكاسر لقواعد التواصل البصري الأكاديمية، هو هنا تعبير عضوي يأتي من رحم الحكاية ووجهة النظر التي نتابعا من خلالها، ويمنح "الفيل الأزرق 2" بسهولة العلامة الكاملة من بين كل أفلام ما اسميناه بمرحلة "ما بعد الفيل الأزرق" في السينما المصرية السائدة، باعتباره نموذجًا لإجابة صناع فيلم على السؤال البديهي: ما هي الطريقة المُثلي لحكي هذه الحكاية تحديدًا؟

محاولة للعمق.. تعويض ضروري

(الفقرات التالية حتى نهاية المقال قد تحمل معلومات تكشف عن بعض تفاصيل الحكاية)

التطور البصري واضح، فماذا عن النص؟ والنص هنا بالمناسبة هو نص مروان حامد قبل أن يكون نص أحمد مراد، ليس فقط لأن المخرج ـ أي مخرج ـ هو الأب الشرعي لكل عناصر الفيلم والمسؤول الرئيسي عنها، ولكن لأنه عندما يعمل مخرج مع المؤلف نفسه لأربعة أفلام متتالية فلا يُمكن أن يعني هذا إلا وجود تفاهم كامل بين الطرفين يجعل الاختيار راجعًا إليهما معًا، لا سيما وهو عمل مكتوب خصيصًا للشاشة كجزء ثانٍ لعمل ناجح ذي أصل أدبي، أي أن الفيلم هو وليد نجاح تعاون المخرج والمؤلف الأسبق بشكل كامل.

من بين أفلام الثنائي حامد/ مراد يمكن القول بأن "الفيل الأزرق 2" بكل سياق صناعته ومضمونه هو أكثر الأعمال الأربعة تجارية، فهو يهدف بالأساس لتقديم حكاية مشوقة ومسلية للجمهور العريض، بنفس شروط الجزء الأول، مع إضافة جديدة هي محاولة منح العمل بعدًا نفسيًا يتعلق بأزمة البطل يحيى مع نفسه، مع فكرة الالتزام بحبيبة وتكوين أسرة، وهو تصعيد ذكي وضروري في آن واحد.

تصعيد ذكي لأنه يحيل المشكلة التقليدية في الجزء الأول (حبيبان انفصلا فخاض كلا منهما تجربة زواج انتهت لألم وجرح)، إلى منحى نفسي يستحق التفكير، فإن كانت الأزمة تثار للحظة كسؤال خوارقي (البطل الملعون الذي يدمر كل من يحبه)، إلا أن السؤال نفسه بالكلمات ذاتها واللعنة عينها، بإمكانك أن تجعل منه هاجسًا نفسيًا صالحًا للتماس مع الكثير من العلاقات التي لا تحتوي أي سحر أسود أو أفيال زرقاء.

نقول أن الإضافة أيضًا ضرورية، لأن تغيير فهم الجمهور للنوع وتحول الفيلم بحكم ما تم إرساءه في الجزء الأول لفيلم رعب تشويقي لا يتضمن أي شك في طبيعة المس الذي تعاني منه فريدة (هند صبري) ولا الحكاية التي يراها يحيى عبر عقاره، جعل ما فقده الفيلم بالحسم المسبق لهذه العناصر يحتاج لإيجاد ما يحل محله في بناء دراما الفيلم، ليأتي هذا البديل متمثلًا في مثلث (يحيى – فريدة – لبنى)، وما يحركه ظهور الفتاة الساحرة/ المسحورة من إحياء لشكوك البطل في قدرته على إسعاد من يعوّلون سعادتهم عليه.


بين النوايا والنتائج

إلا أن النوايا الحسنة لا تصنع دائمًا نتائج متميزة، فسير الخطان بالتوازي (أزمة المريضة – الأزمة النفسية) يستمر بنجاح حتى منتصف الفيلم تقريبًا، قبل أن ينشغل النص كليًا برحلات يحيى الثلاث في عوالم الفيلم الأزرق، ويجعل من اللعنة سببًا وحيدًا واضحًا لأزمة يحيى مع زوجته وحبيبة عمره، بينما نعلم جميعًا (على الأقل وفق علاقتهما عند نقطة بداية الفيلم) أن أزمتهما ليس سببها الأساسي عفريت من الجن، حتى لو كان بقدرات نائل النكّاح!

الطريف إنه وفقًا لهذا الفهم يُمكن قراءة مشهد النهاية المثير للجدل، والذي يقول التفسير السهل إنه مجرد تبشير بجزء ثالث، باعتباره يذكرنا ضمنيًا بأن الأمر لن يُحل بالتغلب على الجن، لأنه وإن كان "أحد" أسباب الجفاء فهو ليس "كل" أسبابه.

سر آخر لعدم انضباط المسار الدرامي للأحداث هو أن تماسك وثراء المنطق النفسي للشخصية يكاد يقتصر على شخصية البطل يحيى، بينما تظهر شخصية الزوجة لبنى (نيللي كريم) بصورة باهتة تكاد تتناقض مع كثير مما نعرفه عنها من الجزء الأول. ولا يفوق جاذبية رسم شخصية المريضة فريدة واجتهاد هند صبري في تجسيدها، سوى تخبط بناء الشخصية التي تبدو لوهلة مصابة بلعنة تستحقها كامرأة مغرورة شبت على الانتصار على من حولها وإن لم تستحق، قبل أن يتضح كونها مجرد ضحية، وعاء كان من الممكن استبداله بأي جسد آخر ليس له سمات فريدة النفسية. بينما احتفظت شخصية الطبيب أكرم بأكثر انقلاب درامي غير مبرر في سينما مروان حامد منذ بداية مشواره، عندما يقرر فجأة أن يخالف كل قناعاته ويعتنق نظرية البطل الخوارقية عند اللحظة التي كان من المفترض منطقيًا أن يأخذ فيها موقفًا معاكسًا تمامًا.

قد يبدو هذا تحميلًا للفيلم بأكثر مما يحتمل، فهو كما قلنا أكثر تجارب الثنائي رغبة في إرضاء الجمهور العريض، وهو هدف يتحقق بالفعل مع قدرة الحكاية على إثارة الاهتمام طيلة زمنها ومع تميز أغلب عناصر الصنعة. إلا إن دافع هذا الطرح يأتي من داخل الفيلم نفسه، من نصفه الأول الذي وعدنا بجزء ثاني أكثر عمقًا يمزج سينما النوع بالدراما النفسية، لكنه ينتهي بالعودة طواعية لحدود الجونره، فيكون في محصلته النهائية نسخة أفضل تقنيًا من الجزء الأول. ومع ما شرحناه في البداية من اخلاف سياق ظهور العملين، يغدو من العسير اعتبار "الفيل الأزرق 2" عملًا مهمًا ومفصليًا كنسخته الأولى. هو فقط عمل مسلي جيد الصنع، وعدنا بما هو أكثر ثم أخلف وعده.


اقرأ أيضا للكاتب:

"بفضل الله".. جدل الشكل والمضمون في معالجة فرانسوا أوزون لقصة راهب متحرش

كان 72- فيلم السعفة الذهبية: Parasite.. عن طفيليات بشرية وأماكن متصارعة