قبل نحو أربعة أعوام كان هناك مخرج مصري شاب مصري يدعى باسل رمسيس يبدأ تصوير أطول لقطات فيلمه التسجيلي الطويل بميدان رئيسي لحي مدريدي، حيث سيكون عليه التواجد لمدة 24 ساعة لتصوير إيقاع يوم كامل من "الجنة" التي طالما كان يتمنى الإقامة فيها. إنها جنة من نوع أخر تدعى "لابابييس".
لا يبدو الأمر سهلاً خاصة مع هذه الجنة متعددة الألوان، التي تضم "الكتالوج" الكامل لمشاكل المهاجرين فى إسبانيا. إنها "جنة" يجلس فيها العربي إلى جانب الصيني، إلى جانب اللاتيني إلى جانب البنغالي في مقعد حديقة واحد، ولكن هل حقاً يتعايشون معاً؟ ...كلما كان باسل يواجه صعوبات فى مناقشة هذا السؤال خلال التصوير كان طبق حساء فى منتصف الليل، مقدم من أهالي الحي لفريق التصوير يعيد له الأمل من جديد.
باسل-31 عاماً- المقيم فى إسبانيا منذ حوالي ست سنوات يعود إلى القاهرة بفيلمه "الجانب الأخر للإقتراب من لابابييس"، والذي يفتتح ويختم الأسبوع الثالث للسينما الإسبانية فى مصر. تلك المغامرة التسجيلية التي خاضها داخل أحد أكثر الأحياء العاصمة الإسبانية تنوعاًً، و معاناةً أيضاً. والتي ستتركك فى النهاية وسط مجموعة من أصعب الأسئلة التي تواجهها المجتمعات الأوروبية حالياً.
أسئلة عن العنصرية، حقوق المهاجرين، التعايش المشترك، الأقليات، معاملة السلطات لهم، الخليط الثقافي... إنه ببساطة عمل صدامي كصاحبه تماماً.
فى البداية كيف جاءتك فكرة عمل الفيلم للمرة الأولى، و كيف تم تمويله؟
- الفكرة طرقت ذهني للمرة الأولى فى فبراير 1999، و ظلت حبيسة الأدراج لمدة عامين كاملين، إلى أن أثار مدرس فى الجامعة حماستي لأبدأ فى مراحل تنفيذها على الفور فى فبراير من عام 2001. وقد بادر فريق التصوير بالمساهمة من أمواله الخاصة لتغطية كل النفقات.
الأفلام التي تم تقديمها عن المهاجرين فى إسبانيا قليلة... هل بدأت من الصفر أثناء تنفيذك فيلم "الجانب الآخر"؟!
فعلياً لم نبدأ من الصفر، لقد كنا ندرك منذ البداية أننا نصنع فيلماً مختلفاً. خاصة أن معظم الأفلام التي أنتجت في إسبانيا عن قضايا المهاجرين هي أفلام سطحية، تضع الناس دوماً فى الخلفية، تتناول قضيتهم من وجهة نظر إسبانية. لهذا يعتبر "الجانب الآخر" مختلفاً تمامَاً، فهو مقدم من وجهة نظر مهاجر. إنه فيلم لا يخفي إنجيازه إلى المهاجرين.
كيف كان انطباعك الأول عن حي لابابييس المدريدي بعد فترة من تواجدك بالعاصمة الإسبانية؟
- كنت مبهوراً تماماً بالحي، لقد كانت "لابابييس" كالجنة بالنسبة لي. لقد كنت أتمنى دوماً الإقامة فى مكان يعيش نفس حالة التعدد والتمازج الثقافي التي وجدتها هناك. ولكن بعد فترة من انخراطي فى عالم "لابابييس" عرفت الجانب المظلم من القصة. لقد اكتشفت أن حالة التمازج الثقافي ليست إلا حالة تجاور، لايتقاطع فيها الجميع في نقطة محددة. لقد كان هناك امتزاج فى الألوان فقط، ولكن ليس فى الثقافات.
أثناء مشاهدة الفيلم لا يمكنك تجاهل هذا العدد الهائل من شخصيات الحي، والتي تقدم فى حيوية شديدة أوجه عدة لقضية المهاجرين...هل كنت على علاقة سابقة بأحد منهم؟
يمكنني القول بأن 90% من الشخصيات التي ظهرت بالفيلم لم تكن لي سابق معرفة بهم من قبل. لقد تشكلت هذه الصداقات خلال عملية التصوير، من خلال تواجدنا لمدة ثلاثة أشهر كاملة بالحي، لعشر ساعات كاملة، كنا متواجدين بشوراع لاباييس معظم الوقت، بالحانات، دوماً بالقرب منهم.
هل تعني أن أهالي لابابييس استقبلوا أسرة الفيلم بكثير من الإرتياب فى البداية ؟
أهالي الحي معتادون على وجود فرق و معدات التصوير معظم الوقت، ولكن مع كثير من الإرتياب من جانبهم. إلا أن الأمر كان مختلفاً معنا تماماً، أعتقد انهم شعروا بجدية طرح قضيتهم فى الفيلم، وأظهروا لنا تعاطفاً شديداً . ففي أثناء تصوير لقطة الساعات الأربع والعشرين بميدان الحي لم يدخر أهالي لابابييس جهداً لمساعدتنا من تلقاء انفسهم، وهو ما شمل من تقديم الماء و المشروبات، والحساء لنا ليلاً على سبيل المثال. لقد كانت علاقة طيبة بالفعل.
الفيلم يتبنى أسلوباً صادماً فى التفاعل مع مشاهديه، هل كنت تضع هذا فى الحسبان قبل تنفيذه؟
كان فى ذهني صنع فيلم بسيط، أكثر نعومة في أسلوبه. لكني شعرت بأن الأسلوب الصدامي هو الأسلوب الأمثل للتعامل مع هذه القضية. ولعلك تلاحظ تقنياً أني لم أستخدم أسلوب المزج أو الإظلام التدريجي، مفضلاً استخدام القطع الحاد، وهو ما بدأت و أنهيت به الفيلم ، أثار استغراب بعض المشاهدين.
بشكل عام لم يكن هدفي هو إمتاع الجمهور فى المقام الأول، كان هدفي هو دفعه للتفكير و مواصلة طرح الأسئلة المهمة عقب العرض.
هل كانت فكرة تقسيم الفيلم إلى ثمانى قصص تراودك منذ البداية؟
لم تكن ببالي فكرة القصص الثمانية،, ولكن كل شء تغير بعد لقاء فنان العرائس الذي يحكي لنا قصة "أوبا أوبا" " الإفتتاحية. حينها عرفت أن هذا الرجل أهدى لنا هديته الخاصة لنا. لنستقر تماماً بعدها على تقسيم الفيلم إلى حكايات كما فى نسخة العمل النهائية.
هل تعتقد أن الفيلم قد يكتسب أهمية مضاعفة بعد أحداث 11 مارس، وما هو الذى تغير فى حي لابابييس منذ إنتاج الفيلم عام 2002؟
لا أعتقد ان الفيلم اكتسب أهمية إضافية عقب أحداث 11 مارس فى مدريد، فالفيلم لا يتحدث عن "لابابييس" فقط، إنه يتحدث عن العديد من قضايا المهاجرين بشكل عام، عن العنصرية، عن تصاريح العمل، عن أوضاعهم الإقتصادية، علاقتهم بالبوليس. فالظروف كما هي فى الحي دون إختلاف ما يمكننا ملاحظته بالفعل هو أن الوجود البوليسي أصبح بكثافة أكبر خلال الفترة الأخيرة.