ما بين منع مطربي أغاني المهرجانات من الغناء بقرار يراه البعض مُجحفًا، وحق الرقابة على المصنفات الفنية في تقييم وإجازة كلماتهم بأمر القانون، لم ينتبه المجتمع لهذه الشعرة البسيطة التي تصنع فارقا جوهريا في النظر لهذه الظاهرة الغنائية، وتعيد الحوار برمته بين المؤيدين والمعارضين، لا سيما فيما يتعلق بقضية "الحريات".
فعلى مدار أيام طويلة كانت أغاني المهرجانات هي العنوان الأبرز لمساحة جدلية هائلة اشتعلت على مواقع التواصل الاجتماعي، بين العوام الذين انقسموا إلى مؤيد ومعارض، وشارك في النقاش عدد كبير من المطربين، والشعراء الغنائيين، والملحنين، والنقاد، والإعلاميين، وغيرهم من المتخصصين ذوي العلاقة بالوسط الفني.
الجدل بدأ من الفنان هاني شاكر بصفته نقيب الموسيقيين، حين أصدر قرارًا بمنع مطربى المهرجانات من الغناء "نهائيًا"، وأرسل تحذيرًا لكافة المنشآت السياحية من التعامل معهم بما فى ذلك محمد رمضان الذى اتجه مؤخرا للغناء وإحياء الحفلات، فضلًا عن إصدار بيان جاء فيه إنه تم منع طربي المهرجانات من الغناء فى إطار الجدل المجتمعى الحاصل على الساحة المصرية، ووجود شبه اتفاق بين كل طوائف المجتمع على الحالة السيئة التى باتت تهدد الفن والثقافة العامة بسبب ما يسمى بـ"أغانى المهرجانات"، التى هى نوع من أنواع موسيقى وإيقاعات الزار، وكلمات موحية تُرسّخ لعادات وإيحاءات غير أخلاقية فى كثيرٍ منها، حتى أفرزت ما يسمى بـ"مستمعى الغريزة"، وأصبح مؤدى المهرجان هو الأب الشرعى لهذا الانحدار الفنى والأخلاقى، حتى أغرت حالة التردى هذه بعض نجوم السينما فى المساهمة الفعالة والقوية فى هذا الإسفاف.
وأكد النقيب هانى شاكر أنه لا مجال للتصالح أو تقنين الأوضاع مع مطربي المهرجانات نهائيًا، مؤكدا أن ما يسري عليهم سيتم تطبيقه أيضا على الفنان محمد رمضان، مُضيفًا أن الفترة المقبلة ستشهد اجتماعات مكثفة مع وزيرة الثقافة الدكتورة إيناس عبد الدايم؛ لبحث ما توصلت نقابة الموسيقيين إليه.
لكن الأمور لا يمكن أن تسير دومًا في اتجاه واحد، لاسيما حين يتعلق الأمر بذائقة لها معجبين وكارهين، فضلًا عن أن مسببات المنع تحوي بداخلها على مسببات أخرى للاستمرار والقبول.. كيف؟!
إذا كان السبب الرئيسي للمنع - كما جاء في تصريحات وبيانات نقيب الموسيقيين – أن أغاني المهرجانات تحتوي على كلمات مُوحية تُرسّخ لعادات وإيحاءات غير أخلاقية فى كثيرٍ منها، حتى أفرزت ما يسمى بـ"مستمعى الغريزة"، فلماذا لا نعود لقانون الرقابة على المصنفات الفنية الذي من شأنه تنظيم هذه المسألة - على الأقل من الناحية الرسمية - للإشراف على أغاني تُنتج ويتم تداولها على أرض الدولة المصرية.
تُعدّ الإدارة المركزية للرقابة على المُصنفات السمعية والبصرية، هي الجهاز التابع لوزارة الثقافة، وصاحب السلطة بالتصريح للمصنفات الفنية، بالتسجيل والنسخ والتوزيع والتأجير والبيع والعرض والنشر، وذلك وفقًا للقانون رقم 430 لسنة 1995 بشأن تنظيم الرقابة على الأشرطة السينمائية ولوحات الفانوس السحري والأغاني والمسرحيات والمونولوجات والاسطوانات وأشرطة التسجيل الصوتي.
وبموجب هذا القانون، يصبح من حق الجهاز معاينة الأعمال الفنية، والتأكد من عدم احتوائها على ما يُخالف الآداب العامة والنظام العام، ومصالح الدولة العُليا، وألا تحتوي على دعوات إلحادية أو عبارات بذيئة، أو تشجع على أعمال الرزيلة وتعاطي المُخدرات، أو ما يخدش الحياء بشكل عام. ويقوم الجهاز بتقديم التعديلات المطلوبة، أو منع العمل نهائيًا في حال احتواؤه على ما يُخالف، ويأخذ التصريح فترة أقصاها 3 شهور، وينطبق على الموسيقى ما ينطبق على الفيديو، وكل من يقوم بممارسة تلك الأعمال بدون الحصول على ترخيص من وزارة الثقافة، متمثلة في جهاز الرقابة على المصنفات الفنية، فهو معرض للحبس مدة تصل إلى سنتين، وغرامة تصل إلى 10 آلاف جُنيهًا.
فإذا كان مطربي المهرجانات يغنون على أرض الدولة المصرية، ويخضعون لقوانينها.. فلماذا لا يُفعل القانون الرقابي للإشراف على الكلمات المغناة وتنظيم المسألة بدلًا من منع عام مطلق، قد يبدو في نظر البعض مصادرة على الحريات، ونوع من أنواع الوصايا الأخلاقية التي لا محل لها من الإعراب في عصر العولمة والسماوات المفتوحة وثورة الاتصالات؟!
"90% من كلمات أغاني المهرجانات، والكليبات على اليوتيوب، والكليبات على قنوات الأغاني على النايل سات لم تمر على الرقابة على المصنفات"... تصريح قاله مؤخرًا د.خالد عبد الجليل رئيس الرقابة على المصنفات الفنية، مؤكدًا على ضرورة تعديل القوانين من أجل تواجد عقوبة رادعة للإخلال بالكلمات، والتعديل الذي تم الاتفاق عليه لأن القوانين لم يتم تطويرها منذ عام 1957، إذ أننا – على حد قوله – "نحتاج إلى آليات تتماشى مع التكنولوجيا الحديثة، للسماح بالحرية المنضبطة وتوفير مناخ نقي".
ومن منطلق النظر في كلمات الأغاني، وحالة الدفاع التي نشطت مؤخرًا عن المطرب حسن شاكوش – على سبيل المثال – باعتباره صاحب أغنية "بنت الجيران" المثيرة للجدل، لا سيما بعد غنائه مؤخرًا في استاد القاهرة بعيد الحب وحلوله ضيف رئيسي في العديد من الفضائيات وبرامج التوك شو البارزة، ثم منعه من الغناء بسبب احتواء أغنيته على لفظي "خمور وحشيش"، رغم نجاحه وانتشاره الشعبي والإعلامي، شهد الوسط الفني نفسه جدلًا هائلًا بين صناعه، في هذه المسألة.
فمن جانبها، سلطت الكاتبة والناقدة الفنية ماجدة خيرالله الضوء على زاويا هامة، ربما لم ينتبه إليها أغلب المعارضين للألفاظ التي يرونها غير مقبولة مثل "الخمور والحشيش"، وقالت:" في أفلام زمان، أي واحد زعلان أو مفركش مع حبيبته، بيروح أول بار يسكر.. (الوسادة الخالية) مثلا، وكل ديكوارات المنازل في زمن الفن الجميل كان فيه بار، دلوقت بقي في زمن السينما النظيفة أي واحد متضايق بيلف سجاير، عادي، فيقوم إيه لما شاكوش يقول أشرب خمور وحشيش ييقي ضيّع الأخلاق وهبط بالذوق العام، علي الأقل هو متصالح مع نفسه! مش بينافق المجتمع، ولابيدعي الفضيلة!! هذا ليس دفاعًا عن أحد، ولكن استنكارا للزيف الاجتماعي اللي طفح ع الكل مرة واحدة".
أما النجم أحمد حلمي، فقد ظهر مع المطرب حسن شاكوش وأثنى عليه في فيديو سابق، ثم كشف مؤخرًا عن رأيه في قرار منع أغاني المهرجانات قائلًا: "أي حاجة بتنتشر الناس بتتناولها أو بتسمعها لازم ناخد بالنا منها، أنا مش مع المنع أنا مع التصفية والتنظيم لأن أكيد فيه ناس بتقول كلام حلو، وبيعملوا ألحان حلوة، وناس أصواتها حلوة، وناس عندها مواهب حقيقية".
فيما تعاطف الشاعر الغنائي الشهير أمير طعيمة مع عدد من مطربي المهرجانات وطالب بنصحهم وتقويمهم، لكنه في الوقت نفسه كان له موقفًا صارمًا من "حمو بيكا" على سبيل المثال، وقام بكتابة "بوست" ذكر فيه أمثلة بما تحتويه كلمات أغنياته من تعدي على القيم والأخلاق والدين والأعراف المجتمعية، قائلًا:"اللي هتقروه ده لا ليه صلة باختلاف أذواق ولا تنظير ولا حرام و حلال. دي سفالة وقلة أدب".
أما المخرج السينمائي تامر عزت، صاحب تجربة فيلم "لما بنتولد"، فأضاف بُعدا آخر للمسألة، حين قام بمقارنة كلمات أغاني المهرجانات، بكلمات أغاني الراب الأمريكية التي تشبهها في الجرأة والشتائم والأوصاف الصريحة لجسد المرأة، لكنها لم تؤدِ إلى تدمير المجتمع الأمريكي، بل وحولت بعض مطربي الراب من نماذج مجتمعية فاسدة إلى أشخاص ناجحين نضجوا وتطوروا مع الوقت، وكتب "بوست" شرح فيه وجهة نظرة قائلًا:
"بخصوص أغاني المهرجانات فيه مقابلة أكيد أنا مش أول واحد يطرحها وهي إن أغاني المهرجانات إفراز اجتماعي يشابه في بيئته ونشأته أغاني الراب الامريكية. كتير من مغنيين الراب الأوائل كانوا في عصابات أو لهم علاقة بتجارة المخدرات أو الممارسات غير المشروعة عمومًا، وكان اتجاههم للغناء نوع من الإنقاذ لهم من حياة الجريمة ومن لقاء المصير المعهود للشاب الأمريكي الأسود، الذي ينشأ في ظروف اجتماعية صعبة. الراب كان ممكن يتم وأده في مولده لو الأمريكان كان عندهم نقابة قوية زي نقابة الموسيقيين المصرية.. لأن بجانب الغضب والنقد المجتمعي اللي في أغاني الراب، كان فيه أغاني كتير كلامها فيه شتايم أو بيوصف جسد المرأة بشكل فج، مناسب لبيئة المغني، أو بيمجد الفلوس والمجون عموما. فيه مغنيين راب كتير بقوا مليونيرات وحياتهم اتغيرت وسابوا حياة الجريمة وأثروا إيجابيا في مجتمعهم والمحيطين بيهم بسبب نجاحهم الجماهيري".
تابع: "من ناحية تانية أغاني الراب أصبحت نوع زي الروك والبوب والكانتري. وبقي فيه مغنيين راب في كل الثقافات لأنه بقي نوع فني متخطي لثقافته، وده طبعا بسبب الآلة التسويقية الأمريكية اللي بتقدر تنشر أي نوع موسيقي أمريكي حول العالم مش بس داخل امريكا. لكن كمان بسبب إنه نوع قماشته واسعة ينفع تطويعه للثقافات المختلفة مش زي نوع أغاني الكانتري مثلا اللي من الصعب انتشارها خارج ثقافتها. اكيد فيه انتقادات توجه لأغاني الراب، لكن لم يتم منعها لأنها منتج انساني لا يملك أحد أن يقيم عليه الحد، لأنه فقط من يمتلك ناصية الحقيقة أو الأغنية السليمة. جملة "خمور وحشيش" برغم ركاكتها، فهي من وجهة نظري غير جارحة، ومتقالة في سياق تعبير عن الحب ولكن خارج من بيئته، وبصراحة أغاني المهرجانات (وأنا مش من جمهورها) أكثر فن صادق وبيعبر عن أصحابه، لأن الأغاني التانية فيها قدر كبير من الافتعال والتصنع، خصوصا في الكلمات، اللي خلاني أبطل أركز في كلمات الأغاني إجمالا من سنين طويلة (وطبعا كل شئ له استثناءات). باختصار في رأيي المهرجانات خارجة من الواقع.. لو مش عاجباكم غيروا الواقع مش تمنعوها".
البعض أيضًا استشهد بكوكب الشرق أم كلثوم، حين غنت في بدايتها: "أنا الخلاعة والدلاعة مذهبي" لحن صبرى النجريدي، وكلمات يونس القاضي، مثل الكاتب والقاص د.خالد عاشور الذي يعمل أستاذا مساعدًا بكلية العلوم بجامعة الأزهر، وتحدث عن موروث كبير لدينا من الأغاني الجريئة في الفلكلور الشعبي وتطوره في صعيد مصر بما تحتويه من إيحاءات جنسية، ودلالاتها النفسية كمتنفس طبيعي للكبت داخل المجتمعات المغلقة، مثل: "يا منجد علي المرتبة.. واعمل حساب الشقلبة"، و"وريني شعرك وريني.. لا تكوني قرعة تعريني.. وريني جسمك وريني.. لاتكوني من غير بــ... ز تعريني"، وغيرها من المفردات الجريئة، لكنها على الأقل كانت تُغنى فقط في الأفراح والمناسبات الشعبية، دون أن يتم تداولها في شرائط تباع بشكل رسمي، ولم تكن هناك وقتها عربات "توك توك" تقوم بتشغيلها ليلًا ونهارًا على "فلاشة"، فضلًا عن عدم وجود مواقع تواصل اجتماعي وقنوات على "يوتيوب" و"ساوندكلاود" وغيرهم من المواقع والتطبيقات الالكترونية التي تروج لهذه الأغنيات وجعلت من مطربيها نجومًا معروفين بالاسم، ولهم جمهور عريض يحققون من نسب مشاهدته واستماعه مكاسب تصل إلى ملايين، إلى جانب أن أجهزة الدولة الرسمية المتمثلة في الإذاعة والتليفزيون لم تتبنَ نشر وإذاعة هذه الأغاني، كما لم تستقدم من يغني تلك الأغاني في حفلات رسمية، حين كان هناك وقتها إعلام رسمي مركزي، ولا إعلام أخر سواه، أو حفلات غير التي تقيمها الدولة.
المسألة إذن ليست منع في المطلق، ولا جواز بلا ضوابط، لتبدو كلمة "الرقابة" ووجهها الأخر "القانون"، هي مفتاح الحل، وفك شفرة الأزمة بشكل حتى ولو لم يكن مثاليًا، لكنه على الأقل يحقق الحد الأدنى من التوافق بين المؤيدين والمعارضين، فضلًا عن كلمة أخرى أضافها الكاتب الروائي أشرف الخمايسي الذي قال: "صناع أغاني المهرجانات لم يهبطوا على مصر من الفضاء فجأة، فوجب علينا معاملتهم كغزاة، ومن ثم شد أجزاء الأسلحة وإبادتهم. إنهم نتاج هذا الشعب، وإفراز لا تنفصل شفرته الجينية عن مكون مؤثر من المكونات المصرية.. وعندما أدافع الآن عن حق صناع أغاني المهرجانات في التواجد، فأنا لا أدافع عن هذا الحق إلا من نفس المنطلق الثقافي التنويري البحت. التنوير يعني الحرية، والحرية تعني رفع الوصاية.. الحرية تعني أن تكون أنت قويا، ومعلما قويا، ومربيا قويا، تغرس في من تعوله مبادئ الخير والعدل، تعلمه كيف يستعمل سنارة الصيد، لا أن تضعه في حوض سمك خال من الماء، فيصطاد! الحياة ليست حوض سمك خال من الماء، إنها نهر، أو قل: بحر.. وحتى إن كانت النوعية دي تخدش الحياء العام فعلينا كشعب إننا نتعلم نرفضها، نتعلم نربي عيالنا يرفضوها. يرفضوها بالتجاهل أو بالفهم. إنما ثقافة "عبيلوا واديلو" .. أو ثقافة "القضاء على الشيء بالقوة"، فهي دي نفسها الثقافة اللي بتنتج الأنظمة الديكتاتورية، اللي بترجعوا تشتكوا منها.. الحفاظ على الأخلاق العامة سكته واضحة وضوح الشمس، لكن إنك تكون هش، ومش عارف تربي كويس، ومحتاج بيئة آمنة تماما. زي بيئة الفراخ البيضا . فدي مشكلتك يا صديقي، ويا صديقتي".
مما يُمكن تلخيصه في كلمة التعليم، إلى جوار كلمة "الرقابة" ووجهها الأخر القانون.
اقرأ أيضا:
مش أي رجل... أصالة تتحدث عن طارق العريان بعد الانفصال
صور نادرة- شادية في زفاف ابنة مديحة كامل