من المفارقات الحزينة أن قصة هيثم أحمد زكي إذا أردنا الحديث عنها سنبدأ من حيث انتهى والده، فبالرغم من رغبة الابن في دخول مجال التمثيل وموافقة والده وتخطيطهما لهذه الخطوة مستقبلا، إلا إنه عند وفاة أحمد زكي لم يكن ابنه قد بلغ سن 21 عاما بعد، ولم يتدرب على التمثيل أو يبدأ السلم من أوله مثلما يقولون، بل فجأة وجد نفسه وحيدا، ومطالبا باستكمال دور والده في فيلم "حليم" بعد وفاته بـ 3 أسابيع، لينقذ الموقف، نظرًا لتشابه الملامح القوي بينهما، أي تقديم بطولة مطلقة في أول مرة يقف فيها أمام الكاميرا !!
الأمر اعتبره البعض فرصة ذهبية، لكن هيثم أدرك فيما بعد أنها كانت "كارثة"، لأنه بالطبع لم يكن مثل والده، بل ليس لديه خبرة في المجال أصلا، فانهال عليه النقد والهجوم بضراوة، لكنه استوعب الدرس فيما بعد وأدرك أنهم يعاملونه باعتباره ابن أحمد زكي ويقارنوه بوالده وليس كفنان مبتدئ، فتوقف عن التمثيل لمدة 3 سنوات عانى فيها من الحزن والإحباط، وأصيب باكتئاب شديد، لكنه تغلب على معاناته وانخرط طوال هذه السنوات في دراسة فنون الأداء من خلال ورش التمثيل المختلفة، ليعود بأعمال أقوى وأفضل بعد ذلك.
بالعودة لأرشيف حوارات هيثم أحمد زكي منذ وفاة والده وحتى وفاته هو، لاحظت سؤالا متكررا، إجابته تغيرت بمرور السنوات، السؤال "من هم أصدقاؤك؟ وهل يسأل عنك أحد بعد وفاة والدك؟"، الإجابة في البداية كانت "الكل يسأل عني"، ثم بدأت تتغير بتغير الحال، فمن كان يراهم بصفة دائمة، لم يعد يرى أغلبهم، ولم يكلف أحدهم نفسه ليطمئن عليه هاتفيا.. ليقول في أحد حواراته: "خلاص راح اللي كانوا بيسألوا عليا بسببه"، وربما لولا يسرا ورغدة وبعض المقربين لأصابه الجنون وقتها.
اللافت أنه عاد العام الماضي، وكنت إجابته على هذا السؤال: " لم أجد الدعم من أي أحد ولا يسأل أحد عني حتى اليوم، سوى الملحن ياسر عبد الرحمن، أما باقي الأصدقاء اختفوا تدريجيا بوفاة أبي"، حتى أصدقاء الطفولة الذين كان يتحدث عنهم بعد وفاة والده (ثلاثة فنانين من أبناء نجوم كبار من جيل والده)، لم يعد يظهر معهم أو يتحدثون عنه.
بعد رحيل أحمد زكي حاول الابن أن يمارس حياته الطبيعية، لكنه لم يستطع، فقد حدثت له صدمة نفسية وعصبية كبيرة... "كياني كله انقلب، وحتى الآن أحاول أن أصدق الواقع وأعيشه لكنني لا أستطيع، شعرت بهزة كبيرة ودائما أشعر رغم مرور الأيام أن وفاة والدي كانت بالأمس فقط".
كان يتحدث دوما عن اشتياقه الجارف لوالده، ومدى الوحدة التي عانى منها بعده "أبويا كان بيحميني من أشياء كثيرة لقوته وقوة شخصيته، فالدنيا ليست سهلة، كان ضهري في الدنيا ولم أكن أشعر بقسوة الحياة أثناء وجوده، فعندما واجهت العالم بمفردي واقتربت منه أكثر وجدت دنيا أخرى، وواجهت أشياء كثيرة وصعبة في الحياة، فقد كنت أستمد قوتي منه، وكان مجرد جلوسي أمامه وفضفضتي معه تكفي.. كان يقول لي أنا سايب لك يا هيثم تاريخ فني.. وأبوك راجل محترم".
في الأيام الأخيرة قبل وفاته، كان أحمد زكي يغلق باب غرفته في المستشفى لينفرد بنجله، ويقول له كلاما "لم يقله طوال حياته"، على حد تعبير ابنه بعدها، وفي إحدى المرات جلس يحكي له عن حالته الصحية بالتفصيل وعن تقارير فرنسا وعن وفاته المتوقعة بعد 6 أشهر، كان يعرف كل شيء ولا يدري أحد من أين عرف.. وأثناء حديثه عن مرضه أجهش الابن بالبكاء فقال له: "اثبت.. إحنا رجالة مبنعيطش"، وكان هذا الموقف هو سبب قبول هيثم بالمخاطرة واستكمال فيلم "حليم".
ظل أحمد زكي فترة طويلة في غيبوبة قبل وفاته، وكان السرطان قد وصل إلى عينيه وبدأ مرحلة عدم الرؤية، وفي هذه المرحلة كان يطلب الجريدة ويمثل عليهم أنه يقرأ، وكان ناجحا جدا في ألا يشعر أحد أنه لا يرى، وبذكاء شديد يجعل من في الغرفة يشعر بذلك، حتى في الفترة الأخيرة التي قالوا فيها إن تفكيره تأثر بالمرض، كان ينادي على ابنه ويحكي له ما يحدث في الخارج بالتفصيل، والإحساس كان لديه عال جدا، فابنه يؤكد أنه كان يعرف جيدا من يأتي إلى المستشفى يمثل ومن يأتي كمحب ومن يأتي لمجرد الواجب. وفي آخر لقاء بينهما كان الابن يتحدث مع والده وهو في غيبوبته، رغم تأكيد الأطباء أنه لا يسمعه ولن يتحرك، فكان يقرأ له القرآن ويذكره بمواقف جمعت بينهما، ويبكي بكاء شديدا، ففوجئ وقتها أن والده يرفع يده ويأخذه في حضنه، فخرج مسرعا ليقول للأطباء ما حدث، لكن لم يصدقه أحد !
الوحدة التي مر بها هيثم بعد وفاة والده كانت مؤلمة، كان يصفها بـ"الفراغ القاتل".. (أنا ادمرت نفسيا وعانيت معاناة شددة جدا لا توصف، لا يمكن لأحد أن يتصورها ولا أتمنى أن يمر أحد بما مررت به.. أن تكون وحيدا في الحياة شيء مؤلم جدا، لكن الحمد لله قدرت اتغلب على ده وأقاوم، لأن الحياة صعبة جدا ومبتحبش اللي يستسلم لها).
الأكثر حزنا في هذه القصة، أن هيثم لم يشبه أبيه في اليتم والوحدة والملامح فقط، بل كليهما لم يعرفا قدر محبة الناس الجارفة لهما بعد الوفاة.. "لو كان أبويا عرف إن الناس شايلاله كل الحب والتقدير اللي حصل في أيامه الأخيرة.. كان قدر يتغلب على كل الآلام.. ولو الناس شايفة إني أخدت بطولة في أول دور ليا عشان أبويا وبيحسدوني عليها.. فا دي تجربة ظلمتني أكتر ما فادتني.. ويا سيدي ده رزق.. خد النجومية والبطولة ورجعلي أبويا مش عايز حاجة تاني".
رحمة الله على الأب والأم والابن الذين عانوا من الوحدة والآلام وتركوا الفن للجماهير...
اقرأ أيضا:
مش هعمل فرح كبير وهروح لعمرو دياب... آخر أمنيات هيثم زكي
النيابة: مقويات العضلات السبب وراء وفاة هيثم أحمد زكي