"كامل أمين ثابت" هو اسم غير معروف للكثير من المصريين. ولكن عند ربط هذا الاسم باسم آخر وهو "إيلي كوهين" فقد يتبادر لذهن الكثيرين مباشرةً الصورة النمطية للجاسوس الإسرائيلي التي نشأنا وترعرعنا عليها منذ طفولتنا من خلال مسلسلات الجاسوسية.
وحين قررت شبكة "نتفليكس" الرقمية (بالشراكة مع شركة Canal+ الفرنسية) إخراج شخصية "إيلي كوهين" إلى النور من خلال مسلسل The Spy (أو الجاسوس) – مسلسل قصير من ست حلقات تم إطلاقه منذ أقل من اسبوعين على الشبكة- بدا للكثيرين أن القائمين على هذا العمل بصدد تقديم صورة غير نمطية هذه المرة للجاسوس قد تتدارك به الشبكة إخفاقاتها السابقة في أعمال الجاسوسية المعروضة لمشتركيها. فمن كان يتخيّل أن يتم اختيار ممثل كوميدي هزلي مثل "ساشا بارون كوهين" المعروف بأدواره السينمائية شديدة السخرية (لدرجة تصل في أحيان كثيرة للابتذال جعلته ممثلاً غير مقبول عند الكثيرين خاصة من المحافظين) ليقوم بهذا الدور شديد الجدية الذي لا يحمل أي لمحة كوميدية؟ حتى مواصفات "ساشا" بقامته الطويلة ليست المواصفات التي اعتدنا أن نرى الجاسوس عليها.
ربما فقط تكون الملامح الشرقية لساشا قد لعبت دورًا في دعم لعبه للدور حيث أن "إيلي كوهين" كما يتم تقديمه في الحلقة الأولى من المسلسل ينحدر من عائلة هاجرت من سوريا إلى مصر حيث ولد "إيلي" وأقام حتى غادر مصر نهائيًا بعمر الثالثة والثلاثين إلى أسرائيل. إلا أننا نظل بلا شك أمام اختيار غير تقليدي جعل الكثيرين لديهم الفضول للاطلاع على هذه التجربة متوسمين مشاهدة عمل مختلف عن عالم الجاسوسية.
إلا أن صناع العمل سريعًا ومنذ الحلقة الأولى وقعوا للٍأسف في فخ النمطية والأفكار المستهلكة، وهو ما قد يقبل على استحياء في حالة النجاح في إضفاء بعض المنطقية على الأحداث ولكن للأسف لم ينجحوا في ذلك. تركز الحلقة الأولى من مسلسل The Spy على تقديم خلفية إنسانية لـ"إيلي" من خلال استعراض حياته الأسرية وعالمه في المنزل ومكان عمله، مع إغفال شبه تام لمرحلة ما قبل انتقاله للحياة بإسرائيل رغم أهمية هذه الفترة في تكوينه الذي دفعه ليصبح جاسوسًا. وكعادة دراما الجاسوسية تم تقديم "إيلي كوهين" على أنه إنسان مجتهد في عمله يعاني من عدم القدرة على الاندماج في مجتمعه (بسبب نظرة المجتمع الإسرائيلي له على أنه عربي) بالإضافة إلى كونه شخص إنطوائي غير محب للاختلاط. ولكن في المقابل نرى هذا الشخص الانطوائي العاشق لزوجته الجميلة "نادية" المتيّمة به يتحوّل دون أي مقدمات في الحلقات التالية -بعد أن يتم تجنيده من قبل الموساد الإسرائيلي لجمع معلومات عسكرية عن الجيش السوري- إلى شخص مختلف تمامًا، وهو "كامل أمين ثابت" رجل الأعمال الثري الذي عاش بالأرجنتين ويعود إلى سوريا ليعيد اكتشاف أصول والده.
فهذا الشخص غير القادر على الاندماج في إحدى الحفلات في إسرائيل والذي يفضل الإنزواء وحيدًا تاركًا زوجته الحبيبة مع أصدقاءها يصبح فجأة شخصًا محبوبًا من الجميع قادر على كسب قلوب الجميع وفتح جميع الأبواب المغلقة في ثوان معدودة بفضل شخصيته التي أصبحت شديدة الاجتماعية (وأمواله بالطبع) بشكل غير مفهوم لنا.
لكن ما قد يكون من الصعب جدًا التغاضي عنه عند مشاهدة الحلقات الخمس التالية للحلقة التقديمية هو الصورة الساذجة التي تم تقديم السوريين عليها فنرى الأسرار العسكرية التي ظلت مستعصية لسنوات أمام جهاز المخابرات الإسرائيلية تتكشّف بمنتهى السهولة لـ"كامل أمين ثابت" كما لو كان يملك عصا سحرية يسحر بها كل من يقابله. فمنذ البداية يعثر "كامل" بالصدفة وبمنتهى البساطة على شقة ليقيم بها تطل على أحد مقرات وزارة الدفاع السورية، ثم ينشيء بمنتهى البساطة والسرعة علاقات صداقة تكاد تظن إنها صداقات عمر مع عدد من القادة السوريين الذين يثقون بكامل أمين (أو إيلي كوهين) ثقة شبه عمياء وهم المعروفون بشدة الارتياب والشك في الغير كما يقدمهم قادة المخابرات الإسرائيلية في بداية المسلسل.
تصل الثقة تلك غير المفهومة بقيام مجموعة من القادة العسكريين السوريين بإطلاع "كامل" – دون أن يكون له أي علاقة واضحة بالجيش- على أكثر المواقع العسكرية السورية سرية وخطورة وهي المواقع التي يستخدمها الجيش السوري لشن العمليات الرئيسية التي تقلق منام القادة العسكريين الإسرائيليين. بل والأكثر دهشة هو دعوة "كامل أمين" لحمل سلاح أثناء زيارته لهذا الموقع ودعوته لإطلاق النار على مدنيين إسرائيليين من موقعه هذا كهدية من القادة العسكريين السوريين له قبل أن يسحبوا دعوتهم بداعي أنها كانت مزحة في مشهد شديد السطحية.
حتى عند تدبير "أمين الحافظ" للانقلاب العسكري الذي جاء به رئيسًا لسوريا لم يجد سوى "كامل أمين" – الذي تعرف عليه منذ فترة قصيرة فقط أثناء عمله ملحقًا عسكريًا بالأرجنتين التي مر بها كامل قبل دخوله سوريا لبدء مهمته- لكي يجمع له قيادات الدولة التي ينوي الانقلاب عليها بتنظيمه لحفل كبير بمنزله يتم دعوتهم كلهم له ويتم في نفس وقت تنفيذ الانقلاب والسيطرة على السلطة. ومكافأةً لكامل على ذلك يعرض عليه الرئيس الجديد أن يتولى منصب نائب وزير الدفاع لمجردثقته به وشكه في النائب السابق.
من المفترض أن أحداث "The Spy" مستوحاة من أحداث حقيقية من ملفات المخابرات الإسرائيلية ولكن إن افترضنا أن تلك السذاجة هي مجرد تصوير وتوثيق لمحدودية فكر المسئولين السياسين والعسكريين في سوريا في تلك الفترة وأن ما نراه ليس هو إلا نقل واقعي لما تم في هذه العملية المخابراتية إلا أن ذلك لا يعفي القائمين على هذا العمل – الذي كان من الممكن أن يكون عملاً هامًا بمجهود بسيط- عن مسئوليتهم في تقديم عمل خالي من السطحية ومناسب للعقول المعاصرة حتى وإن تطلب ذلك إضافة تفاصيل قد تكون غير واقعية ولكنها تضفي على العمل بعض من المصداقية المطلوبة في هذه الأعمال.