عندما يبدأ أي فنان في الخروج للنور بما يحمل بين ضلوعه، سواء ترجم فنه هذا على الشاشة أو على خشبة مسرح أو بين صفحات كتاب، فإن أول ما يتبادر لذهنه هو؛ ما قيمة ما أفعل؟
ما الذي سيدفع انساناً لأن يشتري كتابي أو يقطع التذكرة ليشاهد فيلمي؟ ما أهمية وجودي الفني في مقابل كياني الانساني؟ وكيف سأقدم على الخطوة التي تدفعني للخروج بفني من حيز الأصدقاء والأقارب إلى براح الغرباء الواسع؟
أكون أو لا أكون. هل لصوتي صدى ما، أهمية ما؟ أو كما قال ابن رشد على لسان نور الشريف:"أنا بكتب ليه ولمين مادام اللي بكتبه مابيوصلش لحد؟"
من هنا تأتي –في رأيي- أهمية فيلم "سمع هس" للثنائي البديع ماهر عواد وشريف عرفة. حمص وحلاوة، فنانا شوارع، صعلوكان، ينامان على الرصيف أيام، ويقضيان ليلة على فراش متهالك، فيشعران وكأنهما ناما على ريش نعام. يأكلان سمكة بجنيهين، وعندما يغتنيا أيضاً يأكلان سمكة واحدة ولكن بكل ما يملكان من أموال.
زادهما فنهما، والذي لا يحمل سوى المتعة. أغنيتهما اليتيمة ولحنهما الذي ألفاه بمنتهى الذاتية والأريحية عن –ياللعار- نفسيهما:
"أنا حمص حمص يا حلاوة، آخر عفرتة كلي شقاوة، وبقدم نفسي وحلاوة؛ زوجوجتي ونوجة وحلاوة
وأنا هزة وسطي كمان سوستة، أستاذة في الرقص وأسطى، بتجيلي جوابات في البوسطة، بتقولي يا حلاوتك يا حلاوة".
تلك الأغنية هي ما يملكان من فن وأحلام وحب للحياة. لا يستطيعان الحياة بدون أن يقدما ذلك الفن الحقيقي الخالص، الغارق في الخصوصية، لذا كان من الطبيعي، عندما يسرق غندور بك، الفنان الثري –بأمواله- الفقير –عاطفياً وإبداعياً- لحنهما، أن يحيله أغنية وطنية ممجوجة مسفوفة، غارقة في الكليشيهات الفجة والكاريكاتورية، وإن كانت لا تبعد كثيراً عن كثير من الأغاني الوطنية الفعلية والتي تضحك أكثر مما تلهم المشاعر بالحماس، وتعتمد على اجترار شوفينية المستمعين الكامنة، خاصة أوقات التوتر والاحتقان الشعبي، بينما هي أبعد ما تكون عن الفن الحقيقي.
نظرية الفن الرفيع، والفن الهابط، هي نظرية ليست بجديدة، بدأ الجدل عليها منذ النظريات البنيوية/ وما بعد البنيوية في الستينيات والسبعينيات، ولكنها ترجع إلى القرن الثامن عشر حينما قسم مفكروه الفن إلى فن له هدف (حرفي) وفن خلق للتذوق (فن رفيع) فقط ولا هدف منه. تختلف عليها أو تتفق، لكنها دوماً حرب ما بين فريقين، هناك من يري الفن متعة للمتعة، وهناك من يراه يغذي العقول والقلوب ويجعل البشر أناساً أفضل.
بالنسبة لوودي آلان، المخرج الأمريكي الشهير، كل ما عليك فعله عن طريق الفن هو أن تعطي للناس سبباً يجعل الحياة أكثر احتمالاً، ويجعلهم يكشفون الجوانب الجميلة فيها، ولم هي تستحق أن تعاش، لكنك لن تستطيع أن تفعل هذا دون أن تخدعهم.
أما في رأي الكاتب الهندي-البريطاني Hari Kunzru الفن "قد" يجعل البشر أناساً أفضل، لكنه لا ينجح في ذلك على الدوام، وفي نفس المقال الذي نشر في جريدة الجارديان البريطانية بعنوان "هل للفن جدوى؟"، أكد Kunzru على أن نظرية الفن الراق/الفن الهابط high art/low art يجب طعنها في مقتل، فقادة النازية كانوا يستمعون إلى باخ، ويبكون تأثراً بينما يرسلون ضحاياهم لغرف الغاز، ويستمدون من حاستهم الفنية الـ"عالية" تفوق أخلاقي ونخبوية تمنحهم حق تمييز أنفسهم على بشر آخرين، واعتبارهم أقل أهمية وشأناً.
ويمكن قياس هذا بشكل حقيقي على "حمص وحلاو"ة، فقادة النازي يتمثلون في غندور المتغندر، الذي أعطى نفسه الرفعة الأخلاقية والسمو الفني كونه حول أغنيتهم التافهة عن ذواتهم الأكثر تفاهة إلى لحن وطني عميق، تقشعر الأبدان لسماعه، وتلهب الجماهير أيديها بالتصفيق له: "اللحن النهاردة ملك الشعب، ملك الجماهير، ملك الوطن."
هكذا قال غندور موضحاً للزوجين فناني الشوارع مدى تفاهة استبسالهما في الدفاع عن لحن أصبح بالفعل ملكية عامة، خرج من حيز حياتهما التافهة، حمص الشقي العفريت، وحلاوة المزة، إلى أمجاد الوطن ورجاله أشداء السواعد. فكرة شارلي نفسها، عازف البيانولا الأبكم الأشبه بملاك الموسيقى في شبح أوبرا جاستون ليرو، يمكن تأويله على أنه تجسيد للفن ذاته، يستمع إليه أحد فينسجم، وآخر يبغى امتلاكه، بينما يهبه آخران –حمص وحلاوة- حياتهما، طمعاً في الأكثر، الذي لا يستطيع أنه يمنحه لهما، فهو كالهواء والماء ملكاً للجميع.
رومانسية هذا الفيلم تأتي من تمسك فنان الشوارع بحلمه ولحنه وفنه، فلا هو يفكر في تغيير مهنته، ولا حتى أن يغني أغنية أخرى لا تخصه، ومع هذا هو لا يجد دعماً من أحد، حتى الحياة الصغيرة القليلة التي ارتضاها لنفسه، مكتفياً بحلم أن يصل بفنه للعالم كله على استحياء، ليس من حقه التمسك به.
تتم مطاردة حمص وحلاوة من الجميع، الشباب الصايع الذين يتسكعون في الشوارع، صفصف منتج الكاسيت الذي لم ينتج الشريط إلا طمعاً في جمال حلاوة، رجال الشرطة، رجال الغندور، هما دوماً يهربان من شيء ما، ودوماً مطاردين، حتى لو لم يعرفا السبب، هما فقط خلقا للهرب والاحتماء خلف أمل ضئيل أن يأخذهما لحنهما لعالم آخر:
"هاتشوفوا طريقنا مودي لفين... على ما تهل سنة 2000... هانكون فوق فوق فوق فوق... أطول واحد فيكوا هايجي تحت كتافنا كدة بشبرين".
لو تأملنا حتى أسماء الشخصيات؛ حمص، ما أتفهه من اسم! هكذا حمص، كائن ضئيل، فنان شوارع في حجم الحمصة، لا وجود له ولا أثر لوجوده الفني هذا بأي حال. وحلاوة، اسم على مسمى، لكنها أيضاً حلاوة "بلدي"، أبعد كل البعد عن الجمال المتأنق والدلال الذي قد يصل بها للمجد الذي وعدها الغندور به هي وزوجها.
الراوي عفارم على ربابته، يقتحم الأحداث ويعلق عليها من بعيد، راوي عليم، لا يتدخل في الأحداث لكنه يرويها، بدقة وتعاطف واضح مع الزوجين معدومي الحظ، اللذين يتمتعان وأيضاً يشقيان بفطرة الموهبة، ولكن أيضاً بانفصالية عن التدخل لمساعدتهما إلا فيما ندر، ربما يوجههما –كرب من عل- لطريق أو آخر، لكنه لا يساعدهما إذا سقطا.
في المشهد الذي يحلم فيه حمص وحلاوة بنفس الحلم، يبدو الجميع وكأنه يطمع فيهما، في جسديهما المكدودين، يتضح تماماً بالطبع طمع صفصف في جسد حلاوة، لكن الناظر عن كثب لمشهد صراع غندور مع حمص، سيجد أنه تحول من صراع رجلين يقتتلا حتى الموت، إلى مشهد انتهاك جنسي ولو مموه، يعتلي فيه غندور حمص، ويحاول انتهاكه، على خلفية استغاثة حلاوة به بينما ينتهكها صفصف والأشقياء الثلاثة يكبلونها.
إن العالم لا يريد للفنان الصعلوك سوى الفناء، مجرد تواجده يكدر الأمن ويزعج الصفو، فيتكالب الجميع عليه عازمين على تدميره بأبشع الطرق.
في الختام...
عندما توفي الفنان ممدوح عبد العليم، اكتشفت أنه على تنوع أدواره وثراء مسيرته الفنية لم أكن مرتبطة بشكل ما بأي منهم، لم أجد نفسي مراهقة تحلم بعلي البدري وتتابع قصة حبه لزُهرة، ورغم أنني أعتبر فيلم "بطل من ورق" من أعظم أفلام الكوميديا على الإطلاق إلا أن دوره ليس مقرباً مني بشكل خاص.
في حياتك، وبعيداً عن النقد والتحليل، دوماً ما يكون هناك فنان تعتبره فنانك، صديق تخيلي، أو حبيب من طرف واحد (crush) أو حتى خصم مثير في الخيال (Nemesis).
أنا لا أعتبر حمص صديقي ولا حبيبي، لكنني كلما سمعته يبكي مغنياً "هفضل طول عمري صعلوك، صـايع متشـرد بعكـوك … متهـان، غلبـان، وسـط ملــــوك" شعرت بأن هناك من يفهم حيرة الفنان الذي لا يعرف هل صوته يهم حقاً؟ هل هناك هدف لفنه؟ وهل سيظل دوماً هكذا؟ صعلوك بلا قيمة، لا يجد مكان واحد يعرض فيه فنه؛ قطعة روحه التي أهداها للمجتمع فإذا به نهشها بلا رحمة، مسقطاً عليها دراسات أكاديمية وأحكام أخلاقية، ونظريات سياسية، قد لا يحتملها هذا العمل الفني –اللحن البسيط الراقص، الذي خلق للمتعة، وصنع بمتعة- ولم يكن لصانعه هدف سوى متعته هو الشخصية بأنانية الفنان، الصعلوك، الذي رغم إغراقه في ذاتية استعراضه الراقص، يظل آملاً أن يصبح يوماً "فوق...فوق...فوق...أطول واحد فيكوا هايجي تحت كتافنا كدة بشبرين".
المحزن أن ذلك الفنان المجنون، والذي كان وراء هذا العمل وستة غيره، السيناريست الموهوب ماهر عواد، لم يعد على الخارطة. لكنه هو وممدوح وأي فنان آخر أخرج إبداعاً حقيقياً أصيلاً، نابعاً من روحه وليس إرضاء لمطلب أو تحقيق لهدف، سيظل خالداً مهما طال الزمن، خاصة وقدرة الفن على التأثير فينا كأشخاص تتضائل على الرغم من كثرة إنتاج الأعمال الفنية المتقنة، أو أننا أصبحنا كباراً، فلم يعد الجديد يحرك فينا المشاعر كالماضي؟ وهنا يحضرني المخرج المصري أمير رمسيس في ستاتوس شديد العذوبة.