نقلا عن نشرة مهرجان القاهرة السينمائي 41
"أنا أكتب عن امرأة تكتب عن رجل وامرأة لم يصبحا معًا... في بيت لم يعد هناك".. هذه العبارة التي كتبتها "آنا" على حاسبها الإلكتروني الشخصي، توضح الكثير عن الطبيعة السردية ومضمون هذا الفيلم الأرجنتيني "شكل الساعات" للمخرجة "باولا دي لوك"؛ الذي يعتمد بناؤه وسياقه الدرامي على تسييل الزمن ضمن فكرة أساسية تخلد الوقت إذا ما خلدت الذكريات، ليصبح الوقت شيئًا نسبيًّا يعتمد على قراراتنا النفسية ببقائه فينا، فالخلود أن يتوقف الوقت عن المرور، كما ورد في إحدى جمل الفيلم، ليعطي الفيلم شكلًا جديدًا أكثر حرية للوقت، كزاوية وحيلة نفسية ورؤية فلسفية في الوقت نفسه.
"آنا" كاتبة انفصلت عن حبيبها وزوجها منذ عام كما نعلم من مقتطفات سردية، تلتقي به أخيرًا في منزلهما ليوم، تتخلل مشاهد كتابتها لكتاب جديد والتي تصف فيها بجمل مختصرة مجردة ذات عمق، الكثير من الرؤى الداخلية للفيلم وبطلته؛ كل مراحل الفيلم المقسم بدوره لعشرة أجزاء، نتتبع خلالها حكايتها من زاوية نفسية بمراحلها المختلفة بتوقيتات زمن "آنا" النفسي، كما تدور داخلها، بسرد متعرج ذهابًا وإيابًا، حيث يعمل من الداخل ومن الذاكرة، تلك التي لا تعرف الترتيب الصارم أو المنطقي بالضرورة، ليبدو تتابع الأقسام عشوائيًا في نظرته العامة، لكنه متسلسلٌ يبدأ من لقاء جديد، ثم لعالمها النفسي الذي يأخذ عدة مراحل ما بين واقعٍ حاليٍّ مرتبط بالذكرى وبين ماضٍ وذكرى، وصراع مع ذات منقسمة لاثنتين أو ثلاثة، ثم ينتقل لزاوية الحبيب وصولًا لنقطة النهاية ليبدأ من جديد ضمن حالة دائرية كالدوامة وكالكابوس الدائم، فالفيلم يدوّر الزمن ويسيله، يعيد صياغة الأحداث والمواقف التي تتكرر بلا انتهاء بزوايا مختلفة، كدوامية ذهن يصارع التصديق ويرفض الانصياع لخط الزمن وواقعه، فلن تعلم إن كنت الآن أم فيما مضى... هنا أم هناك؟ ما يحدث واقعًا أم خيالًا؟ حتى زوايا السرد ووجهات النظر فيها تتغير.. تنقص مرة وتكتمل، تختلف التفاصيل ببساطة كانتقائية الذاكرة، فيختلف "راكور" المشاهد ببساطة، وتقطع المشاهد بقطعات مونتاجية حادّة ونقلات فجائية منطقية أو تدرج، تنتقل المشاهد من الداخل للخارج فجأة والعكس ومن حالة لحالة، وتقطع الموسيقى الناعمة المسترسلة للفيولين، المثيرة للشجن فجأة، ليصبح فهم الحكاية في النهاية تراكميًّا كالتداعي الحُر، بشكل يبتعد تمامًا عن التناول والسرد التقليديّ لسرد حداثيّ، يعمل في الداخل ويسرد الحكايات من أطرافها فتكشف قلبها.
تنادي "آنا" في البيت الفارغ "فرناندو"، مع تدوير هذا النداء ومشاهده، فقد تركها فرناندو رغم حبهما، لن نفهم الكثير من التفاصيل والأسباب، لكنها شذرات تلقي الضوء على بضعة سطور بين الحكاية، فليس المهم كثيرًا ما حدث بل آثارها التي تعيشها ونفاياتها الاسترجاعية في الذاكرة، نراها تجمع أغراض البيت شبه الخالي في صناديق تضم الذكريات، تحدث المواقف نفسها بزوايا مختلفة، قد تحدث الآن بينها وبينه أو بين صورة ذاتها، ليعيد رؤيتها من بعيد أحدهما، كروح مغادرة أو متذكرة، في تداخلات مستمرة، تكثر لقطات الفوتومونتاج للمنزل الخاوي، والسير بين حجراته، نرى كلًّا منهما في سريره، لتعاد المواقف والسرائر خالية، نرى المراجيح تهتز خاوية وتخلو الأماكن التي ملئت بهما في مشاهد أخرى، إنه سرد يجسد مرارة الخواء وذهوله بقسوة، تكثر انعكاسات صورة آنا في الزجاج والمرايا، لصورتين أحيانا أو ثلاثة، فهي مرة تبدو واحدة وأخرى ذاتها الأخرى وثالثة تبدو تطالع نفسها كزوجة لفرناندو الذي تنتظره، ووسط كل الألوان الباهتة الشاحبة لملابسها وملابسه وبيتهما وحتى البحر رمادي المياه كما يسيل كلّ شيء في بعضه؛ يتكرر مشهد سباحتها بمايوه أحمر في حمام سباحة بحالات وزوايا متغيرة، يعكس رغبتها لإطفاء صراعها المشتعل ونفض عبء روحيّ، تسبح بعنف أو بهدوء، تطفو وتغطس، نرى راقصة تعبيرية في الغابة تعكس معاناة روح آنا، لتواجهها مرة كمرآة لروحها الذبيحة، تركض عادة بين أشجار"الحور" الطويلة كما أخبرها فرنادو باسمها، تريد أن تكتب عنها، إنها كثيفة مرتفعة تملأ فراغات عالمها الخاوي، وربما تضلله، ففرناندو يخبرها عنها مرة أنها تسمى أيضًا بالمزدحمة بالسكان، حيث كان يزرعها حاشية الملوك قليلي الشعبية لإيهامهم بأن الشعب يتبعهم، ليلقي السرد بشكل غير مباشر إضاءات خافتة على منابع أزمتيهما، وفي مشهد جيد الصياغة بعمق شاعري، تستحم آنا في كابينة الحمام ليدخل فرناندو بخطوات هادئة يضع كفه على بابها بما يوحي بحب وشوق يائس، لتضعها بجواره في صمت، ليتكرر المشهد، وحدها، فتضع كفها وحدها، بما يفتح كل الأقواس ليكون المشهد من أساسه خيالًا أو إعادة تدوير منها، فلا شيء يحسم، ولن نجد رواية قاطعة، بل سندخل في متاهة وقت مسيل داخل نفس هذه المرأة التي اعتقلها زمن لا تريد الخروج منه أو اعتقلته هي، أو ربما غادرته وبقيت روحها تعيدُ ترتيله.
اقرأ أيضا:
فى "موزارت يعاد تدويره"... إعادة تدوير النفايات ينتج عنه أرقى الفنون
"جو الصغير"... احذروا من العبث في الجينات الوراثية!