عندما تعرف أن هناك فيلمًا فرنسيًا مشاركًا في مسابقة مهرجان كان السينمائي الثاني والسبعين يحمل عنوان "البؤساء"، لا بد وأن يتبادر لذهنك مباشرة ارتباطه ـ إن لم يكن كونه معالجة ـ لرواية فيكتور هوجو الأشهر. إلا أن مشاهدة الفيلم الروائي الطويل الأول للفرنسي لادج لي تجعلنا نضع يدنا على نقطة تماس الفيلم والرواية: أن أحداث كلاهما تدور في حي "ليو بوسكيت"، الضاحية الفقيرة للعاصمة الفرنسية، وتمنحنا الفرصة أيضًا لإدراك النتيجة المؤلمة التي يصل إليها الفيلم، والتي تابعناها حية على شاشات التلفاز خلال الأشهر الماضية. حقيقة إنك إذا كنت تعتقد أن مشكلات "بؤساء" باريس قد حُلت باندلاع ثورة الحرية والإخاء والمساواة، فأنت لا تعرف شيئًا يا فيكتور هوجو!
بداية مدهشة.. واقع مؤلم
"برولوج" بديع يُطلق لادج لي فيلمه من خلاله: الكاميرا خرجت لتصور استعدادات الفرنسيين خلال يوم نهائي كأس العالم لكرة القدم، من بين عشرات الآلاف المستعدة للمباراة المنتظرة منذ 20 عامًا، يخرج أبطال الفيلم، فقراء لا بوسكيت الملونين، يندمجون بين برج بابل الجذور: أفارقة وعرب وآسيوين وقوقازيين. لحظات الترقب والحماس والاحتفال فرصة مثالية لتكون فرنسا ثلاثية الألوان بحق. الكل واحد يغني "المارسيليز" احتفالًا بكأس عالمية جلبتها أقدام أبناء المهاجرين مع مساعدات لا تذكر من السكان الأصليين، إن جاز التعبير. الكاميرا الحرة التي تسجل مزيجًا من الانطباعات على الوجوه في اللقطات المقربة والحراك الجماعي في اللقطات الكبيرة، تأخذ المشاهد من يده وتلقيه داخل فرنسا المبتهجة، وداخل الفيلم بالتبعية.
إلا إنه ومع إشراق شمس اليوم الجديد، تبدأ حكاية الفيلم التي تدور في يومين متتاليين، يظهر خلالهما أن الوحدة والانصهار وقت المباراة كانا مجرد حدث استثنائي، لا علاقة لها بواقع يراه الضابط ستيفان (داميان بونار) الذي يقضي يومه الأول في فريق مكافحة جريمة الشوارع بحي لا بوسكيت، في يوم ترى رئيسة الشرطة إنه سيكون سهلًا بسبب سعادة الجميع بالانتصار، إلا أن ما يمر به ستيفن مع الضابطين الخبيرين بالمنطقة (أليكسي مانينتي وجبريل زونجا) يجعلنا نوقن بأنه لا سهولة في عالم بمثل هذه المعايير.
يقفز فيلم "يوم التدريب Training Day" تلقائيًا إلى الأذهان، مع طابع أكثر قسوة وواقعية، فصحيح أن الضابطان يمتلكان منطقهما الخاص وهما يتعاملان بشكل أقرب للبلطجة وصراع القوى مع كبيري المنطقة: العمدة الذي يدير السوق والجهادي المتقاعد المسيطر على الإسلاميين المتطرفين، ويعتقدان إن أفعالهما هي الوسيلة الوحيد لحفظ السلم العام في الحيّ، إلا إنهما (خاصة الضابط الأبيض كريس) لا يشعران بأي خطأ أو تأنيب ضمير في أن يكونا محض وغدين. لا مجال هنا للخطب العصماء أو الرؤى الاجتماعية الثاقبة التي كان دينزل واشنطون ينقلها للضابط الشاب إيثان هوك في الفيلم الأمريكي، في لا بوستيك كريس يمارس بلطجة ذات طابع أبوي على فتيات المنطقة ويحطم هاتف إحداهن، ويقول لزميله الجديد إنه "مثل ملكة جمال فرنسا، حلمه أن يسود السلام العالم"!
الشبل الذي يشعل العالم
لا يحتاج الأمر لكثير من العبقرية كي تدرك أن وضع كهذا من المستحيل أن يبقى هادئًا للأبد، أو بالأحرى لنهاية اليوم "السعيد"، وسرعان ما يتأكد الظن عندما يختفي شبل صغير من سيرك غجري جوال جاء ليقدم عروضه في المنطقة، ليشتعل خلاف بين الغجر والسكان يستخدم فيها أصحاب السيرك لفظ "الزنجي" بوفرة تجعل تدخل الشرطة للعثور على الأسد الصغير ضرورة لمنع اندلاع حرب عرقية.
وفي مسار قيام الضباط الثلاثة بمطاردة الخيوط على طريقتهم كي يجدوا الشبل المفقود، تتصاعد الأحداث لتضع توازن القوى ـ وما يترتب عليه من هدنة اجتماعية ـ على المحك، لا سيما عندما تجد الشرطة نفسها لأول مرة مهددة بأن تكون في موقف ضعف حقيقي يكاد يقوّض السيطرة الهشة على الحيّ، موقف يجب ألا يصلوا إليه مهما كان الثمن المدفوع في سبيل ذلك.
تظهر هنا براعة السيناريو، الذي كتبه المخرج لادج لي بالاشتراك مع بطله أليكسي مانينتي وجيوردانو جيدرليني، في الحفاظ على إيقاع متماسك من بداية الفيلم لنهايته، وكأنها محاولة لإلقاء المشاهد في هذا الجحيم الذي يخوضه الضابط الجديد بحذر، ثم يجد نفسه متورطًا بسرعة مفرطة فيما يفوق أسوأ كوابيسه عما يمكن أن يحدث خلال يوم عمله الأول.
الإيقاع هنا ليس عنصرًا سرديًا وجماليًا فحسب، بل هو مستمد بالأساس من حياة هذا الحي، بصخبها الذي يجعل أحداث اليوم فيها تتدفق بلا توقف أو هدنة، كأغنيات الراب التي ولدت في مثل هذه الأحياء، وبثقل الخطر القائم في كل لحظة مسلطًا على رقاب الجميع؛ فلا يهم من تكون أو كيف سار يومك، في أي لحظة من الممكن أن تتعرض دون أن تدري لما يقلب حياتك رأسًا على عقب ويُدخلك في دوامة لا نهائية لم تكن تتخيلها.
وكما يبدأ لادج لي فيلمه ببرولوج الاحتفالات، ينهيه بإيبيلوج منطقي، مستلهم من الواقع، يغلق قوس الفيلم الانقباضي ليضعه أمامنا كقطعة فنية كلاسيكية متكاملة. قد لا تحمل أدواتها السردية ـ ما عدا الاستهلال والخاتمة ربما ـ الكثير من التجديد على مستوى الخطاب والبناء، إلا أن الصدق والتماسك والإيقاع المشدود يجعله أول فيلم كبير تمنحه لنا مسابقة كان 72، في انتظار المزيد من الأعمال الكبيرة.