حتى أيام ماضية قبل انطلاق أيام قرطاج السينمائية كانت قناعتي الراسخة أن السينما التونسية ـ كنظيرتها المصرية ـ مرت بعام أقل توفيقاً من العام السابق فائق النجاح 2016، والذي أطلقنا عليه من قبل " عام السينما التونسية"، لما فيه من نجاحات حققتها أفلام تونسية على رأسها "نحبك هادي" المتوج بجائزتين في برلين و"آخر واحد فينا" صاحب جائزة أحسن عمل أول في فينيسيا. بينما لم تحقق الأفلام التونسية نجاحاً يذكر في 2017 سوى مشاركة "على كف عفريت" لكوثر بن هنية في قسم نظرة ما بمهرجان كان.
الأمر ذكرنا بالسينما المصرية التي افتتحت نظرة ما العام الماضي بفيلم "اشتباك" وتواجدت في مسابقات لوكارنو بفيلمين وفي مسابقة دبي بخمسة أفلام دفعة واحدة شكلت أكثر من ربع المسابقة، بينما جاء الحضور هذا العام هزيلاً جداً بالغياب شبه الكامل عن التواجد الدولي باستثناء فيلمين الأول هو "شيخ جاكسون" فيلم ختام عروض تورنتو الخاصة، و"زهرة الصبار" الفيلم الصغير الذي عُرض في روتردام مطلع العام، واختاره دبي كعمل مصري وحيد في مسابقته، في رقم يكشف الفارق بين عام مزدهر وآخر لم يجد مهرجان القاهرة فيه عملاً يتفق الجميع على مشاركته في المسابقة.
غير أن يومين فقط في تونس كانا كافيين لتعديل هذا التصور المتعلق بالسينما التونسية، وإن كانت المهرجانات الكبرى لم تختر سوى فيلم بن هنية، فإن تواجد الأفلام التونسية ـ كماً وكيفاً ـ في أيام قرطاج السينمائية يؤكد أن المشاركة في المهرجانات هي فقط أحد المعايير، وأن تونس تعيش طفرة حقيقية على المستوى السينمائي خرج فيها صناع الأفلام من الركود النسبي بعد ثورة 14 يناير لرحابة الاستفادة من حرية التعبير ودعم المركز السينمائي الوطني واهتمام العالم بالسينما الآتية من المنطقة، ليرتفع عدد الأفلام المنتجة ومستواها بشكل عام.
37 فيلماً طويلاً أنتجتها تونس خلال العام الحالي. رقم مدهش حقاً خاصة لو علمنا أن مصر صاحبة التاريخ العريق أنتجت 44 فيلماً تم عرضها تجارياً حتى يومنا هذا (بحساب أربعة أفلام عُرضت بشكل محدود في سينما زاوية). أما على صعيد المستوى ـ وهو الأهم ـ فإن ثلاثة أفلام تونسية شاهدناها في أيام المهرجان الأولى أعلنت بوضوح عن سينما نشطة تعيش حالة حراك، تنتج أفلاماً عصرية متباينة الأنواع والأطياف، حتى لو لم يتم اختيارها لـ "كان" أو برلين. وفي هذا المقال سنتعرض للأفلام الثلاثة المقصودة.
حب الرجال - مهدي بن عطية
واحد من خمسة أفلام روائية طويلة عُرضت ضمن قسم "نظرة على السينما التونسية"، بالإضافة لثلاثة أفلام في المسابقة وفيلمين عروض خاصة بمجموع عشرة أفلام روائية طويلة حديثة يعرضها المهرجان. فيلم جريء شكلاً ومضموناً، أخبرني أحد الأصدقاء التونسيين إنه أول فيلم لمخرجه يُعرض داخل تونس؛ فأفلام بن عطية السابقة التي تتناول عادة موضوعات تتعلق بالمثلية الجنسية وتحتفي بها المهرجانات المهتمة بالموضوع لم تجد فرصة سابقة للعرض في الصالات المحلية. معلومة تحتاج لتحقق لكن ما يهمنا فيها هي أن المخرج المعروف بتناول هذه الموضوعات تحديداً لم يعترض أحد على مشاركته في المهرجان أو يطالب بمنعه أو يتهمه بإفساد الشباب كما يمكن أن نتصور إذ ما تعلق الأمر بالعرض في مصر على سبيل المثال.
"حب الرجال" لا يتناول المثلية الجنسية وإن مر عليها بشكل عابر، لكنه فيلم جنساني بامتياز، يطرح في حكايته البسيطة أبعاد الجنسانية كلها (الجنس، الهوية النوع-إجتماعية socio-gender identity، التوجه الجنسي، الإيروتيكية)، عبر حكاية مصورة شابة يموت زوجها فيرعاها والده الذي لا يبدو دعمه لها خالياً من الانجذاب الجسدي، لتبدأ مشروعها في تصوير رجال الشوارع خلال شعورهم بالإثارة الجنسية. حكاية يمكن بالقليل من الخيال أن تصير خطاً درامياً يناسب فيلماً من أفلام البورنو، لكن المخرج يتعامل معها بحذر وحنكة، ليطرح من خلالها فكرة عن موضع المرأة في المجتمع الشرقي، سواء على مستوى تعامل الرجال معها لاسيما عندما تلوح لهم بأفكار جنسية تهدف لإثارتهم، أو على مستوى الفارق المالي الذي يجعلها تسيطر على من تقوم بتصويرهم عبر الدفع لهم، بينما يمكن ببساطة تصور تعرضها للاغتصاب مالم يتدخل البعد الطبقي في العلاقة.
بطلة الفيلم (حفصية حرزي في أداء يتراوح بين الجودة والجمود، وإن استفاد المخرج من صورتها الجنسية في مخيلة المشاهد) امرأة تحمل كل تعقد مشاعر النساء، وقدرتهم على القفز من حالة للأخرى، تدفع الرجال للتعري أمامها بالمعنيين الحرفي والمجازي، فهم يخلعون ملابسهم بالفعل من أجل التصوير، ويخلعون معها جمودهم وتماسكهم ليكشفوا عن حقيقة كون الرجال مهما اختلفوا مجرد صغار يمكن التحكم فيهم بواسطة امرأة قوية وذكية ومغرية.
مصطفى زد - نضال شطا
مذيع راديو أربعيني تعيس، تتداعى حياته ذات صباح. يشك في خيانة زوجته، يحتقره ابنه الوحيد، يُطرد من عمله، يشرخ علاقته بوالدته، ناهيك عن وجع الأسنان الذي يحيل حياته جحيماً. باختصار، يصير على شفا الانفجار الذي لابد وأن يأتي درامياً، ليتخذ موقفاً يحوله بين عشية وضحاها لصاحبة قضية رأي عام في آخر ليلة تريد الدولة فيها ظهور أي قضية: عشية الانتخابات الرئاسية التونسية بين السبسي والمرزوقي!
فيلم جماهيري الطابع يمزج بين القيمة والإمتاع، يذكرنا بحالة "البطل / المجرم بالصدفة" التي نذكرها في "الإرهاب والكباب" على سبيل المثال. يمكن اعتباره نموذجاً للفيلم الكلاسيكي الجيد: سيناريو جيد ومتماسك، إخراج مقتصد يتفهم طبيعة الحدث ومأزق الشخصية، وحكاية متصاعدة يبرع فيها بطل عبد المنعم شويات المتوج بجائزة أحسن ممثل في المهرجان في قيادة فريق رائع من الممثلين (فاطمة ناصر في دور يبدأ صغيراً وتظهر قيمته في نصف الفيلم الثاني، المخضرم توفيق البحري والممثل الصاعد صبري خيري). التمثيل هنا عنصر رئيسي لا يمكن التهاون فيه، فالعمل كلاسيكي كما ذكرنا، والحكاية يحملها شويات ومن معه للمشاهدين، ولو لم يتمكن المخرج نضال شطا من ضبط بوصلة الأداء ونبرة العمل التي تسير بحذر شديد بين الجدية والمواقف ذات الحس الساخر، لفقد "مصطفى زد" الكثير من جودته.
الحقيقة أن مشكلة النبرة ظهرت جزئياً في النصف الأول من الفيلم، وبالتحديد حتى وصول البطل للحظة الانفجار واتخاذه قرار التمرد. قبل هذه النقطة ترنح الفيلم قليلاً بين الجدية والهزل حتى أمسك بنبرته السليمة التي تمزج بين العنصرين، ومن بعدها صار من الصعب أن تخرج من فكاك طرافة ما تراه على الشاشة، والربط بين موقف البطل الذي يحركه شكل الحياة في المجتمع التونسي المتظاهر بالتنفيذ الحرفي لقوانين لا يلتزم بها أحد، بنفس قدر تأثير حياته الشخصية على تصعيد رد فعله، وبين الكثير من تفاصيل حياتك اليومية بغض النظر عن المجتمع الذي تنتمي له، طالما كان أحد بلدان هذه البقعة من العالم.
شرش - وليد مطار
الفائز الأكثر تتويجاً في نهاية المهرجان بحصده أربعة جوائز اثنتين للعمل الأول ومثلهما للسيناريو. تتويج السيناريو هنا أمر منطقي في ظل كون النص الذي كتبه المخرج بصحبة ليلى بوزيد وكلود لوباب هو نقطة الثقل الرئيسية في الفيلم.
النص هنا حداثي لا علاقة له بكلاسيكية "مصطفى زد". "شرش" هو اللفظ العامي التونسي المقابل لمصطلح "ريح الشمال" الآتية من أوروبا. والمقصود هو العلاقة بين أفراد الطبقة العاملة في تونس وفرنسا، وكيف يمكن اعتبارهما ـ على اختلاف الظروف ـ وجهين لعملة واحدة اسمها المعاناة. هيرفي عامل في مصنع فرنسي يتم تسريح موظفيه كي ينتقل المصنع لدولة أقل في التكاليف هي تونس، ليعمل الشاب التونسي فؤاد على الماكينة نفسها بعد نقلها.
بين حلم هيرفي أن يصير صيّاداً وتطلع فؤاد في النجاح المهني كي يتزوج زميلته في العمل، يسير الفيلم كقضبان القطار، متوازيان لا يتقاطعان ـ إلا في لحظة واحدة عابرة ذات دلالة ـ لكنهما يقصدان اتجاهاً واحداً يسير إليه هيرفي وفؤاد رغماً عنهما. اتجاه يحدده عالم يرفض الأحلام الصغيرة بالسعادة، ويضغط بالنظم والقوانين الاقتصادية والاجتماعية والدينية على حيوات لديها بالفعل ما يكفي من المشكلات ولا تحتمل المزيد.
سيناريو "شرش" يجيد رسم شخصيتيه الرئيسيتين، بالتحديد في كون كل منهما بعيداً عن الصورة النمطية للعامل الفقير المظلوم، فلكلا البطلين نقاط جاذبيته وعيوبه الواضحة المرتبطة بمسار خطه الدرامي. مع نجاح المخرج وليد مطار في تجربته الأولى في التعبير عن إيقاع العمل اليدوي اليومي الذي لا ينتهي إلى الشاشة، دون ملل أو تباطؤ، بل بكثير من الطرافة وخفة الظل أحياناً. في عمل لا يعيبه سوى هيئة شخصية العاملة المغوية التي يحبها فؤاد والتي جسدتها الممثلة عبير بناني. الممثلة مناسبة جسدياً وشكلياً للشخصية، لكنها بدت أكثر أناقة في الملبس وطريقة الحركة من مجرد عاملة فقيرة في مصنع، حتى لو كانت ماهرة في جذب الرجال والإيقاع بهم.
في النهاية يمكن القول باطمئنان كامل أن أيام قرطاج السينمائية أثبتت خطأ تصور التراجع في السينما التونسية، بل على العكس هناك حراك دائم وإنتاج لا يتوقف، يقدم سنوياً عدد كبير من الأفلام المتباينة الموضوعات والمدارس والأشكال، أفلام تضع تونس البلد الصغير كل عام في مكان أفضل في عالم السينما العالمية.
طالع أيضا
القائمة الكاملة للأفلام الفائزة بجوائز أيام قرطاج السينمائية 2017
12 فيلما يجب مشاهدتها في أيام قرطاج السينمائية 2017