في مهرجان بحجم كان لا تضم برامجه الرسمية سوى فيلمين عربيين طويلين فحسب، من الطبيعي أن يكون جزء من برنامج أي عربي متواجد هو مشاهدة الفيلمين. بدون حساب "إلى أين؟"جورج نصر الذي تُعرض نسخته المرممة في قسم الكلاسيكيات بمناسبة مرور ستين عاماً على عرض الفيلم في كان. لكن هذا العرض الاحتفائي خارج الحسابات بالطبع.
لا يتبقى لنا إذن سوى الفيلمين المشاركين في مسابقة نظرة ما: "على كف عفريت" للتونسية كوثر بن هنية الذي تناولناه في رسالة سابقة، والجيد إجمالاً رغم عدد من العيوب الواضحة، و"طبيعة الحال" للجزائري كريم موساوي، الفيلم الذي جاء مستواه للأسف محبطاً ومخيباً للآمال.
و"طبيعة الحال" هو الاسم الذي اكشتفناه أخيراً من تترات الفيلم بعدما اجتهدنا وترجمنا الاسم الإنجليزي إلى "طبيعة الوقت" ليصحح لنا الأصدقاء الجزائريين بأن الاسم هو "في انتظار السنونوات" ليتضح خطأ جميع الأطراف، في ظل لوم يجب أن يوجه لصُناع الفيلم الذين لم يشغلوا أنفسهم بتوضيح عنوانه العربي الرسمي للإعلام حتى يوم العرض، واكتفوا بعنوانين بالإنجليزية والفرنسية فقط!
السرد أم شكله؟
كريم موساوي مخرج واعد، شاهدنا له من قبل فيلماً قصيراً بديعاً بعنوان "الأيام الماضية"، شارك في المسابقة الرسمية لمهرجان كليرمون فيران بل وكان أحد أفضل أفلامها. لكن موساوي في فيلمه الطويل الأول يتعثر بصورة غير متوقعة، والسبب كالعادة ـ وكما هو الحال في الفيلم التونسي ـ الانشغال بلعبة السرد بدلاً من السرد نفسه.
"طبيعة الوقت" يقوم على حيلة سردية نكتشفها بعد مضي نحو 25 دقيقة من الفيلم، نتابع فيها حكاية الرجل الخمسيني الذي يجبن عن الدفاع عن شخص يتم الاعتداء عليه، في مدخل قوي للفيلم وإن كان كل مشهد ما فيه أطول مما ينبغي. فجأة وبعد مرور الدقائق الخمس وعشرين، نترك البطل الذي تابعناه وتبدأ الكاميرا في رصد شخصية فرعية من الحكاية الأولى لنتابع حكاية السائق الشاب الذي يضطر لنقل أسرة نفهم لاحقاً أن علاقة كانت تجمعه بإحدى بناتها، البنت التي تجبره الظروف على قضاء الليلة معها.
وبالطبع ننتقل بعد فترة إلى حكاية ثالثة ـ فقد فهمنا اللعبة ـ لطبيب يستعد للزواج يكتشف أن هناك امرأة تتهمه بالمشاركة في اغتصابها، أو على الأقل بعد التدخل بإيجابية لحمايتها من الاغتصاب، قبل أن ينتهي الفيلم بمقدمة حكاية رابعة لشخصية كان من الممكن أن يتابع حكايتها لتسلم الراية لخامسة وهكذا بلا نهاية.
الفيلم الذي يمنح مشاهده شعوراً بأنه أطول بكثير من زمنه المقارب لساعتين، كان من الممكن أن يمتد لساعتين إضافيتين، وكان من الممكن أن ينتهي بعد الحكاية الثانية لو أراد المخرج ذلك، أو كان بالقليل من التباديل والتوافيق أن يتغير ترتيب الحكايات فيه. كلها احتمالات ورادة تخبرنا بوضوح أنه لا يوجد بناء درامي منطق ومتماسك، فالفيلم الذي يمكن إعادة ترتيب أجزاءه دون أن يتأثر هو فيلم يعاني من مشكلة بالتأكيد.
لماذا نجمع الحكايات؟
أي فيلم يفترض فيه الجدية لابد وأن يدرك صانعه تيمته الرئيسية التي يريد أن يرويها في فيلمه. لا نقصد هنا قضية سياسية أو اجتماعية أو أي شكل من أشكال الرسالة أو القيمة الأخلاقية، ولكن نعني الكلمة الواحدة التي يدور حولها الفيلم: الحب، الخيانة، العجز، الفقدان، كلها نماذج لما يمكن أن تكونه تيمة الأفلام.
قيمة هذه التيمة تتضح أكثر في الأفلام التي تتضم أكثر من حكاية على التوازي أو التوالي (كما في "طبيعة الوقت"). المخرج بدلاً من أن يحكي قصة واحدة يمنحها زمن الفيلم كاملاً، يروي عدة حكايات في مدد زمنية أقل، وبالتالي لابد من وجود سبب يبرر وجودها معاً. هذا السبب هو التيمة التي نزعم إنها غائبة أو على أفضل تقدير ضبابية ملغزة في فيلم موساوي.
هل الفيلم يروي عن التصالح الغائب في مجتمع ما بعد عشرية الإرهاب بعنفه وقسوته؟ ربما، لكن هذا ينطبق على الحكايتين الأولى والثالثة، بينما لا علاقة له بالثانية التي تشغل وحدها نصف زمن الفيلم. هل الفيلم يتعلق بالطبقية والفروق الاجتماعية؟ وارد، لكن الحكاية الثانية فقط هي التي تشكل الطبقية فيها عائقاً، أما في الحكايتين الأخرتين هي موجودة في الخلفية لكن دون تأثير يذكر.
من الصعب الوصول للتيمة أو السبب الفعلي وراء حكاية هذه الحكايات، وحتى إن كان موجوداً في ذهن المخرج فهو لم يتمكن للأسف من صياغة ذلك في صورة فيلم متماسك يمكن أن يجذب المشاهد إليه. والنتيجة هي كونه أحد أكثر أفلام المهرجان التي شهدت انصراف المشاهدين من الصالة خلال العرض (لا ينافسه سوى "رودان" لجاك دوايون الذي لم يتوقف الصحفيون عن مغادرته حتى النهاية).
ربما صاغ كريم موساوي بعض اللحظات الطازجة في فيلمه، وأغلبها في الحكاية الثانية خاصة عندما يذهب الشاب والفتاة لقضاء الليلة وحدهما. موساوي حاول أيضاً استخدام مزيج ثري من مختلف الأشكال الموسيقية، راي وروك وسيمفونيات متناثرة ولها حضور مادي مرئي وليس فقط في شريط الصوت. فكرة منحتنا مقطوعات موسيقية ممتعة لكن من جديد ما علاقة هذا بموضوع الفيلم؟ هي مجرد تنويعة لفكرة غياب ما يجمع العناصر ليصنع منها فيلماً.
قد يكون اختيار "طبيعة الحال" للمشاركة في مسابقة نظرة ما خطوة مهنية مهمة في مسيرة موساوي، المخرج الذي أثبت موهبته من قبل بالفعل. لكنه على المستوى الفني كان خطوة للخلف. خطوة يجب على المخرج الشاب تجاوزها حتى لا نفقد موهبة واعدة توقعنا منها الكثير في كان 2017 فخيب الناتج ظنوننا.
اقرأ أيضًا:
خاص - رسالة كان (2): تصريح ألمودوفار يثير الجدل.. وافتتاح مقبول لنظرة ما
خاص- رسالة كان: "أشباح اسماعيل".. افتتاح محبط لدورة احتفالية
"لا تطفئ الشمس"- لا تفوتك هذه المعلومات عن أبطال الرواية قبل مشاهدة المسلسل