لا يبدو نوري بليج جيلان مكترثًا كثيرًا بالحديث. المخرج التركي الذي شاركت أفلامه الخمس الأخيرة في مسابقة مهرجان كان الرسمية، وتوّجت كلها بجوائز رسمية منها السعفة الذهبية قبل عامين عن "سبات شتوي" وجائزتي لجنة تحكيم في رقم يصعب أن يباريه أي مخرج معاصر. جيلان قليل الكلام، يُفضل صناعة الأفلام عن الحديث عنها، وإذا تحدث يفضل أن يتكلم بانجليزيته المتوسطة على استخدام مترجم محترف، لأن ذلك يفقد الحديث حميمية التواصل المباشر.
جيلان تواجد في الدوحة كواحد من أساتذة ملتقى "قُمرة" لتطوير مشروعات الأفلام، ألقى محاضرة ممتعة لمدة ساعتين عن مشواره السينمائي، ووافق بصعوبة بالغة أن يقابل ستة صحفيين من ستة بلدان مانحًا كل لقاء عشر دقائق لا غير. وفي غرفة الحوار بأحد فنادق سوق واقف التراثي، امتدت الفترة المتاحة قليلًا بعد أخذنا الحوار ستة دقائق إضافية، لتكون حصيلة الدقائق الأصلية والمضافة، هذا الحوار مع واحد من أعظم صنُاع السينما المعاصرين.
الناقد أحمد شوقي مع المخرج التركي نوري بيلج جيلان
- سأبدأ بشيء ألاحظه باستمرار في جميع أفلامك، أنت تهتم جدًا بالوجوه، لدي شعور أنك تفضل الوجوه التي تحمل علامات السنين عليها، هل تعني بذلك فعلا خلال اختيار ممثليك؟
لا أعرف حقيقةً، القرارات من هذا النوع آخذها عادة بشكل غريزي ودون التفكير في تفاصيل. لكن ما يمكن قوله هو أني كنت مصورًا فوتوغرافيًا، التقطت العديد من صور البورتريه، وأعرف جيدًا قيمة كل شيء في الوجه، الخطوط والعلامات هي أشياء تلفت انتباهي عادةً عندما أنظر للوجوه، بشكل ما حياتنا كلها مكتوبة على وجوهنا، من العيون وخطوط الوجه بإمكانك أن تشعر بجوهر الشخصية.
- في مصر نطلق عليها "وجوه منحوتة".
أعتقد أنه وصف مناسب جدًا.
- إذا بحثت عن تيمة متكررة في أفلامك فسأقول أنها التواطؤ. هناك دائما شخصيتان أو أكثر تتفق ضمنيًا على التواطؤ حول جريمة أو فعل من أجل تحقيق مصلحة مشتركة. هل هذا صحيح؟
هذه هي الحياة.. ما أريده دائمًا هو التعبير عن الواقع والحياة، ما الذي تتوقعه إذن والحياة كلها عبارة عن تواطؤ مستمر؟
- لكن هذا التواطؤ في أفلامك يرتبط كثيرًا بالسياسة. لا أقول أن أفلامك مسيسة لأنها بعيدة عن ذلك، ولكن السياسة دائمًا في خلفية الأحداث وكأنها تؤثر في حياة البشر وقراراتهم...
طبيعة الوسيط تقتضي أن تكون السياسية في الخلفية، فبخلاف أن متابعة الأحداث الجارية هي وظيفة الصحفي وليس المخرج، ببساطة صناعة الفيلم الواحد تستغرق حوالي ثلاث سنوات، إذا قررت أن تقدم فيلمًا عما يجري الآن في السياسة، ستجد نفسك عند العرض تتحدث عما دار قبل ثلاث سنوات. أنا مخرج يبحث عن الحياة الداخلية لشخصياته، لذلك فتواجد السياسة ينحصر في تأثيرها الاجتماعي، في خلقها سياقًا يعيش في البشر الحياة التي تشغلني.
- في محاضرتك بالأمس لم استطع إلا أن ألاحظ ما ذكرته عن فيلم "حدث ذات مرة في الأناضول"، بأنك ظللت أيامًا تنتظر غياب الشمس كي تصور مشهد اكتشاف الجثة. هذا اتربط في ذهني بما أحبه دائمًا في مشاهدك الخارجية. هناك دائمًا حس كابوسي يسيطر على المشاهد التي تدور خارج المنازل، مهما كانت الطبيعة في موقع التصوير بديعة فالجو العام ينذر دائمًا بكارثة.
هذه أيضًا اختيارات غريزية. لا أقوم بتخطيط الأمور لهذه الدرجة، فقط أشعر بالشكل الأنسب لتقديم المشهد. عندما أصنع فيلمًا أفضل البحث في مكان وحيد هو روحي، هناك فقط أفتش بدقة للتأكد إذا ما كنت أريد أن أقدم هذا أم لا، وذلك ما يجعل الشخصيات تبدو في معظم الأحيان مشابهة لشخصي. لا أعتقد أني أفضل مخرج يقدم تنويعًا في الشخصيات، الناس في أفلامي يشبهون بعضهم، أي يشبهونني في الواقع.
- صنعت أفلامًا شعرية لا يتجاوز الحوار فيها عدة جمل، وفجأة قدمت "سبات شتوي" المكوّن من ثلاثة ساعات ونصف من الحوار الخالص. بماذا تفسر هذه النقلة وما هي علاقتك بالحوار؟
كل ما أردته هو تجربة الأمر. أنا أحب الحوار في المسرح والأدب وفي قليل من الأفلام، وطالما آمنت أنه لابد من وجود طريقة لاستخدام الحوار بشكل سينمائي خالص. هذا كان التحدي الخاص بالفيلم، وأنا أحتاج إلى تحدٍ جديد في كل عمل. صنعت عدة أفلام بحوار قليل لأني ببساطة لم أكن متأكدًا من قدرتي على تقديم حوار سينمائي ناجح، في "سبات شتوي" قررت أن أخوض التحدي، ولو لم يكن الفيلم يحتوي على هذا القدر من الحوار، لا أعتقد أني كنت سأتحمس لإخراجه.
- هناك أمر تمنيت منذ أعوام أن أسألك عنه.. "ثلاثة قرود" كان أول فيلم أشاهده لك، ويومها صدمني مشهد ذهاب الزوجة لرجل الأعمال الثري. حتى هذه اللحظة الأمور تسير وفقًا للتوقعات: ذهبت إليه لتطلب المال لابنها، فأخبرها ضمنيًا أنه سيمارس معها الجنس مقابل هذا المال. لدينا هنا شرير كلاسيكي وسيدة في موقف ميلودرامي. فجأة نكتشف أن هذه السيدة وقعت في حب من استغلها جنسيًا، بل تترجاه ألا يتركها. بم تفسر هذا التصرف الغريب؟ هل فعلت هذا مثلًا كي تبرر لنفسها ما فعلته؟
النفس البشرية غير قابلة للتوقع إطلاقًا. أنت تذهب لمكان وفي نيتك التصرف بشكل ما، ثم تجد نفسك فجأة تتصرف بصورة معاكسة كليًا. تقديري أنها عندما ذهبت لمقابلته لم تكن تتصور أنها ستتصرف بهذه الصورة، لكنها وجدت نفسها تحت قدميه ترجوه ألا يتركها. هذا النوع من المواقف دائمًا ما يثير فضولي لأنه محاولة لتلمس أسرار نفوس البشر العصيّة على التوقع. غالبًا نحن لا نقع في كثير من هذه المواقف لأننا نفرض سياجًا نحمي به أنفسنا. أنا أحاول فهم ما يدور خلف هذا السياج عبر افتراض مواقف كهذا المشهد، كما أحاول مثلًا فهم ما يدور في نفس القاتل عندما يرتكب جريمته، ليس عليك أن تقتل كي تصل لذلك، عليك فقط أن تطلق العنان لخيالك وتجعل السينما تلعب دورها في اكتشاف الإنسان.
- أنت هنا في الدوحة كواحد من أساتذة "قمرة"، تعطي النصيحة لصناع أفلام شباب بالتأكيد منهم من يقدسك ويعتبرك مثلًا أعلى. هل تعتقد أن علاقة من هذا النوع مناسبة كي يستفيدوا منك؟
عليك أنت أن تقدر الأمر وليس أنا، أنت شاب وحضرت المناقشة وبإمكانك أن تقيم النتيجة من وجهة نظرك. أما رأيي الشخصي فهو بالتأكيد إيجابي لأن محاضرات الأساتذة هي الحدث الرئيسي في قمرة. في المهرجانات حتى عندما تأتي بمخرج كبير ليقدم درسًا سينمائيًا يظل الأمر هامشيًا، الأفلام دائمًا في المقدمة وأي شيء آخر هو مجرد نشاط مواز. هنا المحاضرات هي الأساس، يحضرها صناع أفلام يتعاملون مع الأمر بجدية ويطرحون أسئلة مهمة، ناهيك عن قيام مؤسسة الدوحة للأفلام بدعم أعمالهم ماليًا. ما يتم هنا أمر احترافي منظم بعناية، وفكرة لا تجدها كل يوم في مكان آخر.
Tweet to @shawforlife
طالع أيضا
٥ أفلام "لم تنته بعد" يجب أن تشاهدها في ٢٠١٦