ملحوظة المحرر: التقرير نشر لأول مرة في صحيفة "التقرير" الإلكترونية، ٢٥ مايو ٢٠١٥.
تحت عنوان "حلقة من حياة جامع حديد"، فاز فيلم بوسني بجائزتين في مهرجان برلين الـ63، جائزة النقاد للفيلم، و جائزة الدب الفضي لأحسن ممثل عام 2013 من نصيب البطل نظيف موجيتش.
شاهد- الإعلان الدعائي لفيلم An Episode in the Life of an Iron Picker (٢٠١٣)
طالع أيضا- #حكاوي_سيما- أورسون ويلز.. من "المواطن كين" إلى "البورنو"
لم يكمل الراوي باقي حلقات حياة جامع الحديد، نظيف، بنفس النهاية السعيدة للحلقة الأولى.. لكن نظيف تعشّم في الحلقات الأفضل لنفسه ولعائلته.
في عام 2013، تبدأ الحكاية عند المخرج البوسني دانيس تانوفيتش الفائز بجائزة الأوسكار لأحسن فيلم أجنبي عام 2001 عن فيلم No Man's Land من كتابته وإخراجه، الذي سمع مصادفة بحياة "نظيف" وزوجته سينادا وابنتيه التوأم سيمسا وساندرا.
نظيف يعيش في قرية صغيرة قرب مدينة "توزلا" في البوسنة، أغلب سكان القرية من أقلية "روما" الأوروبية، تلك الأقلية التي تنحدر من أصولٍ هندية موزّعون على بلدان وسط وجنوب شرق أوروبا (صربيا، سلوفاكيا، مقدونيا، البوسنة والهرسك، ألبانيا، بلغاريا وكروتيا وغيرهم من البلدان المجاورة).
يخرج نظيف يوميا بجيوب خاوية في رحلة بحث عن شيئين؛ الخشب للتدفئة المنزلية، والخردة لبيعها والعودة ببعض المال.. يبحث في مقالب القرية عن الحديد أو يقطع حديد السيارات القديمة.
في أحد الأيام عاد نظيف لبيته ليجد زوجته الحامل في شهرها السادس تعاني من ألم شديد في البطن. أقلّها في سيارته المتهالكة لمستشفى "توزلا" ليكتشف أن الجنين مات من فترة، ولابد من تدخلٍ جراحيٍ فوريٍ لإنقاذ الأم. ولعدم امتلاكه تأمينا صحيا، فعليه أن يدفع 950 مارك (500 يورو) لإجراء العملية.
يتوسل نظيف لإدارة المستشفى لإجراء العملية فورا وتقسيط المبلغ ولكن المستشفى ترفض.. ليبدأ نظيف رحلته المؤلمة للبحث عن حل.
يكثّف تجميعه للخردة لأيام، ولكنه يعلم تماما أنه لا يمتلك رفاهية الوقت، يستنجد بمنظمات حقوقية ومنظمات الدفاع عن المرأة والطفل، ولكن مجددا الوقتُ ينهش بطن زوجته.
في النهاية تأتيه النجدة من أقارب زوجته حيث تعيره إحداهن بطاقة تأمينها لتستخدمها زوجته وينقذ حياتها.. ليبدأ بعدها رحلة بحث جديدة عن ثمن الدواء.
وبعدما سمع المخرج دانيس تانوفيتش بتلك القصة ذهب لمقابلة نظيف، وطلب منه وعائلته أن يمثلوا فيلما عن قصتهم، أن يجسدوا أنفسهم.
وجاء إخراج دانيس للعمل بسيطا متخذا للطابع الوثائقي، بكاميرا ديجيتال واحدة ممسوكة باليد، وفيلم تزيد مدته عن الساعة والربع ببضع دقائق.
شارك الفيلم في مهرجان برلين وفجأة وجد "جامع الحديد" نفسه مقيما في فندق فخم بالعاصمة الألمانية وله سائق بسيارة ليموزين وسجادة حمراءٌ وأضواء كاميرات.. وأخيرا دبٌ فضي أسمّاه "تيدي".
حين عاد نظيف لقريته الفقيرة وجد يافطة مكتوبٌ عليها "هنا يعيش أحسن ممثل بالبوسنة والهرسك" وأخرى تقول "القرية فخورة بأهلها"، وقوبل باحتفاء شديد من أهله وأصدقائه.
من السجادة الحمراء إلى وسخ القرية
لا أعلم الكثير عن ثقافة القرية في البوسنة، ولكن القرية المصرية تقول "ندهته الندّاهة" عن أمثال "نظيف".. عاد الرجل لقريته وجلس في منزله دون عمل في انتظار أن تنهال العروض السينمائية عليه.
انتظر شهورا دون أن يتقدم إليه عرضٌ واحد رغم إيمانه التام بموهبته الفذة التي اكتشفها المخرج و"صديقه المفضل" دانيس، حاول أصدقاؤه إقناعه بأنه ليس ممثلا.. وأنه حاز على الجائزة لتجسيده نفسه ليس أكثر لكنه لم يقتنع.
وبعد شهور بلا عمل، وبالتالي دون مال، كفر بقريته وبلده وعمله وحتى بصديقه المخرج، الذي كان قد أحبه لدرجة أن سمّى ابنه المولود بعد تصوير الفيلم على اسمه. فقرر الخروج من تلك البلد غير المقدر لموهبته والسفر لألمانيا التي احتضنته وعظّمت موهبته.
ذهب وعائلته لألمانيا، طالبا اللجوء من السلطات الألمانية.. ومَلأ هناك الدنيا ضجيجا بكفره ببلده المجحف وصرح بوضوح أنه يفضل الانتحار عن العودة للبوسنة.
بعد عدة شهورٍ من الإجراءات رفضت ألمانيا طلب لجوءه وصدر قرار بترحيله في مارس 2014.. استنجد نظيف بمن قدّروا موهبته من عامٍ مضى، فذهب لإدارة مهرجان برلين وزاره رئيس المهرجان في مخيم اللاجئين وتكفّل المهرجان بأتعاب محاميه.. ولكن قوانين اللجوء لألمانيا واضحة ورفض طلب لجوءه قرارٌ نهائيّ. لا مفّر من الرجوع يا نظيف!
نظيف في مخيم اللاجئين
رجَع نظيف لقريته بخفي حنين ليجد يافطة "هنا يعيش أحسن ممثل" قد استبدلت بـ"ممنوع إلقاء القمامة هنا!".
حاول أن يعود لعمله كجامع للخردة، ولكن العاملين رفضوه.. أولا لما صرح به في ألمانيا، ثانيا لاعتقادهم بأنه أصبح غنيا بعد فوزه بجائزة "الأوسكار"، كما أخبره أحد البسطاء.. مع العلم أن مهرجان برلين لا يقدم مقابلا ماديا للفائزين.
وانقطعت عنّا منذ تلك اللحظة أخبار نظيف ودبه الفضي.. ربما يجدر بنا البحث عنه حيث تسكن الندّاهة!