انتهت عروض المسابقة الرسمية لمهرجان كان في دورته السبعين، واكتمل عرض 19 فيلماً روائياً طويلاً تتنافس على السعفة الذهبية المرموقة. كنا قد حللنا 11 منها في رسالتين سابقتين. والآن نكمل تقييم أفلام المسابقة للنهاية، لعل رأي جنة تحكيم بيدرو ألمودوفار تتفق معنا في بعض الاختيارات.
إشعاع Radiance (اليابان)
لطالما كانت لناعومي كاواسي، إحدى طفلات كان المدللات، أفلامها الخاصة التي لا توافق ذوق الكثيرين بافتقارها لمعظم أسباب الانجذاب للأفلام عموماً. كاواسي تقدم في كان 2017 على تجربة مغايرة نسبياً: تقديم فيلم مشحون بجاذبية جماهيرية، ربما أكثر مما ينبغي.
حكاية حب في عالم غير مألوف، تنشأ بين امرأة وظيفتها كتابة التعليق الصوتي الذي يصف الأفلام السينمائية لفاقدي البصر، ورجل كان من أشهر المصور الفوتوغرافيين لكن مرضاً أصابه أفقده البصر اللهم إلا من بقايا يميز من خلالها مصدر الضوء بصعوبة. علاقة تبدأ بهجوم قاس من المصور على البطلة في جلسة اختبار لعملها يصفها فيها بإنها فاقدة للخيال لا تصف للعميان ما يعنيه الفيلم السينمائي وصورته، وتتطور بهدوء حتى يصير كل منهما مرآة للأخر: طرف يرى الصورة وطرف يفهم روحها.
نقول أن الفيلم مشحون بجاذبية جماهيرية ليس فقط لموضوعه الصالح لفيلم رومانسي تجاري، ولكن لاعتماد كاواسي الشديد على مؤثرات بناء اللحظة المؤثرة. موسيقى تصويرية رقيقة (وضعها اللبناني ابراهيم معلوف) وبناء شاعري للقطات. اليابانية تستخدم مصادر الضوء الطبيعية لرسم صورة ذات طابع شعري حالم، وتشغل شريط صوت للفيلم يمتلك رهافة سمع الكفيف. لكن الخلطة كلها تبدو سنتمنتالية أكثر قليلاً من المتوقع، وكأنها محاولة مستمرة لاستدرار دموع المشاهد، وهو اختيار ينقص تلقائياً من قيمة الفيلم، أي فيلم.
التقييم: ***
رودان Rodin (فرنسا)
واحد من أكبر إخفاقات المسابقة على كافة المستويات. عندما يُقدم مخرج بحجم جاك دوايون على تقديم فيلم عن حياة نحات فرنسا الأشهر أوجوست رودان، فإن المتوقع كان فيلماً أكثر إحكاماً وإشباعاً بكثير من هذا الفيلم الذي شهد العدد الأكبر من مغادرة الصحفيين للقاعة خلال العرض الصحفي الأول له.
تكريس للصورة النمطية للفنان، غريب الأطوار الذي يقول ويفعل أشياء غير تقليدية، يُطلب منه تمثال لتكريم بلزاك فينحت نسخة مشوهة من الأديب التاريخي، يعامل الجميع بصلف وغرور فهو المبدع وهم فقط يحققون ما يريده، وبالطبع يمارس الجنس مع جميع النساء كمصدر للإلهام، بل وتأتي الفتيات لتخلعن ملابسهن وتأخذن أوضاعاً تلهمه بمنحوتات، وهن يسابقن الزمن كي يأخذونه للسرير، للاستلهام ربما!
لا أحكام أخلاقية بالطبع على ما قدمه دوايون، لكن الأزمة هي تقليدية ما شاهدناه، تقليديته على مستوى بناء شخصية رودان والمحيطين به (على رأسهم كاميل كلوديل بالطبع) بهذه المباشرة والتنميط، وتفككه على مستوى بناء حكاية متصاعدة تحمل شحنة تصل للجمهور. فقط ثرثرة تلو الأخرى وصراع نساء على البطل يليه صراع آخر. لتكون النتيجة فيلم محبط لكل من ترقب نسخة دوايون من رودان.
التقييم: **
المغشوش The Beguiled (الولايات المتحدة)
إحباط آخر للجمهور الأقل عمراً ربما، يأتي من صوفيا كوبولا، أحد أكثر مخرجات العالم إثارة للانقسام بين محبين متيمين بأفلامها، وآخرين يرونها فقاعة صنعها الإعلام والمهرجانات ولقب والدها الكبير فرانسيس فورد كوبولا.
صاحب "ضائع في الترجمة" تعود بفيلم تهكم عليه الحضور من العرب وشبهوه بالفيلم المصري "الراعي والنساء". كيف لا وهو يمتلك الحكاية نفسها تقريباً: الرجل المقاتل المليئ بالذكورة، الذي تدخله الظروف مجتمعاً مغلقاً على سيدات بلا رجال، فيبدأ في غواية كل منهم وتدب بينهم الخلافات والعداوات بسببه.
مشكلة فيلم كوبولا هو أنك لا تشعر بسبب حماسها لتقديمه. أتت بممثلين بحجم نيكول كيدمان وكولين فاريل وكرستين دانست، تلبسهم ملابس زمن الحرب الأهلية، تحركهم ليجسدوا حكاية شوهدت من قبل عديد المرات، بتصاعد أحداث يمكن توقعه من الوهلة الأولى، لينتهي كل هذا دون أن نصل لشيء، لا لحظة تنوير ولا إحالة للحاضر ولا فكرة تزرعها المخرجة في الأذهان سوى المعروف والمكرر: الرجل المغوي يزرع العداوة بين النساء، وتعاونهم يقف في وجه أفعاله. فيلم سريع التطاير تنساه قبل أن تغادر قاعة العرض.
التقييم: **
مخلوق لطيف A Gentle Creature (فرنسا/ ألمانيا/ ليتوانيا/ هولندا)
دعك من هذه الجنسيات الممولة فهو فيلم روسي لمخرج أوكراني هو سيرجي لوزنيتسا الذي يقدم تحفة المسابقة الدولية لدورة كان السبعينية. "مخلوق لطيف" يمتلك حكاية بالغة البساطة، عن امرأة تعرف أن طرد الملابس والأطعمة الذي أرسلته لزوجها المسجون في سيبيريا قد عاد بعدما تم رفضه، فتحاول تكرار الإرسال ولا تجد أمامها سوى أن تقطع الرحلة الطويلة في محاولة لأن تزوره في السجن.
هذه الفكرة البسيطة التي لا يروي الفيلم أكثر منها يستخدمها لوزنيتسا ليشغل ساعتين ونصف من تجسيد عالمٍ مرعبٍ هو المجتمع الروسي. يأخذنا إلى روسيا السفلية، إلى ديستوبيا أبوكاليبتية وكأنها نهاية العالم. الألم والصراخ والذكريات تمتزج بكؤوس الفودكا والغناء والبوح الذي لا يتوقف ولا يشفي من تعاسة. الفرد بلا قيمة في وجه الدولة، وفي أعين من حوله. كل شيء مباح ومستباح، وكل قيمة نادرة الوجود، اللهم إلا التعاسة.
تواجه المرأة الرقيقة بطة الفيلم كل هذا صامتة. ساعتين ونصف من الصمت في مواجهة الألم. تأتي من مخرج لا يكترث كثيراً لفضيلة الاختزال. مخرج لا يجد مشكلة في تقديم مشهد كابوس مدته نصف ساعة كاملة. كابوس لا تبحث البطلة عن مهرب منه لعلمها أنها ستفيق على واقع أكثر رعباً. تحفة نتمنى أن تحمل السعفة الذهبية، لو أراد ألمودوفار ولجنته.
التقييم: ****1/2
وقت طيب Good Time (الولايات المتحدة)
فيلم أمريكي مستقل من النوعية التي يمكن في المعتاد أن يتم اكتشافها في مهرجان صن دانس. الأخوان جوش وبيني صفدي يستلمهان من أفلام السبعينيات ويقدمان روبرت باتينسون بطل سلسلة "توايلايت" في أفضل أداء تمثيلي له على الإطلاق.
سلسلة من القرارات الخاطئة الكارثية يأخذها البطل تباعاً، بداية من إصراره على إخراج شقيقه شبه المعاق ذهنياً من جلسة علاج نفسي كي يشترك معه في عملية سرقة بنك، ثم كل ما يترتب على هذا القرار من مغامرة يخوضها في ليل نيويورك بين مستشفى وعرفة إسعاف وبين يتعرف فيه على فتاة سمراء قاصر تشاركه المغامرة بدافع الملل ربماً.
بالرغم من ديناميكيته وتناثر بعض اللحظات الكوميدية هنا وهناك، هذا فيلم سوداوي بامتياز، سوداوية عبثية على طريقة سيزيف: كلنا نعلم أن قدرات هؤلاء الأشخاص لا تؤهلهم للنجاح أو النجاة، لكننا مثلهم نتعلق بالأمل الواهي، وفي ذلك حنكة إخراجية بالطبع من الشقيقين الذين يجسد أحدهما دور الشقيق المريض عقلياً.
قد لا يكون بين الأفلام الأفضل أو التي تبقى في الذاكرة، لكنه بالتأكيد عمل جيد، ربما يمنح بطله فرصة لأول مرة كي ينافس على جائزة تمثيل عن دور حقيقي.
التقييم: ***
الحبيب المزدوج L'ammant double (فرنسا)
سيقفز ألفريد هيتشكوك في وجهك في كل دقيقة من دقائق "الحبيب المزدوج"، لكن جرأة مخرجه فرانسوا أوزون ستقفز أيضاً قبل ذلك. ليس من السهل ـ حتى في فرنسا ـ أن تبدأ فيلماً بكلوز آب على فحص مهبلي! أوزون يفعلها لتبدأ موجة من الدراما التشويقية النفسية المشبعة بالجنون.
البطلة مارين فاكت (قدمها أوزون بشكل أكثر جرأة من قبل في "شابة وجميلة") تعاني من أزمة تدفعها لزيارة طبيب نفسي، تقع في حبه ويبادلها الحب سريعاً لينتقلا للعيش معاً ويكون عليها البحث عن طبيب آخر، لتكتشف عندها أن لحبيبها شقيق توأم يمارس نفس مهنته لكن بأخلاق وشخصية هي النقيض تماماً.
هل حبيبها مصاب بفصام ويقوم بإدعاء الشخصية الثانية؟ أم إنها هي الفصامية التي تتخيل الرجل الآخر؟ على هذا المستوى هو فيلم نوع واضح المعالم، لكنه ليس مجرد لغز آخر عن التوأم والفصام، بل هو دخول جنوني داخل فكرة الحب والجنس والسيادة بين الأشقاء والمحبين.
كادرات رسمها مخرج جرأته لا تقتصر على الجنس، بل تمتد لخيارات من نوعية مزج نصفي الشاشة بلقطتين كبيرتين للمتحدثين. خيارات تبدو على الشاشة أروع بكثير مما تقرأها على الورق. "المحب المزدوج" إنجازه بصري وسردي معاً، وإن أصابتنا النهاية بكثير من الدهشة، والنهاية شيء بالغ الأهمية عندما نتحدث عن أفلام النوع.
التقييم: ***1/2
في الذبول In the Fade (ألمانيا)
نصف قوة ـ أو ضعف ـ فيلم المخرج الألماني تركي الأصل فاتح أكين الجديد تكمن في تتابعات نهايته، التي كانت محل جدل بين الصحفيين والنقاد منذ عرض الفيلم في صباح اليوم الأخير للمسابقة. ولا نبالغ عندما نقول أن تقييم الغالبية للفيلم ارتبطت بنهايته.
أكين يقدم فيلماً مناسباً للساعة، تجسد فيه ديان كروجر (في أداء استثنائي قد تنتزع به جائزة أحسن ممثلة) شخصية الألمانية متعاطية المخدرات التي تحب موزعاً تركياً وتتزوجه رغم وجوده في السجن، ليخرج ويؤسس مكتباً محاسبياً وينجبان كفلاً يعيشان معه حياة سعيدة كما نرى في تتابعات البداية، حتى مساء تمر فيه البطلة على مكتب زوجها لتكتشف أن قنبلة انفجرت أمامه وقتلت الزوج والابن.
نصف زمن الفيلم تقريباً دراما محاكمات تقليدية عن محاولة إثبات التهمة على زوجين من النازيين الجدد يعلم الجميع إنهما من قاما بتنفيذ التفجير. محاكمات تبرع كروجر فيها رغم تقليدية النص الذي يبدو إنه كان في حاجة للمزيد من التطوير في هذا الجزء. لكن بمجرد أن ينال المجرمان البراءة رغم عدم قناعة المحكمة بذلك، يبدأ التتابع الأهم في الفيلم.
ماذا يفعل المرء إذا ما فقد أحبائه ولم يسعفه النظام القضائي في رد حقه الذي يبدو جلياً للجميع؟ هل ينتقم أم يواصل المعركة القانونية أم يستسلم لحزنه؟ معضلة تدخلها البطلة وتأخذ فيها قراراً كان أشبه بالصفعة في نهاية الفيلم.
التقييم: ***1/2
لم تكن أبداً هنا You Were Never Really Here (المملكة المتحدة)
آخر فيلم تم عرضه من أفلام المسابقة، وأحد أكثر التجارب غرابة وقابلية لانقسام الآراء. المخرج السكوتلاندي لين رامسي يقدم حكاية أشبه بالهلوسة عن قاتل محترف يكلف بمهمة استعادة عاهرة شابة.
ليس الفيلم كما توحي به حكايته، لا حكاية أصلاً بالمعنى التقليدي، بل تقاطعات لا تنته بين حاضر البطل وماضيه وخيالاته، وكأن الأحداث تدور داخل عقله لا خارج جسده. وكأن "لم تكن أبداً هنا" نافذة يفتحها رامسي داخل عقل قاتل محترف لديه عقده من الطفولة.
النجم خواكين فينيكس يجسد الشخصية الرئيسية باختلاف كبير عن أي وقت شاهدناه فيه من قبل. قد لا يتعرف عليه من لم يقرأ عن الفيلم قبل مشاهدته. صياغة جمالية ممتازة على مستوى التكوينات وجماليات القتل والدم إن جاز لنا التعبير. لكنه يبقى رغم هذا فيلماً عسير الهضم. قد تُعجب بمشهد فيه، لكن غياب الحكاية المتماسكة يفقده الكثير من تأثيره.
التقييم: **1/2