يقال إن أفضل أفلام الرعب هى التي تترك لدى المتفرج احساس غير مريح، بحيث يصبح مصدر الخوف والتوجس (ما لا نراه) وليس ما نراه، وهي مقولة أتفق معها جدا.
جمهور سلاسل مثل "المنشار" (Saw) وغيرها من أفلام مدرسة التفاصيل الدموية والصدمات والمفاجآت، لن يتذوق غالبا فيلم "الساحرة" (The Witch) لإعتماده على مدرسة مختلفة. مدرسة التراكم السينمائي البطىء لتكريس فكرة (شىء ما مرعب يحدث). مدرسة تعتمد على الاحساس بالأتموسفير العام الخانق للفيلم، بدلا من الاعتماد على التفاعل المؤقت والفوري مشهد بمشهد. مدرسة تنتمي إلى السبعينات أكثر مما تنتمي إلى هوليوود المعاصرة.
"الساحرة" تدور أحداثه عام ١٦٣٠ في فترة انتشرت فيها حالة هوس وهستيريا بخصوص السحر الأسود والشياطين في أمريكا، بسبب اعتماد وترويج الكنائس لهذا الخطاب. وهى الحالة التي تصاعدت وتسببت لاحقا في محاكمات وحفلات إعدام جماعية، كان أشهرها محاكمات "ساحرات سالم" عام ١٦٩٢.
شاهد- الإعلان الدعائي لفيلم The Witch (٢٠١٦)
الفيلم يبدأ بأسرة يتم طردها بسبب خلافات مذهبية. الزوج المتدين يرحل مع زوجته وأبنائه الخمسة إلى الغابات بحثا عن حياة جديدة، قبل أن تصدمهم مأساة اختفاء طفلهم الرضيع، ويحاصرهم فشل متواصل في التأقلم مع الحياة الجديدة، ليبدأ جو بارانويا وجنون شك بين أفراد الأسرة: هل يوجد ضمنهم شيطان تسبب في هذة اللعنات؟
روبرت إيجرز مؤلف ومخرج الفيلم يسير في هذا الاتجاة أكثر وأكثر، لأن كل فرد في الأسرة يشك أيضا في نفسه بقدر شكه في الأخرين، من شدة تأثره بجو الوعظ الديني الذي تحول إلى رعب وعبء نفسي في هذا العصر. من هذا المنطلق مثلا يشك الإبن في ذاته، لأنه تأمل جسد أخته بشهوانية لثوان.
لعبة الشك هنا تتحرك في اطار مزدوج وشيق: ما الذي يحدث للأسرة؟.. وهل يوجد سبب شيطاني فعلا، أم أن كل ما يحدث سببه أوهام ووساوس ليس الا؟.. لعبة لم يكملها المخرج للأسف، عندما قرر تقديم أجوبة مباشرة للمتفرج في النهاية، بدلا من أن يتركه بعلامات استفهام وشكوك.
طابع الفيلم يجعله جدير بالتصنيف كفيلم رعب في أجواء تاريخية، لكن رغم هذا لا تخلو القصة من اسقاطات عن عالمنا المعاصر. الأقليات والعرقيات المُضطهدة.. الأنثى المتهمة الأولى دائما في المجتمعات والثقافات المتخلفة.. تبرير الأذى والأحقاد في إطار ديني سماوي.. الخ.
إيجرز عمل سابقا لسنوات كمصمم ديكورات وملابس في أفلام بسيطة الميزانيات، وهو ما أفاده هنا بشدة في أول أعماله الروائية كمخرج. التفاصيل حادة في الفيلم. ولأن الطابع سينمائيا كما ذكرنا قديم نسبيا، تجنب أغلب الوقت توظيف الجرافيك والألاعيب الحديثة، ووظف الماكياج والملابس والزوايا البصرية المُرهقة، كحلول أكثر فاعلية ومصداقية.
بصمته ومهاراته تطفو في تفاصيل بسيطة ومبتكرة. عندما تلاحق الكاميرا مثلا لثوان نظرات أرنب أو خروف وسط الأحداث، تتركك اللقطة بتساؤل وشكوك: هل هذا مجرد أرنب أو خروف فعلا، أم أن تلك النظرات تعكس روح شريرة غريبة ما؟
اختار إيجرز ومدير التصوير جارين بلاشكي صياغة الفيلم بصريا بتركيبة ألوان رمادية كئيبة، وتحت اضاءة طبيعية بدرجة خافتة، تجعل الصورة أيا كان وقت الأحداث أقرب للفجر. مع نسبة أبعاد (1.66/1) تخالف النسب العريضة السائدة سينمائيا، وتجعل الاطار أقرب للطابع التليفزيوني القديم الشبه مربع. نسبة أفادت الفيلم في اللقطات الخارجية بالأخص، لأنها جعلت من الأشجار الطويلة والمنزل، أرواح كئيبة ومرعبة حاضرة وسط الأسرة.
الموسيقى التصويرية لمارك كورفين الأقرب للصرخات والأنين منها إلى الوتريات، أكملت منظومة الأرواح الخفية، وانسجمت جدا مع الطابع العام. وازدادت الفاعلية بفضل اختيار المخرج لطاقم تمثيل غير معروف، وهو ما رفع درجة المصداقية. بغض النظر عن مشاركة بعضهم بأدوار صغيرة في مسلسل لعبة العروش.
"الساحرة" فيلم يقتبس الكثير من مدرسة السبعينات. النتيجة النهائية لن تصمد طويلا في الذاكرة، ولا ترقى بالتأكيد لكلاسيكيات من نوعية طارد الأرواح الشريرة The Exorcist - نذير الشؤم The Omen - البريق The Shining لكن تظل أفضل من المحاولات الرخيصة الحالية في سينما الرعب. الملاحظ أيضا أن الدعاية رفعت سقف التوقعات لدرجة أحبطت نسبة كبيرة من المتفرجين.
بقى أن أذكر أن جودة الفيلم تم إنهاكها في مصر مرتين للأسف:
١) بسبب حذف الرقابة لمقطع كبير من مشهد النهاية لاحتوائه على درجة من العُري. مشهد يمثل الذروة ولا يجوز نهائيا قطعه.
٢) بسبب وجود عشرات من المتفرجين المصممين على نسف تجربة المشاهدة، بإطلاق تعليقات سخيفة طوال الأحداث. تخيلت أن السبب سوء حظي الشخصي في أحد العروض، لكن الملاحظ أنها شكوى عامة لأغلب من شاهدوا الفيلم طوال أسبوعه الأول. مشكلة مستديمة كفيلة بإعدام متعة فيلم يعتمد بالأساس على تركيز المتفرج في أجوائه.
والسؤال المطروح: متى يتعامل كل فرد من الجمهور بدرجة من الاحترام لباقي الموجودين في القاعة، ويدرك أن تجربة المشاهدة في السينما، تجربة مختلفة تماما عن مشاهدة الفضائيات في مقهى؟.. تجربة لا يجوز معها الضوضاء المستمرة والتعليقات السخيفة المتبادلة.
أسئلة بائسة متكررة، والمؤسف أن أغلب التجارب في قاعات السينما المصرية منذ التسعينات، تشير إلى حراك منتظم من سيء لأسوأ في هذة النقاط. الكثيرون للأسف على درجة من انعدام التحضر، لدرجة تجعل متعتهم لا تتحقق، إلا بإفساد متعة المشاهدة للأخرين.
باختصار
بداية واعدة من المؤلف والمخرج روبرت إيجرز، في فيلم رعب لا يعتمد على الصدمات الرخيصة، بقدر ما يعتمد على خلق جو وايقاع منضبط. لولا النهاية التي حطمت خيط مشوق وقدمت إجابات مباشرة، لأصبح للفيلم وزنا أكبر.