ربما يعد مسلسل FRIENDS هو نافذة العالم العربي لمعنى كلمة سيت كوم (Sitcom).
وهو أيضًا أحد ركائز الحركة الفنية الشعبية (Pop Culture) في التسعينيات، بعلاقاته المتشابكة خصوصا علاقة بطليه روس وراشيل، إضافة إلى تأثير فتاته الذهبية جنيفر أنيستون على نساء العالم بأجمعه، واللاتي تدافعن لمصففي الشعر بعد أن أطلت بقصتها المميزة في الموسم الأول، وقد أمسكن مجلات الموضة والفن مطالبات الكوافير بأن "يقص شعرهن كما راشيل في فريندز".
كل محب لفريندز يرى في نفسه أحد الأبطال المحبوبين؛ هناك الفتاة المدللة راشيل، وهناك مونيكا المهووسة بالنظام والنظافة، وهناك ساحر النساء محدود الذكاء جوي، وهناك روس شديد الذكاء والرومانسية، وهناك تشاندلر بمزاجه السوداوي الساخر وانصياعه التام لحياته مهما كرهها دون محاولته أن يغيرها.
لكن هناك فيبي. وهي شخصية تجمع كل ألوان الطيف. امرأة تكتب أغانيها بنفسها، وتغني off key و off tone ومع هذا هي مؤمنة بأن صوتها رائع، وأنها حتى عندما لا يسمعها أحد فهي مطربة رائعة، وهي لا تنتظر منهم الكثير. فيبي هي النموذج الذي يجب أن يحتذي به المصريون جميعًا، فهذه الفتاة التي قتلت أمها نفسها بينما هي في الرابعة عشر من عمرها، وسجن زوج أمها، فعاشت في الشارع مع المهمشين والمجذوبين، وقضت عيد ميلادها السادس عشر مطاردة من رجل سايكو أراد قتلها، تتحدث عن هذه الذكريات لا بحرقة ومحونة، ولكن بأريحية تامة وعدم اكتراث، ففي الوقت الذي تتكلم فيه راشيل عن صعوبة استقلالها ماديًا بعيدًا عن أموال والدها وهي في العشرينيات، تتكلم فيبي عن استقلالها بينما هي في الرابعة عشر بعد انتحار أمها، وتختم جملتها بـ “I know exactly how you feel”.
فيبي هي تلك الصديقة التي يتمناها أي انسان. فهي لن تحكم على أي من أفعالك، وهي ستكون قد رأت ما فيه الكفاية من الحياة، فلن تجعلها فضائحك أو مواقفك المحرجة تندهش أو تعيد تفكيرها في صداقتكما. لن تشعر أبدًا بالملل مع فيبي، فهي لن تكون فيبي وكفى؛ يومًا ما غيرت اسمها ل Princess Consuela Bananahammock وتمنت لو ناداها أصدقاؤها ب Valerie، إضافة إلى قرينتها Regina Phalange، والتي استوحت اسمها الأخير من عظام اليد (phalanges)، وهي مفارقة مضحكة وشديدة الخصوصية لامرأة مثل فيبي، عقلها يموج بآلاف الخيالات والشخصيات، وقلبها يتسع لآلاف المشاعر التي لم تتعلم السيطرة عليهم حتى مع تطور شخصيتها أكثر فأكثر على مدار سنوات عرض المسلسل العشر.
فيبي أيضًا انفعالاتها عفوية وأحيانًا أكبر من الموقف بكثير، ففي الوقت الذي تكون فيه شديدة البساطة وهي تتحدث عن إصابتها بال hepatitis لأن قوادًا بصق في فمها تصرخ بهستيريا في مونيكا صديقتها فقط لتتخذ قرارًا. فيبي، رغم كونها لم تتلق تعليمًا أكاديميًا بالمعنى المتعارف عليه، إلا أنها تتحدث بلغتين على الأقل إضافة إلى الإنجليزية، وتتقن مهارات حياتية تجعلها street smart أفضل من مائة رجل في شلتها.
فيبي تختلف عنا في أنها لم تقتل ذلك الطفل الذي وأدناه جميعًا بينما نكبر. هي الوحيدة التي تمسكت به، وشملته بالرعاية، وأطلقت له العنان، فلم يعرف معنى حكمة الكبار، وأهمية النضج، وحياء المرأة أو "تمنعها وهي ترغب". عندما تحب فيبي فإنها تخبر من تحب بذلك، وعندما تقرر التجريب فهي تمارس الحب مع من تشاء، لا تعرف ما يجب أن يقال أو لا يقال للأطفال فتغني لهم أغاني عن الكبار، وتعبر عن رأيها بصراحة فيما يحدث في حيوانات المزرعة –نظرًا لكونها نباتية- وتحكي للأطفال عن الموت وازدواج التوجه الجنسي كل هذا من خلال أغنياتها شديدة الغرابة والكوميديا. لا تأخذ فيبي نفسها بجدية كمطربة أو عازفة، وحتى المهن، فهي ترفض سلك العمل المعتاد وتقرر أن تصبح مدربة مساج فريلانسير، وتصبح هذه هي مهنتها الأهم، حتى يأتيها عرض من سبا فاخر يوفر لها تأمين صحي وتأمين اجتماعي، فتلقي بقناعاتها جانبًا وتقبل الوظيفة. هناك تلك المرونة التي نفتقدها جميعًا.
حتى في قناعاتنا المختلفة عن الآخرين. ترى الذي يختار طريقًا مختلفًا كالنباتية مثلًا في مجتمع يقدس اللحوم بطريقة دينية أحيانًا، يتعامل مع قناعاته بنوع من الصريخ الزاعق، تصبح وسيلة أخرى ليظهر بها تفوقه الأخلاقي والانساني. يثير الضحك والشفقة أكثر من الإعجاب. لكن فيبي، المدافعة الأولى عن الحيوانات، حتى المهمشين منهم، فيبي التي تربي أسرة من الفئران مما يكاد يدمر حياتها وزوجها، والتي تشعر بالأسى كونها قتلت جيشًا من النمل بطريق الخطأ، نكتشف أنها يومًا عندما اكتئبت بعد الطلاق أكلت هامبورجر بالجبنة، هذا غير تلقيها عشاء سي فود مجاني وتحمسها لقبوله، مع استنكار صديقتها مونيكا.
في مرة تخبرها راشيل –التي تعترف بأن ليس لديها أي مبادئ- أنها تحترم فيبي كونها متمسكة بمبادئها، لكننا نحترمها أيضًا كونها لا تستخدمهم للتعالي والتسخيف، حتى وهي تجادل أصدقاءها ولا تتفهم اختلاف وجهات نظرهم، فهي بسيطة مرحة تلقائية، أبعد ما تكون عن مكابرة، مستفزة، مملة. فيبي أيضًا لا تقف أمام شيئًا لا تعرفه، هي تحاول اكتشاف العالم بنفس براءة وسذاجة وفضول طفلة في السادسة. لكنها أيضًا لا تتعامل مع قناعاتها بجدية، هي لا تأخذ العالم بجدية تامة، ولا نفسها بجدية تامة. حياتها في الشارع علمتها أنها موجودة وكفى، وعلمتنا أن نعشق تلك الضحكة المفتعلة أو الحماس لأداء أي شيء حتى لو لم تفهمه.
تؤمن فيبي بما تريد ولا تؤمن بما تريد، ولا يهمها ما يراه الآخرون مسلم به، كنظرية التطور مثلًا، على عكس إيمانها حتى الكبر بأن سانتا كلوز حقيقي. هي تؤمن أيضًا بتناسخ الأرواح، وتدعي أنها تسمع أصواتًا في رأسها، وربما هذا ما حثها على البقاء في أوقاتها المظلمة والتي لم نرها لكننا شعرنا بها. حتى مع شخصية فيبي المرحة، في مقابل سوداوية تشاندلر اللاذعة مثلًا، كنا نعرف أنها عانت الكثير، وإن دفعها هذا لحب الحياة أكثر. هذا غير المال الذي لا تعتبر له قيمة أبدًا، وتعتبر أن تلقيها أموالًا دون استحقاق شيء سخيف، فتهديه لامرأة بلا مأوى تقابلها في الطريق، لحسرة صديقتها راشيل والتي ترى أن هذا المال كان من الممكن أن يصبح "شوبنج" جيد.
فيبي هي الجواد الغير مروض في فلك حياة الأصدقاء الستة. هي بيتر بان حقيقي، بلا رتوش أو استنفار لعواطف ميلودرامية لا داع لها، عندما تحمل، تزداد مشاعرها المهيبرة "هيبرة"، ولا تملكين سوى أن تحبيها، فقد تكونين في يوم من الأيام مثلها، هستيرية مبالغ فيكي وتتمنين لو وجدتِ إلى جانبك من يساندك ويتقبل غرابتك مثلما تقبل الأصدقاء غرابتها. حبنا لفيبي، رغم كوننا أقل غرابة منها بكثير –أو لنكن صرحاء، لا نعرف هل نحن أكثر أم أقل غرابة لأننا لم نجرب أن نعبر عن أنفسنا بتلك الأريحية واللامبالاة- إلا أننا نشعر بها سفيرة لنا في عالم يكاد يدفع الجميع ليكونون مثاليين.